يتم التحميل...

في وجوب مودة أهل البيت (عليهم السلام)

إضاءات إسلامية

في وجوب مودة أهل البيت (عليهم السلام)

عدد الزوار: 120



   قام الرسل بإبلاغ رسالات اللّه سبحانه إلى الناس، دون أن يبغوا أجراً منهم، بل كان عملهم خالصاً لوجهه سبحانه، لأنّ إبلاغ رسالاته كانت فريضة إلهية على عواتقهم، فكيف يطلبون الاَجر للعمل العبادي الذي لا يبعثهم إليه إلاّ طاعة أمره وطلب رضاه، ولذلك كان شعارهم دوماً، قولهم: ﴿وَما أسأَلكم عليهِ منْ أَجْر إِن أَجْري إِلاّعلى اللّه ربّ العالَمين﴾([1]).

فقد ذكر سبحانه على لسان الاَنبياء تلك الآية في سورة الشعراء، ونقلها عن عديد من أنبيائه، نظراء:
نوح([2])، هود([3]) صالح([4]) لوط([5]) شعيب([6]).

وقد جاء هذا الشعار في سور أُخرى نقلها القرآن الكريم عن رسله وأنبيائه، فقد كانوا يخاطبون أُمَمهم بقولهم:
﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْري إِلاّ على اللّه﴾([7]).
﴿يا قَوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الّذي فطرني﴾([8]).

فإذا كان هذا موقف الاَنبياء من أُمّتهم، فكيف يصح للنبي الخاتم ص أن يطلب الاَجر؟! بل هو أولى بأن يكون عمله خالصاً للّه، لأنّه خاتم الرسل وأفضلهم، وقد كان يرفع ذلك الشعار أيام بعثته، بأمر منه سبحانه ويتلو قوله تعالى: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلا ّذِكرى لِلْعالَمين﴾([9]).

هذه هي حقيقة قرآنية لا يمكن إنكارها، ومع ذلك نرى أنّه سبحانه يأمره في آية أُخرى بأن يطلب منهم مودة القربى أجراً للرسالة.
ويقول: ﴿قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا ّالمَودَّةَ فِي القُربى﴾([10]).

فكيف يمكن الجمع بين هذه الآية، وما تقدم من الآية الخاصة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والآيات الراجعة إلى سائر الاَنبياء، فإنّهم (عليهم السلام) كانوا على نهج واحد؟
هذا هو السوَال المطروح في المقام.

والاِجابة عليه يتوقَّف على نقل ما ورد حول الموضوع في القرآن الكريم، فنقول:
الآيات التي وردت حول أجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أصناف أربعة:
الاَوّل: أمره سبحانه بأن يخاطبهم بأنّه لا يطلب منهم أجراً، قال سبحانه: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكرى لِلْعالَمين﴾([11]).
الثاني: ما يشعر بأنّه طلب منهم أجراً يرجع نفعه إليهم دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): فيقول سبحانه: ﴿قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ على اللّهِ وهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهيد﴾([12]).
الثالث: ما يُعرّف أجره، بقوله: ﴿قُلْ ما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ شاء أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبيل﴾([13])، فكان اتخاذ السبيل إلى اللّه هو أجر الرسالة.
الرابع: ما يجعل مودة القربى أجراً للرسالة، ويقول: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ المَوَدَّةَ فِي القُربى﴾.
فهذه العناوين الاَربعة لابدّ أن ترجع إلى معنى واحد، وهذا هو الذي نحاول أن نسلّط عليه الاَضواء.
 
