يتم التحميل...

القضاء كأساس لحماية القانون

إضاءات إسلامية

يُعتبر القضاء من الركائز المهمّة في حماية القانون ومنع الناس من التطاول على حقوق الآخرين، فوظيفة القوة القضائية في المجتمع الإسلامي هي مراقبة تنفيذ القوانين بشكلٍ صحيح في المجتمع وإقفال الطريق أمام الانحراف والتمرد،

عدد الزوار: 18

يُعتبر القضاء من الركائز المهمّة في حماية القانون ومنع الناس من التطاول على حقوق الآخرين، فوظيفة القوة القضائية في المجتمع الإسلامي هي مراقبة تنفيذ القوانين بشكلٍ صحيح في المجتمع وإقفال الطريق أمام الانحراف والتمرد، وبالإضافة إلى قبول المحاكم الإسلامية لبعض قوانين الأمم المتقدّمة التي وصلت عبر الأديان السماوية وبذل العقلاء جهوداً في هذا المضمار، فإنها سنّت بعض الأنظمة والدساتير التي تحافظ على حقوق السكّان، فعلى سبيل المثال فإن يكن هناك وجود لأصل اسمه المسؤولية المدنية للجرم في أصول المحاكمات عند المخاصمة في العالم: "يعتبر الإسلام أول من بنى هذا المفهوم الحقوقيّ، وإذا اقترف شخص أيّ جرم فإنّ ذلك يستلزم جزراً مالياً على الآخرين، فالمسؤولية المدنية توضح وتشخّص هذا الضرر الماليّ، ويُعتبر هذا التفكير الحقوقي الخاصّ من المبادئ التي وضعها وسنّها القضاء الإسلاميّ"[1].
 
ويُنتخب القضاة من وسط العلماء الذين وصلوا إلى حدّ الكمال في العلم وفهم القوانين الإسلامية واستفادوا من التجربة والخبرة والشجاعة والمزايا الأخرى لحلّ التخاصم.
 
في التمدّن الإسلاميّ كانت فئة القضاة من الذين يتمتعون بمرتبة عالية في العلم والقدرة بغضّ النظر عن بعض القضاة الذين لم يكونوا منصفين، إلّا أنّ القضاة بشكل عامّ كانوا من أصحاب القدرة والشجاعة والإنصاف ولا يميّزون بين الأغنياء والفقراء في أحكامهم، وفي التمدّن الإسلاميّ نرى الكثير من القضاة يسوقون بعض الحكّام إلى قاعة المحاكمة كغيرهم من السكّان العاديين.
 
في التمدّن الإسلاميّ هناك الكثير من القضاة أمثال القاضي حفص بن غياث الذي وقف بكلّ شجاعة وصلابة في وجه رغبات حاشية المنصور الدوانيقي في بغداد، ولم يستطع أحد أن يمنعه من النطق بالحقيقة، هذا القاضي عاش في هذه الدنيا فقيراً ورحل عن هذا العالم عزيزاً[2].
 
في العهد الإسلامي شهدت الأندلس أيضاً نظاماً قضائياً مستقلاً وقوياً، فكان القضاة أمثال القاضي سليماني الغافقي هم الذين يراقبون ويدققون في مجريات كافة الأحداث وكانوا يقولون للحكام بكل وضوح: نحن لا نقبل أي تدخل أو توصية من أحد وليس لأحدٍ حق النفوذ علينا سوى قاضي القضاة[3].
 
وفي عهد الدولة الفاطمية في مصر كانت الأمور كلّها تحت نظر القاضي، وكان كافّة العاملين في الأمور السياسية والمالية وأصحاب المقامات التنفيذية يرفعون إليه تقاريرهم العملية ويجيبون عن كافّة الأسئلة الموجّهة إليهم من القوّة القضائية.

كان علي بن النعمان أوّل من لُقّب في مصر بـ(قاضي القضاة)، وكان قد كتب في نظامه القضائيّ: كلّ الأمور خاضعة لمراقبته في النظام القضائيّ في مصر، كانت كافّة الآراء والدساتير تُدوّن وتُسجّل وتودع في مكاتب خاصّة[4].
 
وفي عهد حكومة السامانيين، نظّم السامانيون في مختلف أرجاء البلاد ديواناً خاصّاً لإدارة المنطقة، ويشتمل هذا الديوان على مكاتب عديدة لمختلف الوظائف والمراجعات، وفي هذا المكان يوجد مكانٌ خاصٌّ للقضاء، وكان الأمراء السامانيون يختارون أفراداً من بين الفقهاء المعروفين بالعلم والتقوى لمراقبة وتدقيق الدواوين والمكاتب الأخرى.
 
ومن القضاة المشهورين والمعروفين بالعدل والإنصاف ووضع القوانين في مدينة بخارى، القاضي سعيد بن خلف البلخي، وهو الذي نظّم تقسيم المياه المبعثرة في مدينة بخارى ومنع اعتداء أصحاب النفوذ والقدرة من التعدّي على حقوق الفقراء والمزارعين وغيرهم.
 
