كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في محفل الأنس بالقرآن الكريم
2024
بتاريخ 12/03/2024م.
عدد الزوار: 178كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في محفل الأنس بالقرآن الكريم، بتاريخ 12/03/2024م.
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا، أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، الهُداة المهديّين المعصومين، [ولا] سيّما بقيّة الله في الأرضين.
أهلاً وسهلاً بكم. بحمد الله كانت جلستنا اليوم متضمّنة لكلّ شيء؛ جلسةٌ جيّدة جدّاً وكاملة وشاملة. وأنا أُعرب عن شكري من الصميم، سواء للمُنظِّمين، أو للمضطلعين بدورٍ في هذه الجلسة البهيّة والحافلة بالمعاني والجميلة للغاية؛ أولئك الذين تلوا [القرآن]، وأولئك الذين قدّموا أداءً، أشكر كلَّ واحد منهم.
لحسن الحظ، إنّ تلاوة القرآن؛ التلاوة الصحيحة وفق قواعد وضوابط القراءة، آخذة بالتوسّع يوماً بعد يوم في البلاد. ولعلّه لم يمرَّ يوم إلا وشكرت فيه أنا العبدُ اللهَ المتعالي على هذه النِّعمة العُظمى. إذ دائما ألحظ على التلفاز أحد القرّاء المحترمين - وبعضهم أيضاً حاضر ههنا - أو عدداً من المرتّلين منكبِّين على التّلاوة؛ فأجلس وأُنصتُ مستمتعاً وأحمد الله. وقد مُنِح لنا هذا ببركة الثورة، وحينما نقارن بلادنا مع الدول الإسلامية الأخرى، وأنا الآن لا أستطيع أن أقول بنحو حاسم ولا أملك إحصائيات دقيقة، ولكن تَصوّري أنا العبد هو أنّ عدد القرّاء ذوي القراءة الحسنة والصحيحة في بلادنا ربما يكون أكثر من جميع الدول الإسلاميّة؛ قد يُستثنى بلد واحد خارج هذه القاعدة العامّة، وإلّا فسائر الأماكن في العالم، كما نسمع ونرى أحياناً، لا يصلون إلى [مستوى] شبابنا، وإليكم أيّها القرّاء الأعزاء وقرّة أعيننا.
ينبغي التوصُّل إلى قيمة وعظمة تلاوة القرآن من عظمة القرآن. انظروا في القرآن نفسه؛ بأيّ الألقاب وبأيّ الأوصاف عُرِّف القرآن. وقد دوّنت أمثلة عدة على ذلك: «القرآن العظيم»، «القرآن الكريم»، «القرآن المبين»، «القرآن المجيد»، «القرآن الحكيم»، «القرآن شفاءٌ»، «القرآن رحمةٌ»، «القرآن نورٌ»، وأوصاف من هذا القبيل. وإذا أضفى اللهُ المتعالي الذي هو معدن العظمة، ومنشأ العظمة، وخالق العظمة، صفة «العظيم» على شيء - ﴿وَالقُرْآنَ العَظِيمَ﴾[1] - فمعناه أنّه بمنتهى الرِّفعة، وبمنتهى العُلوّ، وقيّمٌ للغاية. وهذا هو الذي تتلونه أنتم! القرآن أسمى وأرفع من كلّ ما خلقه الله المتعالي تحت السماء؛ هو «الثَقَلُ الأكبر»، تأمّلوا في الأمر! «إِنِّي تارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَين»[2]؛ الثَقَل الأكبر - «الثَقَل» معناه الشيء النّفيس - والمقصود هو القرآن، [الثقل الثاني] أي أئمّة الهدى (عليهم السّلام)؛ الأنوار الطيّبة، والمنوّر بنورهم عالم الوجود بأكمله، إنّهم في الرّتبة اللّاحقة بعد القرآن. القرآن هو الثَقَل الأكبر؛ وهذا كلام بمنتهى الأهميّة. فكيف نتعامل مع القرآن؟ إنّكم أنتم الذين تتلون القرآن، كلّ واحد منكم يا قرّاء القرآن، أنتم رُسُل العرش الإلهي إلينا نحن الأرضيّين؛ هذا هو معنى تلاوة القرآن. أنتم تبيِّنون لنا مضمون الكلام الإلهي؛ وكلّ واحد منّا كان له قلب، فإنكم تنزّلون هذا القرآن على قلوبنا. وكلّ واحد منّا كان له سمع، فإنّ آذاننا تستفيض بسماعكم. فاعرفوا قيمة أنفسكم.
