لماذا شرّع الله الصلاة؟
الصلاة
للوقوف على على علة تشريع الصلاة يتوجّب علينا التوجّه إلى بيت شارعها المقدّس صلى الله عليه وآله وسلم ليُطالعنا حفيده الإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام بحديث جامع يُبيّن حكمة الصلاة وفلسفتها وأسرارها
عدد الزوار: 578
للوقوف على على علة تشريع الصلاة يتوجّب علينا التوجّه إلى بيت شارعها المقدّس صلى الله عليه وآله وسلم ليُطالعنا حفيده الإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام بحديث جامع يُبيّن حكمة الصلاة وفلسفتها وأسرارها إذ سئل عنها، فأجاب بما يلي: "إنّ علّة الصلاة أنّها إقرار بالربوبيّة لله عزّوجلّ، وخلع الأنداد، وقيام بين يدي الجبّار جلّ جلاله بالذلّ والمسكنة، والخضوع والاعتراف، والطلب للإقالة من سالف الذنوب، ووضع الوجه على الأرض كلّ يوم إعظاماً لله عزّ وجلّ، وأن يكون ذاكراً غير ناسٍ ولا بطرٍ، ويكون خاشعاً متذلّلاً راغباً، طالباً للزيادة في الدين والدنيا، مع ما فيه من الإِيجاب والمداومة على ذكر الله عزّ وجلّ باللّيل والنهار لئلاّ ينسى العبد سيّده ومدبّره وخالقه، فيبطر ويطغى، ويكون في ذكره لربّه، وقيامه بين يديه، زجراً له عن المعاصي،ومانعاً له عن أنواع الفساد"[1].
وسألاه صباح بن نصر الهندي وعمران الصابي عن مسائلهما، ومنها عن علّة الصلاة، فقال الرضا عليه السلام: "طاعةٌ أمَرَهم بها، وشريعةٌ حمَلَهم عليها، وفي الصلاة توقير له، وتبجيل وخضوع من العبد إذا سجد، والإقرار بأنّ فوقه ربّاً يعبده ويسجد له[2].
نستخلص من هذا البيان الجلي جملة من أهداف الصلاة سنتعرّض لبعضها في الفصل الذي يحمل عنوان أهداف الصلاة، وأوّلها: إقرار المصلّي بأنّه عبد مربوب له ربٌّ واحد أحد فرد صمد هو الذي خلقه وبرأه...، لإنّه بإقراره بعبوديّة الله والكفر بكلّ الأنداد الذي اتخذها البشر أرباباً من دون الله تعالى يتحرّر من عبوديّة العبيد، وبهذه الطريق يجعل نفسه في سلك الموحّدين الأحرار، وثاني هذه الأهداف هو إقامة ذكر الله تعالى لأنّ الأذكار تُربّي في المسلم معاني العبودية لله، وتُحرّره وتنزع من قلبه كلّ معاني الطغيان، والتعلّق بغير الله، وثالث هذه الأهداف مستمدّ ممّا سبق، وهو الرادع والوازع الزاجر الذي ينتج عن إقامة ذكر الله تعالى، فيكون مانعاً للعبد عن أنواع الفساد، وكلمة أنواع الفساد تتضمّن الفحشاء والمنكر، و.... وكلّ الأمراض والأوبئة الأخلاقية.