الجواب: إنّ لفظة الأجر يطلق على الأجر الدنيوي والأخروي غير انّ المنفي في تلك الآيات بقرينة نفي طلبه عن الناس هو الاَجر الدنيوي على الاِطلاق، ولذلك لم ينقل التاريخ أبداً أن يطلب نبي لدعوته شيئاً بل نقل خلافه.
هذه هي قريش تقدَّمت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي طليعتهم أبو الوليد، فتقدم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: يابن أخي إن كنت إنّما تريد بما جئت به من هذا الاَمر، مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سوَّدناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رأيا تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك، طلبنا لك الطبَّ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبرئك منه، فإنّه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، أو كما قال له حتى إذا فرغ عتبة، ورسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يستمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟
قال: نعم .
قال: فاسمع مني .
قال: أفعل.
فقال: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيم * حم* تَنْزَيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحيم * كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرآناً عَرَبِياً لِقَومٍ يَعْلَمُون َ* بَشيراً وَنَذِيراً فَأعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُون* وَقالُوا قُلُوبُنا في أَكِنَّةٍ مَمّا تَدْعُونا إِلَيْه﴾([14]).
ثمّ مضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها يقرؤها عليه. فلماّ سمعها منه عتبة، أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليها يسمع منه، ثمّ انتهى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى السجدة منها، فسجد ثمّ قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك([15]).

هذا النصّ وغيره يعرب عن أنّ مدار الاِثبات والنفي هو الأجر الدنيوي بعامة صوره، وهذا أمر منفي جداً لا يليق لنبي أن يطلبه من الناس.
قال الشيخ المفيد: إنّ أجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في التقرُّب إلى اللّه تعالى هو الثواب الدائم، وهو مستحق على اللّه تعالى في عدله وجوده وكرمه، وليس المستحق على الاَعمال يتعلَّق بالعباد، لأنّ العمل يجب أن يكون للّه تعالى خالصاً، وما كان للّه فالأجر فيه على اللّه تعالى دون غيره([16]).

إذا عرفت ذلك، فنقول:
إنّ مودة ذي القربى وإن تجلت بصورة الأجر حيث استثنيت من نفي الأجر، لكنّه أجر صوري وليس أجراً واقعياً، فأاَجر الواقعي عبارة عمّا إذا عاد نفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنّه في المقام يرجع إلى المحب قبل رجوعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، وذلك لاَنّ مودة ذي القربى تجرّ المحب إلى أن ينهج سبيلهم في الحياة، ويجعلهم أُسوة في دينه ودنياه، ومن الواضح انّ الحبّ بهذا المعنى ينتهي لصالح المحب. قال الصادق (عليه السلام) : «ما أحب اللّه عزّ وجلّ من عصاه» ثمّ تمثَّل، فقال:


تعصي الاِله وأنت تظهر حبه *** هذا محـال في الفعـال بديـع
لو كان حبك صادقاً لأطعتـه *** انّ المحـبّ لمـن يحـب مطيـع([17])
وسيوافيك أنّ المراد من ذوي القربى ليس كلّ من ينتمي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنسب أو سبب، بل طبقة خاصة من أهل بيته الذين عرفهم بأنّهم أحد الثقلين في قوله: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض«([18]).

فإذا كان المراد من ذوي القربى هوَلاء الذين أنيط بهم أمر الهداية والسعادة فحبُّهم ومودَّتهم يرفع الاِنسان من حضيض العصيان والتمرد إلى عزّ الطاعة.

إنّ طلب المودة من الناس أشبه بقول طبيب لمريضه بعد ما فحصه وكتب وصفة: لا أُريد منك أجراً إلاّ العمل بهذه الوصفة، فإنّ عمل المريض بوصفة الطبيب وإن خرجت بهذه العبارة بصورة الأجر، ولكنّه ليس أجراً واقعياً يعود نفعه إلى الطبيب بل يعود نفعه إلى نفس المريض الذي طلب منه الأجر.

وعلى ذلك فلابدّ من حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع، كأن يقول: قل لا أسألكم عليه أجراً، وإنّما أسألكم مودة ذي القربى، وليس الاستثناء المنقطع أمراً غريباً في القرآن بل له نظائر مثل قوله: ﴿لا يسمعون فيها لَغْواً إِلاّ سَلام﴾([19]).

