وردت في نهج البلاغة مجموعة كلمات كثيرًا ما يُستند إليها؛ منها "الفتنة"؛ في النتيجة إن ما نفهمه من الفتنة أنها "حالة التلوث بالغبار" وإن خاصية الفضاء الملوّث هو ما تقولونه وتذكرونه، أي أشخاص بعضهم لا يعرف بعضًا. كذلك فإن خصوصية الغارة الليلية هي هذه؛ يغير العدو ليلا بمجموعة قليلة على المخيم، ثم ينسحب بسرعة ويربض جانبًا، وجماعتنا (أصحابنا) في سبات؛ وعند الإفاقة تسلّ السيوف ويقاتلون عدوًا وهميًا؛ هذه هي الفتنة. عندها لا تتعجبون كثيرا؛ فالفضاء ملوث بالغبار وتحدث مثل هذه الوقائع. في مثل هكذا ظرف تسمعون مقولة: "اقتتل موسى مع موسى". وعندما تنجلي (غبار) الفتنة، عندها يرى الإنسان الاصطفات، فيرى من الذي وقع أرضًا ومن الذي نجا منها وحفظ نفسه.
الفتنة هي ذاك الغبار الذي يتحرك الناس في فضائه بعيون مغلفه يخبطون بأيديهم، فهم لا يشاؤون ذلك ولا يدرون. الفتنة هي نفسها التي تُوجِد في مجتمع جوًا وفضاءً تجعل الناس لا يتعرّف بعضهم على وجوه بعض، فيرفع الأصدقاء والأخوة سيوفهم بعضهم على بعض وينزلون ذبحًا وتقتيلًا بعضهم ببعض؛ هذه هي الفتنة.
الحرب ليست فتنة؛ الحرب التي يذهب فيها الإنسان إلى الشهادة أو ليؤازر ويكون إلى جانب الشهداء، أو ليصبح جريحًا أو يغدو معوقًا، فيلحقه الوعد الإلهي، فكل نتائجها حسنة. "هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين" (التوبة:52) أو الشهادة؛ وكذا الهزيمة والانكسار هي نصر أيضًا. ليست من الفتنة ولا يقال لها فتنة. تحضر الفتنة وتوجد عندما يفقد الإنسان البصيرة، لا يعي ماذا يحدث، هو الانحراف والضياع، وكلما تحرك يبقى في مكانه الأول لا يلوي على شيء، هذا ما يقال له الفتنة، أنه الغبار والتلوث به فلا انقشاع للأفق ولا وضوح للمستقبل.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "إنما بِدءُ وقوعِ الفتن أهواءٌ تُتَّبَع وأحكامٌ تُبتدعْ يُخالَف فيها كتاب اللّه ويتولى عليها رجالٌ رجاﻻً على غير دين اللّه "([1]). يبين الإمام علي عليه السلام منشأ الفتن. من أين تنهض؟ أين هو مركز الفوضى والاضطراب والضياع والاعوجاج في المجتمع؟ الفتنة هي ذاك التشرّد والضياع والتخبط الذي يظهر في المجتمع فيصرِف الناس ويجرّهم إلى الحيرة والتيه وضلال الطريق، ويزيل الخطوط الواضحة ويضيعها أمام أعين الكثيرين من قصيري النظر. وفي النتيجة تُوجِدُ امتحانًا كبيرًا في المجتمع، امتحان الرؤية والمعرفة والتشخيص والاختيار.
من أين ينشأ هذا التخبط؟ "إنما بدء وقوع الفتن اهواءٌ تتبع"؛ تقع الفتن عندما تطاع الأهواء وهوس النفس وتسويلاتها. الأهواء موجودة لدى الجميع، والأهواء النفسانية موجودة لدى الناس بشكل مضمر ومكنون؛ إلا أن المرتجى والمتوقع من إنسان مؤمن يتّجه نحو التكامل أن يُلقي هذه الأهواء جانبًا عندما يظهر تنافر وتضاد بينها وبين الفكر الصحيح والسبيل المعروض بواسطة أدلاء الطريق، أي الانبياء والعقل، العقل الإنساني؛ وأن لا يسلك طريق هذه الأهواء.
عندما لا تُؤدَّى هذه الوظيفة الانسانية ويُسلك سبيل الهوى "وأحكام تبتدع" وتختلق أحكام وأنظمة في المجتمع لا تناسب فطرة الانسان وطبيعته ولا تستند إلى أصول الدين؛ تظهر الفتن وتبدأ "إنما بدء وقوع الفتن اهواء تتبع واحكام تبتدع يخالف فيها كتاب اللّه"؛ ففي هذه الاحكام وهذه الأنظمة والخطوط - التي ظهرت في المجتمع نتيجة اتباع الأهواء والرغبات والشهوات- يخالف كتاب اللّه. وينحّى هذا المشعل جانبًا وهو ما ينبغي أن يرشد ويهدي "ويتولى عليها رجالٌ رجالًا على غير دين اللّه" تبتدع هذه الاحكام والقوانين بطريقة تجعل أشخاصًا، ليسوا أهلًا وغير كفوئين ولا تتوفر فيهم المؤهلات والشروط المطلوبة، حكامًا وولاةً.
هذه بداية الفتن وقد ذُمّت الفتنة في القرآن بلسان صريح وقاطع؛ ففي موضع منه جاء "الفتنة أكبر من القتل" (البقرة:217) وفي موضع آخر: "الفتنة أشد من القتل "(البقرة:191).