حسناً، [هناك] عدة نقاط سنتوقف عندها؛ إحداها أهميّة تلاوة القرآن. هذا وإنّ عظمة القرآن أمر له دلالته الخاصّة، واشتمال القرآن على المعارف النورانيّة من الطراز الأول في العالم له خصوصيّته أيضاً، [لكن] قراءة القرآن بحدّ ذاتها [أمرٌ] قيِّم. فالله المتعالي يأمر أعظم موجودٍ خَلقَه؛ أعني الوجود المقدَّس للنبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) أنِ اقرأ [القرآن]! ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرآن﴾[3]، ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾[4]؛ ينبغي عليك أن تقرأ القرآن، وينبغي أن تتلوه. ﴿[وَ]اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ﴾[5]، ﴿[وَ]اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ﴾[6]؛ [فالله] يأمر الرسول بالتلاوة. إحدى واجباتنا هي تلاوة القرآن. وبرأي هذا [العبد] الحقير، ينبغي على كلّ أحد في العالم الإسلامي ألّا يمضي عليه يوم دون قراءة آياتٍ من القرآن؛ علينا جميعاً أن نتلو [القرآن].
وقد قلت مراراً أنا العبد في مختلف الجموع، [لنقرأ] كلّ ما أمكننا: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾[7]؛ فبعضهم يقرأ خمسة أجزاء في اليوم، وبعضهم يقرأ جزءاً واحداً في اليوم، وبعضهم يقرأ حزباً واحداً في اليوم؛ إن لم يكن بمقدوركم ذلك، فاقرؤوا صفحة أو نصف صفحة في اليوم [لكن] اقرؤوا. ينبغي أن يُتلا القرآن.
في هذا الكلام الذي أوردناه، القراءة والتلاوة من أجل قلب القارئ، غير أنّه لا يقتصر على ذلك؛ فكما ينبغي على قلب القارئ أن يتنوّر بتلاوة [القرآن]، أيضاً ينبغي على قلب المجتمع أن يستضيئ ويتنوّر بتلاوة القرآن. يقول الله المتعالي لرسوله: ﴿وَقُرْآَناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ﴾[8] - ويوجد آيات كثيرة أُخرى تحمل المضمون نفسه- أي اقرأ على النّاس أيضاً؛ فهذا هو عملك. نحن نقرأ القرآن في المنزل لأنفسنا، وأنتم تقومون بعمل أسمى، أنتم تقرؤون القرآن من أجل الناس، وتتلون على الناس؛ وهذا قيّم للغاية. فاعرفوا قيمة أنفسكم، وقدّروا قيمة عملكم.
النقطة الأخرى هي مسألة التدبُّر المهمّة. ينبغي قراءة القرآن بتدبُّر. ولا شك أنّ للتدبّر درجات. والتدبّر يعني الوصول من الظاهر الأنيق للقرآن إلى الباطن العميق له: «ظاهِرُهُ أنيقٌ، وَباطِنُهُ عَميقٌ»[9]؛ وهذا الظاهر هو جماليات عملكم هذا، وألفاظ القرآن نفسه، والجماليّات الخاصّة بالقرآن. والباطن العميق هو ما يُنال بالتدبُّر. فحينما تُمعنون التفكير والتدقيق والفهم في الموضوعات المتعلّقة بآية أو كلمة من القرآن الكريم ستتوصّلون إلى معارف ومفاهيم أكثر؛ هكذا يكون التدبّر. ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ﴾[10]؛ إنّه [هكذا]، أي إنّ الكتاب أُنزل أساساً من أجل التدبُّر، ومن أجل الفهم. وكل هذه الأمور الأخرى إنّما هي مقدّمة للفهم. وثمّة نقطة موجودة ههنا. حينما يقولون لنا تدبّروا، فمعناه أنّ الله الذي هو خالقنا، يعلم أنّنا نملك القدرة على الوصول إلى ذلك العمق، وإلّا لَما قالوا تدبّروا. فأنْ يقول الله المتعالي تعمّقوا في القرآن، معناه أنّه بمقدوركم ذلك، ولديكم هذه القابلية للتعمُّق في القرآن.
