يتم التحميل...

المجاهدون وإحياء الليل بالعبادة

الربيون عطاء حتى الشهادة

في سياق تعداد أمير المؤمنين عليه السلام لخصائص ومواصفات شيعته الخلّص يقول عليه السلام: "ذبل الشفاه من الدعاء، صُفر الألوان من السّهر"[1]. إذاً من جملة خصائص هؤلاء الشيعة الخلّص لأمير المؤمنين عليه السلام هي إحياء الليالي وقيام الأسحار والرجوع إلى ساحة الرحمة الإلهية.

عدد الزوار: 1284

في سياق تعداد أمير المؤمنين عليه السلام لخصائص ومواصفات شيعته الخلّص يقول عليه السلام: "ذبل الشفاه من الدعاء، صُفر الألوان من السّهر"[1]. إذاً من جملة خصائص هؤلاء الشيعة الخلّص لأمير المؤمنين عليه السلام هي إحياء الليالي وقيام الأسحار والرجوع إلى ساحة الرحمة الإلهية.
 
والتعبوي المجاهد اليوم - واقتداءً بإمامه ومولاه علي عليه السلام - عليه أن يكون من الذين يُحيون الأسحار ويأنسون بالذكر والدعاء، والعبادة والمناجاة. فيُسمع في السَّحر أنينه وبكاءه، ويُشاهد تضرُّعه وخشوعَه أمام العظمة الإلهية وفي محراب العبادة.
 
ومن هنا يمكننا أن نفهم عدداً من المفاهيم الواردة في القرآن الكريم: كالدعاء، المناجاة، والبكاء من خوف الله تعالى. إنّ القرآن يمدح فئة مؤمنة تخرّ ساجدة وباكية عندما تُتلى عليها آيات الله خشية وهيبة، قال تعالى: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾[2] وفي آية أخرى ورد هذا الوصف لأهل الإيمان في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾[3].
 
وفي آية ثالثة ورد وصف لقوم يسجدون - بدون اختيار- عند سماعهم للآيات القرآنية: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾[4].
 
فهذه الآيات تشير بوضوح إلى: أن عباد الله المخلصين، صلاة ليلهم متصلةٌ بسجود صباحهم. لكن، وللأسف، لقد أصبحت هذه العبادات والعادات متروكةً في أيامنا، وقليل هم الذين يُوصِلون صلاة ليلهم بسجدة صبحهم! بل إنَّ الذين يقضُون أسحارهم بالقيام والسجود هم قلّة قليلة.
 
فلننظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام حيث يبيّن لنا معنى المجاهد التعبوي، ويعطينا ضابطةً لمواصفات ذلك الشّخص بأنّه حاضرٌ دائماً في ساحة المعركة بسلاحه الملقّم، فالمجاهد جاهزٌ في أية لحظة للجهاد والقتال في سبيل الله. ويُستفاد ذلك من قوله عليه السلام: "سلبوا السيوف أغمادها"[5].
 
لكن في المقابل، يلفت أمير المؤمنين عليه السلام نظرنا إلى ليل المجاهد، فالمجاهد هو من أهل البكاء والعبادة في محراب المعشوق، يتلذّذ بمناجاته وينفرد بخالقه لذكر حوائجه وأمانيه. هذا ما أراد أن يُعلّمنا إيَّاه أمير المؤمنين سلام الله عليه من حقيقة المزج بين جنبة المقاتل العسكريّ في شخصيّة المجاهد، وجنبة الإيمان والعشق المشرقة في روحيته وشخصيَّته.
 
إنّ هذه الفكرة المشرقة والجميلة عن صفات وخصائص هؤلاء المجاهدين، هي التي جعلت اللسان الشريف للإمام عليه السلام يتحرّك للحديث عن مقام هؤلاء بمثل هذه الكلمات الراقية: "ألا بأبي وأمي هم من عدة"! فهذا هو حبه الشديد لهم، لدرجة أنه يفديهم بالأب والأم والروح.
 
لقد كان في التاريخ نماذج مشرقة لهؤلاء المجاهدين، لا سيما المجاهدين أثناء الحرب المقدّسة التي خاضها هؤلاء العظماء في إيران، حيث تأجّج العشق لله فيهم فصنع منهم رجالاً له تعالى، ملأوا الساحات بحضورهم المعنوي الكبير.
 
