وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى
ذو الحجة
قال تعالى: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾
عدد الزوار: 229
قال تعالى: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾[1].
يُثْني اللهُ -عزَّ وجلَّ- على عبادِهِ الصالحينَ الذين يلتزمونَ العملَ بأحكامِه، ويؤدُّون التكاليفَ المتعلّقةَ بهم، وقد وَعَدَهُم بجزيلِ الثواب، ولا نَفْعَ يَرجِعُ إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ- مِن فعلِهم؛ لأنّه الغنيُّ عن كلِّ حاجةٍ وفقر، فلا يصلُهُ مِن ذلك شيء، ولكنَّ هذه الآيةَ تتحدّثُ عن التقوى كفضيلةٍ مترتّبةٍ على تلك الأعمال، وهذه التقوى أيضاً تَرجِعُ إلى مصلحةِ العباد، وهي الرُّقيُّ في سُلّمِ الكمالِ ودرجاتِ القُربِ مِنَ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، والكرامةِ ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾[2].
والأضحيةُ في يومِ عيدِ الأضحى مِنَ الحاجِّ وغيرِهِ هي مِنَ الشعائرِ التي أَمَرَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- بإحيائها، فقال: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَ﴾ [3]، والثمرةُ المترتّبةُ على هذه الشعيرةِ هي ما وَرَدَ في قولِهِ تعالى: ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[4].
وهكذا يكونُ هذا التكليفُ الإلهيُّ، الواجبُ منهُ والمستحبُّ، باباً مِن أبوابِ التقوى، وإضافةُ التقوى إلى القلوبِ للإشارةِ إلى أنَّ حقيقةَ التقوى -وهي التحرُّزُ والتجنُّبُ عن سخطِهِ تعالى، والتورُّعُ عن محارِمِهِ- أمرٌ معنويٌّ يرجعُ إلى القلوب، وهي النفوس، وليست هي من الأعمال.
وصاحبُ التقوى يمتلكُ بِفَضْلِها البصيرةَ التي تقيه الوقوعَ في المعاصي، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾[5].
كما أنّ صاحبَ التقوى يمتلكُ الدواءَ الناجعَ لكلِّ الأمراضِ التي قد تَعرِضُ للقلب، فعن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «إنَّ تقوى اللهِ دواءُ داءِ قلوبِكم، وَبَصَرُ عمى أفئدتِكم»[6].
يقولُ الإمامُ الخمينيُّ (قدّس سره): «كان شيخُنا العارفُ الجليلُ يقول: إنّ المثابَرةَ على تلاوةِ آخِرِ آياتِ سورةِ الحشرِ المبارَكة، مِنَ الآيةِ الشريفة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَد﴾[7]، إلى آخرِ السورةِ المبارَكة، مع تدبُّرِ معانيها، في تعقيباتِ الصلوات، وخصوصاً في أواخرِ الليل، حيث يكونُ القلبُ فارغَ البال؛ مؤثّرةٌ جدّاً في إصلاحِ النفْس، وفي الوقايةِ مِنْ شَرِّ النفْسِ والشيطانِ. وكان يوصي بدوامِ حالِ الوضوء، قائلاً: «إنَّ الوضوءَ مِثْلُ "بِزّةِ الجنديّ». وعلى كلِّ حال، عليكَ أن تطلبَ مِنَ القادرِ ذي الجلال، مِنَ اللَّهِ المتعالِ جلَّ جلالُه، معَ التضرُّعِ والبكاءِ والالتماس، كي يوفّقَكَ في هذه المرحلة، ويعينَكَ في الحصولِ على خَصلةِ التقوى. ويمكنُ -إن شاءَ اللَّهُ- وبَعدَ المواظَبةِ الشديدةِ والتقوى التامّة، أن تنتقلَ مِن هذا المقامِ إلى مقامِ تقوى الخاصّة، وهي التقوى التي تتلذّذُ الروحُ بها، إذ إنّكَ -بَعدَ أن تذوقَ طعمَ اللّذةِ الروحية- تَترُكُ شيئاً فشيئاً اللذائذَ الجسديّةَ وتتجنّبُها، وعندئذٍ يسهُلُ عليكَ المسيرُ حتى لا تعودُ تقيمُ وزناً للّذاتِ الجسديّةِ الزائلة، بل تنفُرُ منها، وتُقَبِّحُ زخارفَ الدنيا في عينَيك، وتنظرُ في باطنِكَ فتجدُ أنّ كلَّ لَذّةٍ مِن لذّاتِ هذا العالَمِ قد أَوجدتْ في النفسِ أثراً، وأبقتْ في القلوبِ لطخةً سوداءَ تَبعَثُ على شِدّةِ الأُنسِ بهذه الدنيا والتعلُّقِ بها. وهذه هي نَفْسُها تكونُ سببَ الإخلادِ إلى الأرض».
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] سورة الحجّ، الآية 37.
[2] سورة الحجرات، الآية 13.
[3] سورة الحجّ، الآية 36.
[4] سورة الحجّ، الآية 32.
[5] سورة الأنفال، الآية 29.
[6] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص312.
[7] سورة الحشر، الآية 18.