طبعاً على الجميع أن ينتبهوا إلى أنّ التعمُّق في القرآن يختلف عن التفسير بالرأي، ويختلف عن فرض الآراء الشخصيّة على القرآن، ويختلف عن الاعتماد على المعارف الشخصية الناقصة وقصيرة النظر؛ وهنالك شروط إذا ما سنحت الفرصة، أشير إليها أيضاً.
ومن الأمور المهمّة فنّ التلاوة. وهنا أقول: لحسن الحظ كانت التلاوات اليوم جيّدة جداً؛ أي أغلب التّلاوات في جلستنا هذه هي جيدة. وقد شوهدت اليوم أنماطٌ وتحبيرات جديدة من هؤلاء الشباب الذين دخلوا، والحمد لله، [مجال تلاوة] القرآن، ووضعوا أقدامهم في طريق تلاوة القرآن؛ لقد كان أداء فتيتنا الأعزاء أداءً جيداً، وللإنصاف فإنّ قراءنا الأعزاء أدّوا التلاوة بنحو جيد جداً.
التلاوة فنٌّ، لكن ما يميّزه عن الفنون الأخرى هو أنّه مقدّس؛ «فنٌّ مقدّس». هذا أمر جيد للغاية؛ فبالإضافة إلى كونها فنّاً -وأسمى الجماليات التي تصدر عن ذهن الإنسان تسمّى فنٌّ- فإنّها أيضاً تحظى بالقُدسيّة، والمسألة الأساسيّة هنا أنّ هذا الفنّ وكلّ تحبيراته وأنماطه -وأنتم أهل هذا الفنّ، وملتفتون إلى هذه الأنماط والتحبيرات- أدوات ووسائل. أدوات لأيّ شيء؟ أدوات لإيصال المعنى.
قلت في العام الماضي وفي مثل هذا المحفل إنّكم حين تتلون [القرآن]، ما الذي تريدون فعله؟ تريدون إبراز القرآن، أم تريدون استعراض أنفسكم؟ هذا هو المهم. بديهي أننا ضعفاء؛ أن نضع أنفسنا جانباً بالكامل، ونحذفها، ونضعها خلف ظهورنا، فهذا مما لا يتأتّى من الناس الضعفاء من أمثالي أنا العبد، لكن فلننتبه في الحد الأدنى إلى أن الهدف الأساس هو تقديم القرآن، وإذا برزت «الذات» أيضاً إلى جانبه فلا بأس، ولكن يجب أن يكون القرآن هو الواجهة؛ وهذا ما يخلق تمايزاً كبيراً في نوع تلاوتكم. ومن الملاحظ في مواضع كثيرة أنّ القرَّاء الكبار المعروفين والموجودين بيننا، لا تظهر مسألة استعراض الذات في تلاواتهم. افترضوا أنّ تكرار [الآيات] جيّدٌ في مواضع، وضروريٌّ في مواضع أخرى؛ لكن كم من التكرار؟ أنا أستمع لتلاوة، والآية التي لا يوجد حتّى أيّ ضرورة لتكرارها، يكرّرها القارئ عشر مرات! فما معنى هذا؟ معناه أنّ هذا القارئ خبير جيّد بالموسيقى، ويمتلك صوتاً جميلاً أيضاً، ويريد أن يتلوها بأشكال مختلفة. [فمثلاً] ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ﴾[11]؛ بديهي أنّ ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ﴾، لا تحتاج إلى تكرار؛ فافترضوا الآن أنّها [تُكرّر عشر مرات، لكن لا دليل] لتكرارها عشر مرّات. وإنّي أقول عشر مرات، لربما [كان] تسع مرات مثلاً. ولقد أحصيت [المرات]، هكذا... تكرار فتكرار فتكرار! وهذا ممّا لا ينتظره المرء من القارئ؛ يجب ألّا ننسى هذا. فالقرآن إذن فنّ بحدِّ ذاته.
