مشاكل الزواج في عصرنا الحاضر لا تنحصر ـ وللاسف ـ في مشكلة واحدة أو مشكلتين.
فالرجال والنساء اليوم يقدمون على الزواج ـ غالبا ـ في ظروف صعبة، وأوضاع رديئة، وتنتهي أكثر الزيجات بسبب تلك الظروف والاوضاع وبسبب، ما يلابسها من مستلزمات قاسية وثقيلة بالطلاق والافتراق بعد سلسلة من الخلافات والمنازعات.
فتلك هي صحف البلاد تحمل في أبوابها الاجتماعية كلّ يوم عشرات الانباء والأخبار عن الجرائم الزوجية وتعالج عشرات المشاكل في مجال العائلة.
ولكن أكثر هذه المشاكل والمصائب تدور حول قضية واحدة، وهي أن الفتيان والفتيات في مجتمعاتنا الحاضرة ليسوا بصدد تشكيل عائلة تضمن سعادتهم الواقعية.
فالبعض يهمّه من الزواج أن يصل عن طريقه إلى المناصب الراقية الحساسة.
والبعض الآخر يهمّه من الزواج الحصول على الثروة والمال.
وقلّما يفكر المقدمون على الزواج، وتأسيس العائلة في أمور هامة وجوهرية كالعفة والطهر، وإذا لوحظ هذا الجانب فإنما يلاحظ بصورة هامشية، لا أساسية.
ويدل على ذلك أن الشباب يتنافس غالبا على التزوج بفتيات من العوائل المعروفة ذات المكانة والشهرة الاجتماعية والمالية، والحال أنه يمكن أن تكون تلك الفتيات غير متصفات بالاخلاق النبيلة، ولا يكنّ من حيث الجانب المعنوي بالنوع الجيد، الجدير بالاهتمام، الصالح للاقتران به.
فما أكثرهن الفتيات الفاضلات، الطيبات هنا وهناك في زوايا المجتمع اللائي لا يهتم بهن الشباب، لفقرهنّ، وقلة ذات ايديهن. او لعدم شهرة عوائلهن.
على أن الأسوأ من ذلك كلّه ما اصبح يكلّفه الزواج في عصرنا الحاضر من نفقات باهضة نتيجة تزايد التقاليد المبتدعة في مجال إقامة الاعراس وحفلات القران والزواج، الأمر الذي أصبح يرهق كاهل الزوجين، ويتعب عائلتيهما، مثل مشكلة المهور الباهضة، وما شابه ذلك مما هو في تصاعد مستمر في بلادنا، الأمر الذي دفع بالبعض الى ترك الزواج، واشباع غرائزهم الجنسيّة بالوسائل غير المشروعة، ومن ثم شيوع اللاابالية، والاباحية في المجتمعات.
رسول الاسلام يكافح هذه المشاكل عمليّا:
تلك طائفة من المشاكل الاجتماعية التي كانت ولا تزال موجودة في كل مجتمع بنسب خاصة.
ولم تكن الفترة التي عاصرها رسول الاسلام بمستثناة من هذا الأمر فقد كانت هناك في المجتمع في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) مشاكل مماثلة في الزواج.
فقد كان أشراف العرب لا يزوّجون بناتهم إلاّ لمن كان من قبيلة ذات مال وشوكة، ومكانة وقوة، ويردّون كل خاطب لبناتهن يكون على غير هذه الصفة.
وقد كان الأشراف، يصرّون ـ تبعا لتلك العادة ـ على أن يتزوّجوا بابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) السيدة فاطمة لانهم كانوا يتصوّرون أن النبيّ لن يتشدد في هذا الأمر، بل يكفيه أنهم ذو ثروة ومكانة اجتماعية مرموقة.
لقد أخطأ خطّاب فاطمة (عليها السلام) في هذا التصور، وما كانوا يعلمون أن زوج فاطمة وقرينها لا يمكن أن يكون إلاّ كفؤها في التقوى والفضل، والايمان والاخلاص، فاذا كانت فاطمة ـ بحكم آية التطهير ـ معصومة من الذنب وجب أن يكون زوجها هو الآخر معصوماً وإلا لم يكن كفؤها المناسب.
وليس المال وليست الثورة ملاك هذا التكافؤ.
لقد قال الإسلام: «إذا خطب إليكم كفؤ فزوّجوه».
