لا شكّ في أنّ لشهداء كربلاء علاقةً مميّزةً بالإمام الحسين (عليه السلام) جعلتهم «الأوفى والأبرّ» على لسانه الشريف، حيث تجلّت تلك العلاقة في كلماتهم ومواقفهم وحفظهم وصيّةَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) في سبطه الحسين (عليه السلام)، ووقوفِهم إلى جانب الحقّ يوم عزَّ الناصرُ أمام ثلاثين ألفًا من جيش عمر بن سعد، وبذْلِهم أنفسهم واستبسالهم في الدفاع عن إمام الحقّ واستشهادهم بين يدَيه (عليه السلام). تلك العلاقة -التي شملت الرجال والنساء، الفتية والشباب والكبار- ليست وليدة ساعتها، بل كان لها أسس ومرتكزات عميقة ومتجذّرة، أبرزها:
1. الإمام الحسين (عليه السلام) ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
لمّا دعا الإمامُ الحسين (عليه السلام) زهيرَ بن القين لصحبته، أجابه أنّه ليس راغبًا في مرافقته، فقالت له زوجته دلهم: «سبحان الله، يبعث إليك ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثمّ لا تأتيه!»[1] ، ولمّا سمع زهير كلام زوجته، انقلب وتغيّر، وأتى نحو الإمام الحسين (عليه السلام).
2. من ذرّيّة النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله)
لمّا برز زوجها عبد الله إلى الميدان، أصيب في يده اليسرى، فأخذت أمّ وهب عمود خيمة، ثمّ أقبلت نحوه، وهي تقول له: «فداك أبي وأمّي، قاتل دون الطيّبين ذريّة محمّد (صلى الله عليه وآله)»[2].
3. ابن السيّدة الزهراء (عليها السلام)
بعد استشاهد ابنِها عمرو بن جنادة، قطع العدوّ رأسه، ثمّ رموا به نحو خيمة الإمام (عليه السلام)، فأخذت أمُّه عمود الخيمة، وحملت على القوم، وهي تقول:
أَنَا عَجُوزٌ فِي النِّساءِ ضَعِيفَهْ
بَالِيَةٌ خَالِيَةٌ نَحِيفَهْ
أَضْرِبُكُمْ بِضَرْبَةٍ عَنِيفَهْ دُونَ بَنِي فَاطِمَةَ الشَّرِيفَهْ[3]
وقد جمع هذه العناوين الثلاثة عبد الله بن يقطر الحميريّ، عندما أعلن من قصر ابن زياد للناس المجتمعين أسفل القصر: «أيّها الناس، أنا رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليكم، لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة وابن سميّة الدعيّ ابن الدعيّ»[4].
ولأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) امتدادٌ لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، برزت مظاهر الفداء بأبهى صورها، فهذا عمرو بن قرظة الأنصاريّ بعد أن قاتل مدّة من الزمن، رجع نحو الحسين (عليه السلام) ووقف دونه ليقيه من العدوّ، فجعل يتلقّى السهام بجبهته وصدره فلم يصل إلى الحسين (عليه السلام) سوء حتّى أثخن بالجراح، فالتفت إلى الإمام (عليه السلام)، وقال له: «أوفيت يابن رسول الله؟»، قال:«نعم، أنت أمامي في الجنّة، فأقرئ رسول الله (صلى الله عليه وآله) السلام، وأعْلَمْه أنّي في الأثر»[5].
4. إنّه (عليه السلام) خير الخلق
كان قيس بن مسهّر الصيداويّ حاملًا رسالة من الإمام الحسين (عليه السلام) إلى مسلم بن عقيل وإلى شيعة الكوفة، وقبل وصوله إلى الكوفة كان قد لوحق وقبض عليه الحصين بن تميم، وبعد اعتقاله قام قيس بتمزيق الكتاب، ثمّ وجّه به الحصين إلى عبيد الله بن زياد، وبعد مشاجرة بينه وبين ابن زياد، قال له: اصعد المنبر والعن عليًّا والحسن والحسين (عليهم السلام)، فقَبِل قيس أن يتكلّم إلى الناس، ولمّا اجتمعوا في المسجد صعد قيس المنبر وتوجّه نحو أهل الكوفة قائلًا لهم: «أيّها الناس، إنّ الحسين بن عليّ خير خلق الله، وابن فاطمة بنت رسول الله، وأنا رسوله إليكم... فأجيبوه»[6].
5. إنّه (عليه السلام) الأحقّ بالولاية
عندما جعجع الحرّ بالإمام الحسين (عليه السلام)، وضيّق عليه، خطب الإمام (عليه السلام) في أصحابه، وتحدّث معهم عن غدر الزمان والدهر الخوؤن، ثمّ تكلّم نافع بن هلال مبيّنًا أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) هو الأحقّ بالولاية والشهادة بين يديه: «فَسِرْ بنا راشدًا معافًا، مشرّقًا إن شئت، وإن شئت مغرّبًا، فوالله ما أشفقنا من قدر الله، ولا كرهنا لقاء ربّنا، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا، نوالي من والاك ونعادي من عاداك»[7].