الصلاة تنزيهاً لكم من الْكِبْرِ
ومن خلال ما تفضّل به مولانا الإمام الرضا عليه السلام تبيّن لنا لماذا شَرّع الله تعالى الصلاة، وأهمّ أهدافها أيضاً، وبذلك يكون المؤمن على بيّنة من أمره، ويعلم عندها لماذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبضعته الطاهرة سيّدة نساء العالمين، وبعلها المؤتمن عليهما السلام: "فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً من الْكِبْرِ.."[3]. إذاً فرض الله تعالى الصلاة تنزيهاً لنا من الْكِبْرِ، فما هو الْكِبْرِ؟
قال الراغب الأصفهاني: والْكِبْرِ والتكبّر والاستكبار تتقارب، فالْكِبْرِ الحالة التي يتخصّص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وذلك أن يرى الإنسان نفسه أكبر من غيره. وأعظم التكبّر التكبّر على الله بالامتناع من قبول الحقّ والإذعان له بالعبادة[4]، وفي الأساس إنّ غفلة الإنسان عن الله سبحانه بنفسها تكبّر، والتكبّر كما هو معلوم عند أهل العناية منطلق للكثير من الرذائل، ولذا تجد المتكبّر يظلم ويطغى ويفسد..، وقد قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: "التكبّر يُظهر الرذيلة"[5]، وقال عليه السلام: "احذر الْكِبْر، فإنّه رأس الطغيان ومعصية الرحمان"[6]. وقال عليه السلام: "التكبّر رأس الجهل"[7]، وقال عليه السلام: "الْكِبْر داع إلى التقحّم في الذنوب"[8].
وقال تعالى واصفاً أقواماً من الذين كفروا: ﴿فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾[9] حيث إنّ الْكِبْر إذا صار ملكة في الإنسان، فإنّه سيؤدّي إلى المفاسد والموبقات التي لا انتهاء لها، والصلاة تُنزّهنا عنه، وتدعونا للتواضع لأنّ الإنسان المتواضع إذا صار التواضع ملكة له يتقدّم ويترقّى، فإنّ التواضع من أهمّ أسباب التحلّي بالخصال الحميدة والشمائل المجيدة، وبالفضائل والمحاسن، ومن أسس التقدّم والترقّي في طريق السالكين الحكماء، فقد روي عن مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله"[10]، وقال أخوه أمير المؤمنين عليه السلام: "التواضع رأس العقل"[11]، وفي الحديث المروي عن إمامنا الكاظم موسى بن جعفر عليه السلام في وصيّته لهشام: "يا هشام إنّ الزرع ينبت في السهل، ولا ينبت في الصفا، فكذلك الحكمة تعمر في المتواضع، ولا تعمر في المتكبّر الجبّار"[12]. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباده الذين خضعت رقابهم لعظمته، ووجلت قلوبهم من خيفتة، وعنت وجوههم لهيبته، فتحطّم كبرياؤهم المزيّف في لحظة سجودهم له، وملامسة جباههم التراب، وقولهم بألسنتهم وقلوبهم: "سبحان ربّي الأعلى وبحمده".. عندها نعرف أماكننا أخيراً، وأنّنا تراب على التراب، وهو السبّوح القدّوس المنزّه الأعلى الذي تفرّد بالكبرياء والآلاء، وحارت في كبرياء هيبته دقائق لطائف الأوهام.
فلتطهيره النفوس من الشّر ك عيون الإيمان قد أجراها
ولـتـنـزيـهـهــا مغـرّرة الـكــبـــــــــــــ ـر أقـرّ الـصّـلاة في آنـاهـا
معرفة السراج المنير وبقاء ذِكرِه
قال هشام بن الحكم: سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن علّة الصلاة، فإنّ فيها مشغلة للناس عن حوائجهم ومتعبة لهم في أبدانهم؟ قال: "فيها علل، وذلك أنّ الناس لو تُركوا بغير تنبيه ولا تذكير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأكثر من الخبر الأوّل، وبقاء الكتاب في أيديهم فقط،لكانوا على ما كان عليه الأوّلون، فإنّهم قد كانوا اتّخذوا ديناً، ووضعوا كتباً، ودعوا أناساً إلى ما هم عليه، وقتلوهم على ذلك، فدرس أمرهم وذهب حين ذهبوا، وأراد الله تعالى أن لا يُنسيهم ذكر مُحمّد صلى الله عليه وآله وسلم ففرض عليهم الصلاة، يذكرونه في كلّيوم خمس مرّات، يُنادون باسمه، وتعبّدوا بالصلاة وذكر الله لكيلا يغفلوا عنه، فينسوه فيدرس ذكره"[13]. وذلك لأنّ التوحيد الحقيقي لا يتمّ إلا من خلال محمد وآله عليهم السلام فذكره صلى الله عليه وآله وسلم ذكر لمعاني التوحيد الصحيح.