لقد كان الشوق لله تعالى عندهم عظيماً، حتى أن بعضهم كان ينذر النذورات له تعالى، ويقيم العبادات الشاقة كي يمنّ الله عليهم بوسام الشهادة المقدّس.
 
ومن باب المثال: لقد كان المجاهدون التعبويون يأتون، ولمدّة أربعين ليلةِ أربعاء، أو ليلة جمعة، من طهران إلى مسجد جمكران في قم المقدّسة (التي تبعد أكثر من 120 كلم)، وحاجتهم فقط أن يُستجاب دعاؤهم للالتحاق بركب الشهداء.
 
وفي سياق حديثه عليه السلام عنهم، يقول: "ذبل الشفاه من الدعاء"[6].
 
فالإكثار من الدعاء، والمواظبة على الذكر، أذبلت شفاههم، وأصفرت ألوانهم من تعب قيام الليل وإحياء السحر بالعبادات والمناجاة.
 
ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام بعد بيان تلك الخصائص والمميّزات للمجاهد التعبوي: "أولئك إخواني الذاهبون"[7]، فتعبيره عليه السلام بأنهم إخوانه، تعبيرٌ عالي المضامين، لأنَّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يعاني من ضعفِ وعصيانِ وعدمِ وفاءِ وخذلانِ من كانوا يتواجدون معه وحوله، لذلك قارن عليه السلام بينهم وبين أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأوفياء بقوله عليه السلام: "لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما أرى أحداً يشبههم منكم، لقد كانوا يُصبحون شُعثا غبراً"[8].
 
ثم يقول عليه السلام: "وقد باتوا سجّدا وقياما يُراوِحُون بين جباههم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم"[9].
 
ثم ينطلق أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته، ذاكراً خصائص وصفات أنصار وأصحاب الرسول قائلاً: "كأنّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذُكر الله هملتْ أعينهم حتى تُبلّ جيوبهم. ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب"[10].
 
إنّ الذي يلاحظُ بوضوح من خلال هذا المقطع، أنّ الإمام علي عليه السلام يستهدف إبراز الجانب المعنوي والروحي في شخصية هؤلاء المجاهدين، لذلك لم يذكر صفاتهم الجسدية والقتالية، والسر في ذلك، أنه يريد أن يشير إلى حقيقة دور ارتباط المجاهد بالله سبحانه وتعالى وإلى أهمية هذا الارتباط في تكوين الشخصية الحقيقية للمجاهد الإلهي.
 
فلولا هذا الارتباط الحقيقي بالله تعالى، ولولا اتصافهم بهذه الصفات الإيمانية والعبادية لم يكن ليرى المسلمون تلك الانتصارات الكبيرة في صدر الإسلام.
 
ونحن اليوم أيضاً إذا ما قضينا الليالي باللهو واللعب، والكلام والثرثرة، وقطعنا ارتباطنا بالله تعالى، فسوف لن نرى مجدّداً أي انتصارات.
 
فلهذه الصفحة النورانية المميّزة، أي الارتباط العشقي بالله تعالى، صدرت آهات الشوق من صدر أمير المؤمنين عليه السلام شوقاً لرؤيتهم، ولذلك يقول عليه السلام: "فحق لنا أن نظمأ إليهم ونعضّ الأيدي على فراقهم!"[11].
 
إنّ كل هذه الصفات التي جرى بيانها على لسان الإمام علي عليه السلام، كانت واضحة ومعروفة لدى الشباب المجاهد في أيام الحرب على إيران. إن الصحاري والجبال لا تزال تردّد أصداء بكائهم، وألحان أنينهم شوقاً إلى لقاء الله تعالى. ولا يزال الأمل أيضاً، بالشباب المجاهدين اليوم، أن يحافظوا على هذا الإرث الإيماني والمعنوي الكبير.
 
* الربيّون عطاء حتى الشهادة، جمعية المعارف الإسلاميّة الثقافية


[1] نهج البلاغة، الخطبة: 121.
[2]  سورة مريم، الآية 58.
[3] سورة السجدة، الآية 15.
[4] سورة الإسراء، الآية 109.
[5] نهج البلاغة، الخطبة: 177.
[6] نهج البلاغة، الخطبة: 177.
[7] نهج البلاغة، الخطبة: 177.
[8] نهج البلاغة، الخطبة: 97.
[9] م.ن.
[10] م.ن.
[11] نهج البلاغة، الخطبة: 121.

2024-05-24