يتمّ التركيز في حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) على هذا المطلب؛ وهو أنّ النتيجة الباطلة للأنظمة التي تنشأ وتصدر نتيجة الأهواء؛ والتي لا تراعي مباني وأصول كتاب اللّه أن تجد رجالًا يمكن أن يتولوا الحكومة والزعامة ولا أهلية لديهم لهذا المنصب وهذه أكبر فاجعة. وإن أكبر فاجعة في تاريخ البشر قد أوجدها تولي أناسٍ غير صالحين؛ لذلك ترون أنه ومنذ صدر الإسلام وإلى اليوم أن أكثر الاختلافات والمواجهات التي وقعت بين الحق والباطل وبين الأطراف والتيارات المختلفة كانت حول مسألة الإمامة والولاية والحكومة، وأنه طوال التاريخ كان الفراعنة والطواغيت والجبارون الذين شوهوا التاريخ وحرفوه هم أنفسهم الحاكمين بغير حق، وهذا أصل مسلّم به.
ليست مسألة اختيار الوالي والحاكم بالقضية الصغيرة والحقيرة. فالدّقة في هذه المسألة، فرض واجب لا يقبل الترك، وليس موردًا مستسهلًا، وليس محلا لغض الطرف عن الأصول، ومكانا لعدم الأخذ بالاعتبار الانحرافات حتى لو كانت في زوايا وموارد صغيرة جدا ودقيقة، لأن هذه الزاوية الصغيرة نفسها والمحدودة التي لا تلفت نظركم اليوم كثيرا، ستوجِد في حياة الناس فيما بعد، مع مرور الوقت، دائرةً واسعة وفضاءً رحبا من الانحراف وهذا الشيء سيأتي بالفجائع لمستقبل التاريخ؛ لذلك من غير المسموح غضّ الطرف وإغماض العيون وعدم الملاحظة والدقة ولا مجال لتجاهل الشروط والضوابط؛ فلو تجرأ الإنسان في أي مكان آخر على مخالفة الأنظمة والشروط، فلا ينبغي أن تجره هذه الجرأة إلى المخالفة في هذه المسألة، ينبغي معرفة الشروط والضوابط ومراعاتهما.
ويقول الإمام علي في هذه الخطبة نفسها لو أنّ الحق ظهر للناس واضحًا جليًّا لما استطاع أحد التفوّه بشيء ضدّ الحق. ولو ظهر الباطل بشكل واضح لما مال الناس نحوه؛ «ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان»؛ فالذين يريدون إضلال الناس لا يعرضون الباطل خالصًا بل يمزجون الحق بالباطل فتكون النتيجة: «فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه». يشتبه الحق حتى على أنصار الحق؛ عندئذ تصبح البصيرة أوّل واجباتنا.
يجب أن لا نسمح بامتزاج الحق والباطل.
"واحذروا بوائق النقمة وتثبتوا في قتام العشوة" انتبهوا واحفظوا طريقكم في الفضاء الحالك بالفتن المملوء بالغبار. "العشوة" مأخوذة من هذا المعنى "الدوخة والدوار "؛ و"قتام" أيضًا بهذا المعنى؛ يعني أن يواظب الإنسان ولا يضلّ طريقه وسط الغبار المنتشر والجو الملوث والمناخ المليء بالضباب؛ لأنه في الفضاء الصافي يقلّ احتمال ضلال الطريق. "واعوجاج الفتنة". احذروا أن تضلوا الطريق عندما تقبل الفتنة باعوجاجها.
"عند طلوع جنينها وظهور كمينها". عندما تُظهر الفتنة مخبوءاتها ومكنوناتها تظهر عواملها الموجودة داخلها بغتة. ليس الأمر بحيث نقول أنه عندما تظهر الفتنة نقف أمامها؛ أبدا. تظهر الفتنة بعد الجنين والكمين. بمعنى أنها تكون مخفية ومغطاة في البداية؛ تُوجدها عوامل وعناصر وقد حان وقت ظهورها. وبعد ذلك يصعب الرجوع عن هذه العوامل، بمعنى أن الرجوع والعودة سيأخذ وقتًا. لذلك يجب السعي كي لا تتوفر عوامل الفتنة. "وانتصاب قطبها ومدار رحاها"([2]) تستحوذ هذه العبارة، من الجهة الأدبية والبلاغية، على مستوىً رفيعٍ من الجمال والروعة. وفي الحقيقة؛ فإن ما يبعث على الدهشة أن شخصًا ]كأمير المؤمنين عليه السلام[ عندما يتكلم فإن كل ما يجري على لسانه يكون في نهاية الجمال والذوق الأدبي؛ فهذه العبارات تريد الإشارة إلى أنه عندما تستيقظ الفتنة وتخرج من مكمنها وتظهر نفسها وتهجم عليك فجأة؛ قبل ذلك تكون أنت قد أوجدتَ في داخلك عناصرها وعواملها. لذا ينبغي الحذر والتيقظ. بمعنى أنه يجب أن لا تحدث هذه الغفلة[3]. فعندما لا نكون غافلين؛ يعني أننا متنبّهون ومدركون للاتجاه والهدف عند السير إليه. ولو تقدمنا وسرنا ونحن في سكر وغفلة، فسنرى أنفسنا فجأة في حقل ألغام وعندها لن يكون من السهولة العودة والرجوع. يرى الإنسان أحيانا أنه وقع في حادثة لن يتيسر له الخروج منها بسهولة؛ أما إذا كان ملتفتًا وحذرًا منذ البداية ولم يصبه السكر، يمكنه التقدّم. كانت هذه الخطبة وفيها ذكرت سكر النعمة.
الاستقامة والبصيرة، مقتطف من كلمات سماحة الإمام القائد السيد علي الخامنئي (دام ظله) حول البصيرة والاستقامة
([1]) نهج البلاغة، خطبة 50.
([2]) -]نهج البلاغة؛151[
([3])-]السكر حتى الثمالة[