ألا ترى معي كيف جاءت إقامة الصلاة مباشرة بعد الأمر بالتوحيد وإخلاص العبودية لله تعالى، وكيف ارتبطت إقامة الصلاة بطاعة الرسول في كلام إمامنا الصادق عليه السلام، وما ذاك إلا لإنّ إقامة الصلاة تُزكّي النفس، وتُهيّئها لقبول طاعة الرسول التي هي عين طاعة الله تعالى، وفي ذلك يقول الإمام الخامنئي دام ظله: إنّ التسليم بأنّ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم مرسلٌ من الله هو بمعنى قبول الاستخلاف الإلهيّ، أي إنّ سبيل الله هو في اقتفاء طريق رسوله مُحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّ أوامره تؤخذ وتُتلقّى من عبده المصطفى... كثيرٌ من عباد الله أخطؤوا في معرفة الطريق المرضيّ من الله.. إنّ تعريفَ النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتسليم بكونه رسول الله، محدّدٌ وموجِّهٌ للجهد والحركة التي ينبغي أن يُظهرها الإنسان العابد في حياته لكي يُثبت صحّة دعواه في عبادة الله[14]، فقد روى حفص بن البختري، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "لما أُسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحضرت الصلاة، فأذّن جبرائيل عليه السلام، فلمّا قال: الله أكبر، الله أكبر، قالت الملائكة: الله أكبر، الله أكبر، فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قالت الملائكة: خلع الأنداد، فلمّا قال:أشهد أنّ محمداً رسول الله، قالت الملائكة: نبي بعث، فلمّا قال: حي على الصلاة، قالت الملائكة: حثّ على عبادة ربّه، فلمّا قال: حي على الفلاح، قالت الملائكة: أفلح من اتبعه"[15].
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾[16].
قربان الأتقياء، دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج2، ص 317، 2 باب العلة التي من أجلها فرض الله عز و جل الصلاة.
[2] ابن شهرآشوب محمد بن علي المازندراني، مناقب آل أبي طالب عليهم السلام، ج 4، ص 350، فصل في علمه عليه السلام.
[3] الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 568، حديث رقم: 4940، بسنده عن عقيلة بني هاشم السيدة زينب بنت أمير المؤمنين علي عن أمها السيدة الزهراء (صلوات الله عليها وأبيها وبعلها وبنيها).
[4] الحسين بن محمد بن المفضل، مفردات ألفاظ القرآن، ج 2، ص 277، ط: دار القلم، دمشق.
[5] الآمدي التميمي عبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 310، ح 7151، الفصل السادس الخيلاء والغرور.
[6] م. ن، ص 309.
[7] غرر الحكم ودرر الكلم ص 248، ح 5137، الفصل الثاني موجبات عزة النفس.
[8] م، ن، ص 310، ح 7152، الفصل السادس الخيلاء والغرور.
[9] سورة الفتح، الآية 26.
[10] الأصول الستة عشر، أصل جعفر بن محمد بن شريح الحضرمي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: قال رسول اللّه.. الحديث، ص 240، أخبار عبد الله بن طلحة النهدي، طبعة مؤسسة دار الحديث الثقافية، قم.
[11] الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 248، ح 5137، الفصل الثاني موجبات عزة النفس.
[12] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 75، ص 312.
[13] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج2، ص 317، 2 باب العلة التي من أجلها فرض الله عزّ وجلّ الصلاة.
[14] الإمام الخامنئي، من أعماق الصلاة، ص 62، طبعة جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، بيروت.
[15] الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه القمي، من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 281، باب الأذان والإقامة وثواب المؤذنين.
[16] سورة الأحزاب، الآيتان 45 - 46.