يقول أبو ذرّ البخاريّ وهو من أعرف العلماء: كثيرون الذين كانوا يحاولون أن يقدموا له رشوة بطريقة مخفية أو ما شابه، لكنّ هذه الشخصية لم تتلوّث بأيّ شيء، بل كان عدله وإنصافه يظهر أكثر فأكثر يوماً بعد يوم.
 
وكذلك القاضي أبو الفضل المرزوي أيضاً الذي لم يتناول أيّ ذرة حرام من أحد، وفي عهده عمّ العدل والإنصاف على يديه[5].
 
وفي عهد آل بويه كان القضاة يملكون سلطة مستقلّة في ميدان عملهم في مراقبة أمور البلاد والحدّ من الفساد والتمرّد ولم يعطوا لمسؤولي القوى التنفيذية حقّ التدخّل في أعمال المحاكمات ووضع القوانين: طلب القائد العسكري أسفار بن كردويه من عضد الدولة أن يقول للقاضي: إذا استشهد أحد ان يزكّيه ويقرّ له بالعدالة ويتقبل شهادته. أجابه عضد الدولة: هذا الأمر ليس من شأنك، عملك أنت أن تتحدّث في الأمور العسكرية أمّا اعتباره عادلاً وشهادته مقبولة فهذا أمر مرتبط بالقاضي، ولا يحق لي ولا لك التحدث بهذه الأمور[6].
 
وكذلك كان هناك تفتيش خاصّ وواضح في حال عصيان أحد القضاة، ويُعاقب المنحرف منهم عقاباً شديداً ويطرد من عمله. ففي عهد قضاء الصاحب بن عباد كتب رسالة قضائية للقاضي عبد الجبّار مؤلّفة من 700 سطر شرح فيها قوانين العمل ومبادئ المحاكمات وشرح بعض الموارد الغامضة في القانون، وكان لهذه الرسالة المحكمة من الأهمية ما جعلها دستوراً استفاد منها كافّة العاملين والقضاة في الدولة الإسلامية[7].

وفي عهد السلاجقة كانت دائرة عمل القضاة واسعة، فعُهد إلى إدارة الأمور القضائية الأوقاف والأموال المجهولة المالك وإدارة المدارس وإدارة الأمور الحسبية، وفي ذلك العهد بذل القضاة المقتدرون جهوداً لمنع وصول الفقراء إلى التسوّل والخيانة، وقاموا بمواجهة الظلم والتزييف بكلّ قوّة واقتدار.

جاء في رسالة السياسة للخواجة نظام الملك: وكانت سلطة القضاة تفوق سلطة الملك، ومقامهم ومنزلتهم ينبغي أن ترقى إلى حدّ الكمال، ولهم حقّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن قوانين المملكة أنه يجب على الملك وأعوانه تقوية القاضي، ونتيجة لذلك يسود العدل ويندر وجود الفقراء والمحتاجين[8].
 
وكان العلماء الشجعان حماة القانون في أيام المغول وتيمورلنك وما بعد ذلك، وكانوا يقفون بقوّة في وجه من يريد كسر القانون، وعلى سبيل المثال نذكر العالم أبا بكر التاييدي والعالم مسيح الدين ساوه من العلماء الأتقياء ومحبي أهل البيت ومن أهل الشجاعة والعزم، وكانا يناشدان الحكام لمنع أي ظلم أو اعتداء[9].
 
وفيما يرتبط بالمؤسّسات القضائية، ففي عصر التمدّن الإسلاميّ تمَّ إنشاء عشرات المؤسّسات كديوان المظالم، وديوان الأمور الحسبية والقاضي العسكريّ، وديوان النقابة، وكان لكلّ واحدة من هذه المؤسّسات حقّ المراقبة في الأمور القضائية الخاصّة بها.
 
* روضة المبلغين (4) – 2015م، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


[1] نهاد دادرسي در اسلام، (تأسيس المحاكم في الإسلام)، محمّد حسين ساكت /55، آستان قدس رضوي. (مصدر فارسي).
[2] قاموس الرجال، علّامة محمّد تقي تستري، ج3/591، مؤسسة نشر اسلامي، وابستة به جامعة مدرسين.
[3] نظام الدولة والقضاء والعرف في الاسلام، د.سمير عالية /298، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت.
[4] نهاد دادرسي در اسلام /91.
[5] تاريخ بخارا، (تاريخ بخارى)، أبو بكر محمّد بن جعفر نرشخى، ترجمة أبي نصر قبادي، تلخيص محمّد بن زفر /7،6. (مصدر فارسي).
[6] الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج9/21، دار صادر بيروت.
[7] لسان الميزان، ج4/349.
[8] ديدار با اهل قلم، ( لقاء مع أصحاب الأقلام)، غلا محسين يوسفي، ج1 /129، دانشكاه فردوسى مشهد، به نقل از سياست نامه. (مصدر فارسي).
[9] لغت نامه دهخدا، ج11/17369.
 

2025-01-18