مدرسة الإمام علي (عليه السلام) العابرة للحضارات والأجيال
الحياة السياسية
إنّ وجود أمير المؤمنين عليه السلام يُعدّ درسًا خالدًا لا يُنسى لكلّ الأجيال البشريّة، من جهاتٍ عدّة، وفي الظّروف والأوضاع المختلفة، سواءٌ أفي عمله الفرديّ والشخصيّ أم في محراب عبادته أم في مناجاته أم في زهده أم في فنائه في ذكر الله أم في جهاده مع النفس والشّيطان والدوافع النفسانية والمادية
عدد الزوار: 591إنّ وجود أمير المؤمنين عليه السلام يُعدّ درسًا خالدًا لا يُنسى لكلّ الأجيال البشريّة، من جهاتٍ عدّة، وفي الظّروف والأوضاع المختلفة، سواءٌ أفي عمله الفرديّ والشخصيّ أم في محراب عبادته أم في مناجاته أم في زهده أم في فنائه في ذكر الله أم في جهاده مع النفس والشّيطان والدوافع النفسانية والمادية، وفي جهاده لأجل رفع راية الحقّ وإقامة العدالة...فلو لم يكن أمثال عليّ بن أبي طالب عليه السلام لَما كان اليومَ مِن وجود لأيّ قيمة إنسانيّة، ولما كانت هذه العناوين الجذّابة للنّاس تمتلك أيّ جاذبية، ولما كان للبشر حياةٌ وحضارةٌ وثقافةٌ وآمالٌ وقيمٌ وأهدافٌ ساميةٌ، ولتبدّلت البشريّة إلى حيوانيّة وحشيّة وسبعيّة. فالبشريّة مدِينَة لأمير المؤمنين عليه السلام ولكلّ إنسانٍ بلغ من السموّ مرتبته في حفظ المفاهيم السّامية.
معرفة فضائل الإمام علي عليه السلام ومحبته أمرٌ مطلوب، لكنه غير كافٍ، إذ يجب علينا أن نُقرّب أنفسنا إلى مركز النّور، فلازم وخاصّيّة هذا التقرّب هو التنوّر. يجب علينا أن نُصبح نورانيّين من خلال العمل، لا بواسطة المحبّة الفارغة، العمل الّذي تُمليه علينا هذه المحبّة وتلك الولاية وذاك الإيمان، ويطلبه منّا، بهذا العمل يجب أن نُصبح من هذه العترة والمتعلّقين بها. إذ ليس من السهل أبدًا أن يصير المرء قنبرًا في بيت عليّ عليه السلام. ليس من السهل أن يصبح الإنسان "سلمان منّا أهل البيت"[1]. فالوصول إلى هذا المقام يستلزم العمل والإيثار والتشبّه والتخلّق بأخلاقهم.
الإيثار ومواطنه في حياة أمير المؤمنين عليه السلام
يقول تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾[2]، الآية الشّريفة نزلت في أمير المؤمنين.
والآية تشير إلى أنّ من بين النّاس من يبيع نفسه ووجوده - الوجود الذي هو أعزّ ما عند الإنسان - هذا الرّأسمال العزيز الوحيد الّذي لا يُمكن جبرانه ، بحيث أنَّك لو قدّمته لن يكون بعدها عنه بديل. فبعضٌ يُقدّم هذا الرأسمال وهذا الوجود دفعةً واحدة من أجل الحصول على رضا الله لا غير، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي﴾ أي يبيع نفسه ويُقدّم وجوده ﴿ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾، فلا يوجد أيّ هدفٍ آخر أو أيّ مقصدٍ دنيويّ أو أيّ دافعٍ ذاتيّ، بل فقط جلب رضا الله. وفي مقابل مثل هذا الإيثار وهذه التضحية، فإنّ الله لا يُمكن أن يكون من دون ردّ فعل مناسب: ﴿وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾. فمصداق الإيثار الكامل هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
الناظر إلى تاريخ حياة أمير المؤمنين عليه السلام، منذ الطفولة، ومنذ ذلك الوقت الّذي كان فيه في سنّ التاسعة أو الحادية عشرة، يرى أنّه كان قد آمن بنبوّة الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأدرك الحقيقة بوعيٍ تامّ، وتمسّك بها، ومنذ تلك اللحظة وإلى حين لحظة محراب العبادة، سَحَر يوم التاسع عشر من شهر رمضان، قدّم نفسه في سبيل الله مسرورًا متشوّقاً إلى لقاء ربّه. فطوال هذه السّنوات الخمسين تقريبًا، أو أكثر، منذ سنّ العاشرة وحتى سن الثالثة والستين، يُلاحَظ أنّ هناك خطًّا واحدًا مستمرًّا يشرح ويُبيّن حياة أمير المؤمنين عليه السلام، وهو خطّ الإيثار. وفي كلّ القضايا الّتي مرّت عليه عليه السلام طيلة هذا التاريخ الممتدّ لـ خمسين سنة، تظهر علائم الإيثار من البداية وحتّى النّهاية: فمثلاً، خلال عهد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وفي بداية الدعوة، تحمّل أمير المؤمنين الأذى والسخرية منذ بداية إيمانه بالنبيّ، وعندما كان ما زال في مرحلة الطّفولة.
تصوّروا مدينةً يستخدم أهلها العنف بشكل طبيعيّ، ولم يكونوا متحضّرين ووقورين ولائقين. قومٌ يتشاجرون عند أدنى مسألة، وشديدو التعصّب للعقائد الباطلة. في مثل ذلك المجتمع، طُرحت رسالة من إنسانٍ عظيم جعلت كلّ شيء في ذلك المجتمع مورد تشكيك، على مستوى العقائد والآداب والتقاليد، فمن الطبيعيّ أن ينهض الجميع، وبكلّ طبقاتهم، حتّى عوام النّاس، لمخالفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. فحتّى يقوم شخص بالدّفاع عن هكذا إنسان، وعن هكذا رسالة، بكلّ وجوده، ويقوم باتّباعه، فإنّ ذلك يتطلّب نكران الذّات. وكانت هذه خطوة أمير المؤمنين الأولى في نكران الذّات.
تاريخ النبي وأهل البيت عليهم السلام، دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج10، ص 123.
[2] سورة البقرة، الآية 207.