ويفسر هذا التكافؤ بالمماثلة والتكافؤ في الايمان والتقوى، والطهارة والعفاف، لا في المال والثروة([1]).
ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مأمورا من جانب الله تعالى أن يقول لكل من خطب إليه «فاطمة» من أولئك الرجال: «أمرها بيد الله» وهو بهذه الاجابة يكشف القناع عن الحقيقة إلى درجة ما.
ولقد أدرك أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن زواج «فاطمة» ليس أمرا سهلا وبسيطا، وأنه ليس لمن كان من الرجال وان بلغ من الثراء، والمكانة الاجتماعيّة أن يحظى بالزواج منها، فإن زوج «فاطمة» ليس إلاّ من يشابهها من حيث الأخلاق والفضائل، والصدق والايمان، والطهر، والاخلاص، بل ويلي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في السجايا الكريمة والصفات الرفيعة، والخلق العظيم.
ولا تجتمع هذه الصفات والمواصفات إلاّ في «علي» (عليه السلام) لا سواه.
وللتأكد من هذه الحقيقة اقترح بعض الصحابة على (عليّ) (عليه السلام) أن يخطب الى النبيّ فاطمة صلوات الله عليهما([2]).
وكان علي (عليه السلام) يريد ذلك في نفسه، ويرغب إليه من كل قلبه إلاّ أنه كان ينتظر الفرصة المناسبة ليقدم على هذا الأمر.
فأتى علي (عليه السلام) بنفسه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولما رآه رسول الله قال: ما جاء بك يا أبا الحسن، حاجتك.
فمنع الخجل عليا من البوح بمطلبه وسكت، وأطرق برأسه الى الارض، حياء من النبيّ (صلى الله عليه وآله).
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): لعلك جئت تخطب فاطمة؟ فأجاب علي (عليه السلام) بكلمات ضمّنها رغبته في الزواج من فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ولقد كان هذا النمط من الخطبة علامة واضحة لما كان بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين علي (عليه السلام)، من الاخوة والصفاء، ولما تحلّى به الجانبان من اخلاص وودّ. وما أروعها من ظاهرة. حقا انّ المبادئ والانظمة التربوية لم تستطع أن تعلّم الشباب الذين يقدمون على الخطبة الى أحد مثل هذه الحرية، المقرونة بالتقوى، والايمان والاخلاص.
لقد وافق رسول الله (صلى الله عليه وآله) على طلب علي (عليه السلام) وقال: «يا عليّ أنه لقد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها فرأيت الكراهة في وجهها، ولكن على رسلك حتى أخرج إليك».
ثم دخل (صلى الله عليه وآله) على فاطمة، فذكر لها الأمر، وأن عليا (عليه السلام) خطبها إليه قائلا: «إن علي بن أبي طالب من قد عرفت قرابته، وفضله وإسلامه، واني قد سألت ربي أن يزوّجك خير خلقه، وأحبهم إليه، وقد ذكر من أمرك شيئا فما ترين؟».
فسكتت فاطمة سلام الله عليها، ولم ير رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وجهها كراهة فقام وهو يقول: «الله أكبر، سكوتها إقرارها»([3]).
ولكن عليّا (عليه السلام) لم يكن يملك آنذاك إلا سيفا، ودرعا فقط.
فأمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن يبيع درعه، ويهيئ بثمنه عدة الزواج وجهاز العروس، فباع علي (عليه السلام) درعه، وأتى بثمنه الى النبيّ (صلى الله عليه وآله) وسكب المال بين يديه([4]).
فقبض (صلى الله عليه وآله) قبضة الدراهم، ودعا بلالا فأعطاه فقال: «ابتع لفاطمة طيبا».
ثم أعطى (صلى الله عليه وآله) بقية تلك الدراهم إلى أبي بكر وعمّار بن ياسر وأمرهما أن يبتاعا لفاطمة ما يصلحها من ثياب وأثاث البيت، وما شاكل ذلك من احتياجات العروسين.
ففعلا ذلك واشتريا ما أمرهما به رسول الله (صلى الله عليه وآله)..
سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله) - بتصرّف، آية الله الشيخ جعفر سبحاني
([1]) راجع الوسائل: ج 14 ص 50 ـ 52.
([2]) بحار الأنوار: ج 43 ص 93.
([3]) نفس المصدر السابق.
([4]) وفي رواية عن عليّ (عليه السلام): فسكبت الدراهم في حجره فلم يسألني كم هي ولا أنا أخبرته.