قال تعالى: ﴿خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجهلين * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم﴾([1]).
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: لا آية في القرآن أجمع في "المسائل" الأخلاقية من هذه الآية. قال بعض الحكماء في تفسير هذا الحديث: إن أصول الفضائل الأخلاقية وفقا لأصول القوي الإنسانية "العقل" و"الغضب" و"الشهوة" تتلخص في ثلاثة أقسام:
1 - الفضائل العقلية: وتدعى بالحكمة، وتتلخص بقوله تعالى: وامر بالعرف.
2 - والفضائل النفسية في مواجهة الطغيان والشهوة، وتدعى بالعفة، وتتلخص ب"خذ العفو".
3 - والتسلط على القوة الغضبية، وتدعى بالشجاعة، وتتلخص في قوله تعالى وأعرض عن الجاهلين. وسواء كان الحديث الشريف يدل على ما فسره المفسرون وأشرنا إليه آنفا، أو كما عبرنا عنه بشروط القائد أو المبلغ، فهو يبين هذه الحقيقة، وهي أن هذه الآية القصيرة الوجيزة تتضمن منهجا جامعا واسعا كليا في المجالات الأخلاقية والاجتماعية، بحيث يمكننا أن نجد فيها جميع المناهج الإيجابية البناءة والفضائل الإنسانية. وكما يقول بعض المفسرين: إن إعجاز القرآن بالنسبة إلى الإيجاز في المبنى، والسعة في المعنى، يتجلى في الآية محل البحث تماما. وينبغي الالتفات إلى أن الآية وإن كانت تخاطب النبي نفسه إلا أنها تشمل جميع الأمة والمبلغين والقادة. كما ينبغي الالتفات إلى أن الآيات محل البحث ليس فيها ما يخالف مقام العصمة أيضا، لأن الأنبياء والمعصومين ينبغي أن يستعيذوا بالله من وساوس الشيطان، كما أن أي أحد لا يستغني عن لطف الله ورعايته والاستعاذة به من وساوس الشياطين، حتى المعصومين. وجاء في بعض الروايات أنه لما نزلت الآية خذ العفو... سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جبرئيل عن ذلك فقال جبرئيل: لا أدري، حتى أسأل العالم ثم أتاه فقال: "يا محمد، إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك([2])". وجاء في حديث آخر أنه لما نزلت آية خذ العفو وامر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين قال النبي: كيف يا رب والغضب؟ فنزل قوله وأما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم([3]). وينبغي الإشارة إلى أن الآية الثانية هنا جاءت في سورة فصلت الآية (36) بتفاوت يسير بين الآيتين، إذ ورد التعبير مكان قوله تعالى: إنه سميع عليم إنه هو السميع العليم. وفي الآية التالية بيان للانتصار على وساوس الشيطان بهذا النحو إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون. أي يتذكرون ما أنعم الله عليهم، ويفكرون في سوء عاقبة الذنب وعذاب الآخرة فيتضح لهم بذلك طريق الحق. والطائف: هو الذي يطوف ويدور حول الشئ، فكأن وساوس الشيطان تدور حول فكر الإنسان وروحه كالطائف حول الشئ ليجد منفذا إليه، فإذا تذكر الإنسان في مثل هذه الحالة ربه، واستعاذ من وساوس الشيطان وعاقبة أمره، أبعدها عنه. وإلا أذعن لها وانقاد وراء الشيطان. وأساسا فإن كل إنسان في أية مرحلة من الإيمان، أو أي عمر كان، يبتلى بوساوس الشياطين. وربما أحس أحيانا أن في داخله قوة مهيمنة تدفعه نحو الذنب وتدعوه إليه، ولا شك أن مثل هذه الحالة من الوساوس في مرحلة الشباب أكثر منها في أية مرحلة أخرى، ولا سيما إذا كانت البيئة أو المحيط