نعم، القرآن بحدّ ذاته أثرٌ فنّي ربّانيّ وإلهيّ، إنّه أثر فنّي. حسناً، أَدركَ الأشخاص من ذوي الرأي والدقّة والتدبّر بشكل تدريجيّ أموراً من زوايا وخبايا هذا الأثر الفنّي على مرّ التاريخ، ومنها أنّ القرآن ينطوي مثلاً على فنّ التصوير، أي إنّه يُصوّر الأحداث. [مثل] هذا الكتاب الذي دوّنوه: التّصوير الفنّي في القرآن . عندما يحاول القرآن التعبير عن العديد من الأمور، عن مشهد معيّن، مشهد يوم القيامة على سبيل المثال، انظروا بأيّ عبارات متنوّعة ومتعدّدة يجري تصوير القيامة ومشاهدها وساحتها للإنسان، أو تصوير ساحة الجهاد: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً (2)﴾[12]. هذا تصوير، إنّه يصوّر لنا المشهد. يمكن القول إنّهم ركبوا الأحصنة، واتّجه الفارس نحو الميدان، لكن أن يُقسم [الله] في هذه الآية بذاك الحصان الذي يلهث، ويُقسم بذاك الحصان الذي يصطدم حافره بالصخرة ويُحدث شرارة على سبيل المثال، فإنّه يُصوّر هذا المشهد.
جاء وصف المنافقين في هذه الآية الشريفة من سورة البقرة: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾[13]، هذه الصورة بُعدٌ من أبعاد المنافق؛ هذا المنافق الذي آمن في البداية نتيجة الحماس. ﴿اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾، [لكن] كان هناك مرضٌ في قلبه أدّى إلى أن يسلبه الله هذا النّور: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾؛ إنّه يُصوّر، وهذه الصّورة [تُعبّر] عن بُعد من أبعاد الشخص المنافق. ثمّ [يعرض] فوراً بُعداً آخر: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾[14] وهذا أيضاً كان بُعداً آخر من أبعاد المنافقين. «الصيّب» هو المطر الغزير. حسناً، المطر رحمة لكن إلى جانب هذا المطر، هناك الرّعد والبرق، فيخاف هذا [الشّخص]. هناك الظّلمات، فيخشاها. لا ينتفع من مطرها، ويخشى رعدها وبرقها أيضاً. كما جاء في سورة «المنافقون»: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾[15]. يعرض هذه الأبعاد لدى المنافق، لاحظوا كيف يصوّر القرآن. حسناً، ترغبون أن تعبّروا عن هذا الأمر وأن تنقلوا هذه الصورة الموجودة في الكلام وهي معجزة، إلى ذهن مخاطبكم وقلبه. إنّه فنٌّ عظيم جدّاً، وهو فنٌّ رفيع.
حسناً، هناك كلامٌ كثير في مجال التلاوة طبعاً. وأنا العبد أكنّ حقّاً، ومن أعماق قلبي، المحبّة والاحترام لقُرّائنا الأعزّاء، بدءاً من الأساتذة والبارزين والقدماء وصولاً إلى الشباب ومن خاضوا هذا الميدان حديثاً. إنّني أحبّ حقّاً كلّ واحد من هؤلاء من أعماق قلبي، لكن هناك ملاحظات بطبيعة الحال يجب مراعاتها.
اعلموا أنه ينبغي لكم أن تكونوا مصداقاً ل﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ﴾[16]؛ إنّكم لتُبلّغون الرسالة الإلهيّة. أيّ رسالة أوثق وأشدّ إتقاناً وأكثر واقعيّة ممّا تؤدّونه في جلسة تلاوة القرآن؟ يجب أن تكونوا هكذا. لابدّ أن تطابقوا أنفسكم مع هذه الآية: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ﴾، انظروا ما الذي يفعله هؤلاء الذين يبلّغون رسالات الله، وكيف هم، وكيف ينبغي لهم أن يكونوا. هذه قضيّة.
«الالتفات إلى المعنى»؛ التفتوا إلى معنى الآية التي تتلونها، واجتهدوا في أن تخشع قلوبكم. إنّ خشوعكم يؤثّر في المستمع. عندما تتلون القرآن بخشوع وتوجّه، يتأثّر المستمع فيخشعُ هو أيضاً. الالتفات إلى مضامين الآيات يُسبّب هذا الخشوع.