6. إنّه (عليه السلام) أولى من أنفسهم
لمّا وقع القتال في اليوم العاشر، أُخبر بشر الحضرميّ -وهو على تلك الحالة- بأسر ابنه بثغر الريّ، فقال ردًّا على ذلك: «عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنت أحبّ أن يؤسر، وأن أبقى بعده»، فسمع الإمام الحسين (عليه السلام) مقالته، فقال له: «رحمك الله! أنت في حلٍّ من بيعتي، فاذهب واعمل في فكاك ابنك»، فأجابه بشر: «أكلتني السباع حيًّا إنْ أنا فارقتك يا أبا عبد الله»[8].
وفي مشهد آخر، لمّا مُنع الإمام الحسين (عليه السلام) من الماء، واشتدّ العطش بأصحابه، كان نافع بن هلال من جملة من ذهب لإحضار الماء بقيادة أبي الفضل العبّاس، وعندما وصل إلى شريعة الفرات امتنع نافع عن شرب الماء، وقال لأحد قادة العدوّ: «لا والله، لا أشرب منه قطرة والحسين عطشان»[9].
7. إنّه (عليه السلام) وصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
في ليلة العاشر من المحرّم، لمّا جمع الحسين (عليه السلام) أصحابه وأحلّهم من بيعته وطلب منهم الرجوع إلى أهليهم تكلّم جمع من بني هاشم والأصحاب، ومن ثمّ تكلّم سعيد بن عبد الله الحنفيّ، فقال للإمام (عليه السلام): «لا والله -يابن رسول الله- لا نخلّيك أبدًا، حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا فيك وصيّة رسوله محمّد (صلى الله عليه وآله)، ولو علمت أنّي أقتل فيك ثمّ أحيا ثمّ أذرى، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك؟ وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبدًا»[10].
وفي ظهر يوم عاشوراء تقدّم الإمام الحسين (عليه السلام) لإقامة الصلاة فصلّى بأصحابه صلاة الخوف، فوصل إلى الإمام الحسين (عليه السلام) سهم فتقدّم سعيد بن عبد الله الحنفيّ، ووقف يقيه بنفسه وجعلها درعًا للإمام (عليه السلام) فرماه القوم بسهامهم من كلّ جانب يمنةً ويسرةً، وكان يستقبل السهام في وجهه وصدره ويديه ومقادم بدنه لئلّا تصيب الحسين (عليه السلام) حتّى سقط إلى الأرض.
وعلى حدِّ قول ابن طاووس، فإنّ ثلاثة عشر سهمًا أصابت جسد سعيد سوى ضربات السيوف والرماح. وعندما خرّ سعيد بن عبد الله صريعًا، التفت إلى الحسين (عليه السلام) فقال: أوفيت يابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأجابه (عليه السلام): «نعم، أنت أمامي في الجنّة»[11].
8.إنّه (عليه السلام) الأعزّ والأحبّ
في يوم عاشوراء، وبعد استشهاد غلامه شوذب، تقدّم عابس بن أبي شبيب الشاكريّ نحو الإمام (عليه السلام)، وقال له: «يا أبا عبد الله، أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريبٌ ولا بعيدٌ أعزّ عليّ ولا أحبّ إليّ منك، ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعزّ عليّ من نفسي ودمي لفعلته»[12].
زاد عاشوراء للمحاضر الحسينيّ - الإصدار 18، دار المعارف الإسلاميّة الثقافيّة
[1] ابن نما الحلّيّ، مثير الأحزان، مصدر سابق، ص33.
[2] الطبريّ، محمّد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك (تاريخ الطبري)، مراجعة وتصحيح وضبط نخبة من العلماء الأجلّاء، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط4، ج4، ص327.
[3] العسكريّ، السيّد مرتضى، معالم المدرستين، مؤسّسة النعمان للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1410 - 1990م، لا.ط، ج3، ص121.
[4] السماويّ، الشيخ محمّد، أبصار العين في أنصار الحسين (عليه السلام)، تحقيق الشيخ محمّد جعفر الطبسيّ، مركز الدراسات الإسلاميّة لممثليّة الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلاميّة، إيران، 1419ه - 1377ش، ط1، ص93.
[5] ابن نما الحلّيّ، مثير الأحزان، مصدر سابق، ص45، العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص22.
[6] الشيخ محمّد السماويّ، أبصار العين في أنصار الحسين (عليه السلام)، مصدر سابق، ص113.
[7] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص382.
[8] الشيخ محمّد السماويّ، أبصار العين في أنصار الحسين (عليه السلام)، مصدر سابق، ص174.
[9] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، تقديم وإشراف كاظم المظفّر، منشورات المكتبة الحيدريّة ومطبعتها، العراق - النجف الأشرف، 1385 - 1965م، ط2، ص78.
[10] ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، مصدر سابق، ص56.
[11] المصدر نفسه، ص64.
[12] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك (تاريخ الطبري)، مصدر سابق، ج4، ص338.