كما هو في العصر الحاضر من التحلل والحرية، لا الحرية بمعناها الحقيقي، بل بما يذهب إليه الحمقى "من الانسلاخ من كل قيد والتزام أخلاقي أو اجتماعي أو ديني" فتزداد الوساوس الشيطانية عند الشباب. وطريق النجاة الوحيد من هذا التلوث والتحلل في مثل هذه الظروف، هو تقوية رصيد التقوى أولا، كما أشارت إليه الآية إن الذين اتقوا... ثم المراقبة والتوجه نحو النفس، والالتجاء إلى الله وتذكر ألطافه ونعمه وعقابه الصارم للمذنب.. وهناك إشارات كثيرة في الروايات الإسلامية إلى أثر ذكر الله العميق في معالجة الوساوس الشيطانية. حتى أن الكثير من المؤمنين والعلماء وذوي المنزلة كانوا يحسون بالخطر عند مواجهة وساوس الشيطان، وكانوا يحاربونها "بالمراقبة" المذكورة في كتب علم الأخلاق بالتفصيل. والوساوس الشيطانية مثلها مثل الجراثيم الضارة التي تبحث عن البنية الضعيفة لتنفذ فيها. إلا أن الأجسام القوية تطرد هذه الجرائم فلا تؤثر فيها. وجملة إذا هم مبصرون إشارة إلى حقيقة أن الوساوس الشيطانية تلقي حجابا على البصيرة "الباطنية" للإنسان، حتى أنه لا يعرف العدو من الصديق، ولا الخير من الشر. إلا أن ذكر الله يكشف الحجب ويزيد الإنسان بصيرة وهدى، ويمنحه القدرة على معرفة الحقائق والواقعيات، المعرفة التي تخلصه من مخالب الوساوس الشيطانية. وملخص القول: أننا لاحظنا في الآية السابقة كيف ينجو المتقون من نزغ الشيطان ووسوسته بذكر الله، إلا أن الآثمين إخوة الشياطين يبتلون بمزيد الوساوس فلا ينسلخون عنها، كما تعبر الآية التالية عن ذلك قائلة: وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون. "الإخوان" كناية عن الشياطين، والضمير "هم" يعود على المشركين والآثمين، كما نقرأ هذا المصطلح في الآية (27) من سورة الإسراء إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين. و"يمدونهم" فعل مأخوذ من الإمداد ومعناه الإعانة والإدامة، أي أنهم يسوقونهم في هذا الطريق دائما. وجملة ثم لا يقصرون تعني أن الشياطين لا يألون جهدا في إضلال المشركين والآثمين. ثم تذكر الآية التالية حال جماعة من المشركين والمذنبين البعيدين عن المنطق، فتقول: إنهم يكذبونك - يا رسول الله - عندما تتلو عليهم آيات القرآن، ولكن عندما لا تأتيهم بآية، أو يتأخر الوحي يتساءلون عن سبب ذلك: وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها([4]) ولكن قل لهم إنني لا أعمل ولا أقول إلا بما يوحى الله إلي قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. ويتضح من هذه الآية - ضمنا - أن جميع أقوال النبي وأفعاليه مصدرها وحي السماء، ومن قال بغير ذلك فهو بعيد عن القرآن.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - بتصرّف، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
([1]) سورة الأعراف، ١٩٩ – ٢٠٠.
([2]) مجمع البيان، ذيل الآية محل البحث.
([3]) روى ذلك صاحب المنار قائلا: روي عن جدنا الإمام الصادق رضي الله عنه في ج 9، ص 538.
([4]) الاجتباء مأخوذ من الجباية، وأصلها جمع الماء في الحوض ونحوه، ولذلك يسمي حوض الماء ب " الجابية، وجمع الخراج يسمى جباية أيضا. ثم توسعوا في الاستعمال فأطلقوا على جمع الأشياء وانتخابها واختيار ما يراد منها اجتباء. فجملة " لولا اجتبيتها " تعني لولا اخترتها.