مسألة نتوقف عندها أيضاً، هي وجوب اجتناب «الغناء الحرام» بشكل جدّي، ولتلتفتوا إلى هذا الأمر. طبعاً هناك الكثير من الكلام في باب «الغناء»، لكنّ بعض الألحان غناء. سأتحدّث الآن بصراحة؛ أنا أنصت إلى التلاوات، خاصّة تلك التي تُبثّ عبر المذياع. أحياناً عندما يقرأ بعض هؤلاء القرّاء المصريّين المعروفين، أطفئ - أنا العبد - المذياع، لأنّني أشعر بوجود شبهة. خذوا مثالاً محمّد عمران عندما يقرأ في بعض الأحيان، أشعر حقّاً بوجود شُبهة. حسناً، يبدو أنّه غادر الدنيا أيضاً، فليرحمه الله. وبعده عبد المنعم، هؤلاء يقرؤون بصوت حسن، ولديهم أصوات جيّدة، وهم محترفون جدّاً في الموسيقى أيضاً للحقّ والإنصاف، لكن ما يقرؤونه أحياناً شبيه بنمط من أنماط الأغاني العربية، وهذا ليس تلاوة للقرآن. طبعاً يُلاحظ أحياناً وجود أمورٍ من هذا القبيل في أعمال بعض أساتذة القرآن البارزين والعظام والذين أكنّ لهم محبّة كبيرة، ولكن ذلك لا يعني أن نقول إنهم [بلا إشكال]، وبعضهم أيضاً ليسوا كذلك. بعض هؤلاء القدماء مثل عبدالفتّاح الشعشاعي وأمثال هؤلاء لا يتعدّون إطار التلاوة القرآنيّة حقّاً، [لكنّ] شباب اليوم هؤلاء الذين يظهرون من مصر أحيانا،ً هنا وهناك ويقرؤون بعض الآيات، يتعدّون الضوابط والمعايير في العديد من الأحيان. هذه نقطة أيضاً.
طبعاً، يتمتع بعض قرائنا الأعزاء أيضاً بأصوات جيدة، وهذا الصوت العذب يؤول في بعض الحالات إلى حصول رغبة في ترجيعات إضافية وزائدة. [يقول الشاعر:]
»پریرو تاب مستوری ندارد چو در بندی سر از روزن برآرد!»
(وجه الملاك لا يطيق الستار كسجينٍ يطل برأسه من النافذة)
صدّوا أنفسكم متى ترون أنكم تودّون إضافة ترجيع زائد في غير مكانه، وليس له ضرورة؛ هنا يستلزم الأمر إرادةً، الإرادة القوية ضرورية للإنسان حتّى يتمالك نفسه ويصدّها. لا تقلّدوا حركات بعض القراء. أنتم إيرانيون، ولديكم معاييركم الجميلة والبليغة الخاصة بكم، فلا داعي للتشبه بالآخرين والسّير على خطاهم، كأن يتحرك أحدنا كما يتحركون، ويلبس كما يلبسون. في بعض الأحيان يُعرَضُ قرّاؤنا وهم في الخارج مثلاً، بملابس كملابس تلك البلاد. لا، ارتدوا ثيابكم الخاصة بكم، واذهبوا واجلسوا بكلّ فخر، ونافسوهم بتلاوة أفضل، وحقاً تلاوتكم أفضل. كانت هذه قضية أيضاً.
هناك قضية أخرى أودّ تأكيدها، وهي أنّ تعاظم المجالس القرآنية والحلقات القرآنية وتلاوة القرآن في البلاد يفوق الوصف حقاً. وقد قلت مراراً، إنّ وضع الحلقات القرآنية قبل الثورة الإسلامية مختلفاً عن اليوم، اختلاف الثرى عن الثريّا، [من ناحية] الكمّ والجودة. بحمد الله، اليوم يوجد آلاف المحافل القرآنية، إذْ تتطرق الأجهزة المختلفة إلى القضايا القرآنية من نواح متنوعة؛ مؤسسة الأوقاف من ناحية، منظمة التبليغ الإسلامي من ناحية أخرى، الجهات المختصة بالأمور القرآنية من ناحية ثالثة. إنه جيّد للحق والإنصاف، ولا يوجد أدنى شك في ذلك، لكنني أعتقد أننا مازلنا نملك القليل؛ لا يزال هناك الكثير من العمل الذي ينبغي فعله بشأن قضية الحفظ، وقضية التلاوة، وقضية الأنس بالقرآن. ليت كلّ مسجد يكون محفلاً لتلاوة القرآن! يجب أن يكون قارئ القرآن حاضراً في المسجد، ليس كل ليلة؛ على سبيل المثال، فليجتمع شباب الحيّ وليقرؤوا القرآن ويتلوه مرّةً في الأسبوع، ليلة في الأسبوع، مرة أو مرتين في الأسبوع. فليجرِ ترويج الحلقات القرآنية في أنحاء البلاد كافة، سواء في المساجد أو في المنازل؛ في المنازل لأولئك الذين لديهم استعداد.
القضيّة الأخرى؛ قضية تفسير القرآن. طبعاً، تفسير القرآن مهمّ جدّاً. أي يمكن للإنسان أن يستفيد من ظاهر القرآن في حالات كثيرة، لكن في بعض الأحيان، من خلال التفاسير التي ألّفها أجلّاؤنا، هناك أمور كثيرة مفيدة لنا. حسناً، أنا شخصياً مستأنس بالتفسير منذ سنوات طويلة، لكن في الوقت نفسه، هناك بعض الحالات التي يحصل لي فيها التباس، فأرجع إلى التفسير، وأستفيد من موضوع جديد، علاوة على ما يستفيده المرء من التلاوة نفسها. وهذا يساعد على التدبّر -وقد تطرّقنا إلى التدبّر خلال حديثنا- نعم التفسير يساعدكم في أن تكونوا من أصحاب التدبّر. على سبيل المثال، أن تجري دعوة عالم دين فاضل عالم قرآني، ويقدّم التفسير بنحو إبداعيّ وجاذب، وليس بنحو مملّ. افترضوا أنكم تتلون القرآن، فيقف القارئ عند موضع ما ويشرح للمستمعين آية أو نقطة من هذه الآية، وبعد ذلك تُكرَّرُ تلك الآية بالصوت العذب لذاك القارئ نفسه مرّةً أخرى. بعض هذه الأمور قد جُرّبت -طبعاً، بنحو قليل جدّاً- وبعضها يمكنكم أن تؤسسوها وتطوروها بابتكاراتكم الخاصة. القصد؛ أن تمضوا قُدماً بتلاوة القرآن نحو ترجمته ثم نحو المرتبة العليا وهي التفسير، حتى يؤول ذلك إلى التدبّر. [الخطوة] الأولى هي ترجمة القرآن؛ أيْ ينبغي فعلاً أن يكون الأمر في البلاد على نحو بحيث عندما تُقرأ آية من القرآن بين مختلف المجموعات -الشباب والناشئة-؛ يفهم الجميع مضمونها، لو لم يتمكنوا من إدراك التفاصيل، لكن لا بدّ من أن يفهم الجميع مضمون الآية وأن يكونوا حافظين لبعض الآيات وأن ينتفعوا من بعض الآيات، وهذا إنما يساعد على ارتقاء مستوى المعرفة الدينية للبلاد والمجتمع.
عرضوا هنا مشاهد من غزّة متناسبة مع جلستنا، حيث كانت تلاوة للقرآن. لقد رأيتم الأطفال الذين كانوا يتلون القرآن كيف يتلونه غيباً. لقد كانوا جميعهم حافظين لتلك المقاطع. هذا هو أيضاً السبيل للحفظ. لقد قلت سابقاً إنّ الحفظ ينبغي أن يبدأ من مرحلة الفتوّة. هؤلاء حفظة للقرآن. إنّهم حفظة للقرآن، ويدركون مفاهيمه أيضاً ببركة كونهم ناطقين بالعربيّة. [القرآن] هو الذي استطاع أن يعرض للعالم هذه الذروة والقمّة من الاستقامة في غزّة وفلسطين، وبشكل خاصّ في غزّة. هذا هو [تأثير] القرآن. هذا هو الصّبر الذي يصبو إليه القرآن، وهذه هي الاستقامة التي يوصي العالمَ بها. هذا هو الثواب الذي يعد به القرآن الصابرين، ويجعل هؤلاء يصمدون.
ما يجري اليوم في غزّة بلغ الذروة من جانبين: إنّه في الذروة من ناحية الإجرام والخبث والوحشيّة والتعطّش للدماء. ولا أعرف مثيلاً في أيّ مكان، بأنْ يهاجم عدوٌّ مدجّجٌ بأنواع الأسلحة شعباً لا يملك أيّ سلاح وليس الأمر أن تكون أسلحتهم بدائية أكثر، [إنما] لا يملكون أيّ سلاح. أهالي غزّة العُزّل؛ الناس العاديّون في المستشفيات والمساجد والأزقّة والأسواق الذين لا يملكون أيّ سلاح، يهاجمهم بمختلف أنواع الأسلحة ولا يكتفي بهذا الأمر، بل يجوّع ويُعطّش هؤلاء النّاس العُزّل فيموت الأطفال الصغار والرُّضّع جوعاً! أنا لا أعرف مثيلاً لهذا. إنّه ذروة التعطّش للدماء والوحشيّة! هذا الأمر يفضح تلك الحضارة التي تنتج عنها هذه الأمور. هذه هي حضارة الغرب، ولم تعد هذه [الحقيقة] في الكواليس، إنها واضحة وجليّة وماثلة أمام عيون الجميع، وكلّ العالم يرونها. هذا جانب من القضيّة. الجانب الآخر في الذروة أيضاً: هذا الصّبر المنقطع النظير، وصمود الناس ذاك، وقدرة حماس القتالية. قدرة حماس القتالية والمقاومة الفلسطينية في غزّة من جهة، واستقامة الناس وعدم شعورهم بالتعب والكلل، من جهة أخرى.
طبعاً، خسئ العدو في تحقيق أيّ شيء، وعجز عن توجيه ضربة إلى المقاومة. بعثَ مجاهدو المقاومة رسالة إلى الخارج، وقد بلغت مسامعنا أيضاً بأنْ لا تقلقوا من جهتنا. إنّ أغلب - بل أكثر من أغلب - إمكاناتنا وقدراتنا لا زلنا نحافظ على نحو 90% منها. هذا مهمٌّ جدّاً. إنّهم يحاربون المقاومة الفلسطينية منذ أشهر عدة بمختلف أنواع الأسلحة والمساعدات الخائنة والظالمة من أمريكا وغيرها، والمقاومة لا تزال قويّة وصامدة وحاضرة هناك، وبتوفيق من الله وفضل منه سوف تمرّغ المقاومة أنوف الصهاينة بالتراب.
العالم الإسلامي مكلّفٌ ومسؤول، وعلى عاتق كلّ شخص تكليفٌ ديني يحتّم عليه أن يساعد [غزّة] كيفما استطاع، كما أنّ مساعدة عدوّ هؤلاء حرامٌ قطعاً وجريمة حقيقيّة أيّاً كان الفاعل. ومع الأسف هناك في العالم الإسلامي، أشخاص وقوى وحكومات يساعدون أعداء هؤلاء الناس المظلومين. سيندمون هم أيضاً في يوم من الأيّام، إن شاء الله، وسوف ينالون جزاء هذه الخيانة، كما سيدركون أنّ ما أقدموا عليه كان بلا جدوى.
نأمل أن يمنّ رب العالمين على الإسلام والمسلمين مزيداً من العزة والنصرة يوماً بعد يوم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] سورة الحجر، الآية 87.
[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص415.
[3] سورة المزمّل، الآية 20.
[4] سورة المزمّل، الآية 20.
[5] سورة يونس، الآية 71.
[6] سورة الشعراء، الآية 69.
[7] سورة المزمّل، الآية 20.
[8] سورة الإسراء، الآية 106.
[9] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص599.
[10] سورة ص، الآية 29.
[11] سورة يوسف، الآية 4.
[12] سورة العاديات، الآيتان 1 - 2.
[13] سورة البقرة، الآية 16.
[14] سورة البقرة، الآية 19.
[15] سورة المنافقون، الآية 4.
[16] سورة الأحزاب، الآية 39.