وعلى ذلك جرى شيخ الشيعة المفيد في تفسير الآية، حيث طرح السؤال، وقال:
فإن قال قائل: فما معنى قوله: ﴿قُلْ لا أَسألكم عليهِ أَجْراً إِلاّ المَودَّة فِي القُربى﴾ أو ليس هذا يفيد أنّه قد سألهم مودة القربى لأجره على الأداء؟
قيل له: ليس الأمر على ما ظننت لما قدمنا من حجّة العقل والقرآن، والاستثناء في هذا المكان ليس هو من الجملة لكنّه استثناء منقطع، ومعناه قل لا أسألكم عليه أجراً لكنّي ألزمكم المودة في القربى واسألكموها، فيكون قوله: ﴿قُلْ لا أسْألكُمْ عليهِ أَجر﴾ كلاماً تاماً، قد استوفى معناه، ويكون قوله: ﴿ إِلاّ المودة في القُربى﴾ كلاماً مبتدأً، فائدته لكن المودة في القربى سألتكموها، وهذا كقوله: ﴿فَسَجَد المَلائِكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاّ إِبْلِيس﴾([20]) والمعنى فيه لكن إبليس، وليس باستثناء من جملة([21]).

وعلى ضوء ذلك يظهر معنى قوله سبحانه: ﴿ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ﴾([22]).
وقد تبَّين انّ حبّ الاَولياء والصالحين لصالح المحب قبل أن يكون لصالحهم.
كما تبَّين معنى قوله سبحانه في شأن ذلك الأجر: ﴿ما أَسأَلكُمْ عليه مِنْ أَجْر إِلاّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبيل﴾([23]).

فإنّ اتخاذ السبيل لا يخلو من أحد احتمالين:
1. مودَّة القربى والتفاني في حبهم الذي سينتهي إلى العمل بالشريعة الموجب لنيل السعادة.
2. نفس العمل بالشريعة الذي يصل إليها الاِنسان عن طريق حبهم ومودتهم.
وبذلك ترجع الآيات الثلاث إلى معنى واحد من دون أن يكون بينهما أي تناف واختلاف.

وقد جاء الجمع بين مفاد الآيات الثلاث في دعاء الندبة الذي يشهد علو مضامينه على صدقه، حيث جاء فيه:
»ثمّ جعلت أجر محمّد (صلى الله عليه وآله) مودّتهم في كتابك، فقلت ﴿لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى﴾ وقلت: ما سألتكم من أجر فهو لكم، وقلت: ﴿ما أسألكم عليه من أجر إلاّمن شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيل﴾، فكانوا هم السبيل إليك، والمسلك إلى رضوانك«.
وإلى ذلك يشير شاعر أهل البيت ويقول:
موالاتهم فرض وحبهم هدى *** وطاعتـهم ودٍّ وودُّهـم تقـوا
 
وأمّا القربى فهو على وزن البشرى والزلفى بمعنى القرابة، يقول الزمخشري: القربى مصدر كالزلفى والبشرى، بمعنى القرابة والمراد في الآية «أهل القربى«([24]).

وقد استعمل القرآن الكريم لفظة القربى في عامة الموارد بالمضاف، فتارة بلفظة ذي، قال سبحانه: ﴿وِبالوالدين أَحساناً وذي القُربى واليَتامى﴾([25]).

وأُخرى بلفظة ذوي، قال سبحانه: ﴿وَاتَى المال عَلى حُبِّهِ ذَوي القُربى وَاليَتامى﴾([26]).

وثالثة: بلفظة «أُولي»، قال سبحانه: ﴿ما كان لِلنَّبيّ وَالّذينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكينَ وَلَو كانُوا أُولي قُربى﴾([27]).

وقد جاءت مرة واحدة دون إضافة وهي نفس الآية المباركة، فلاَجل ذلك يلزم تقدير شيء مثل لفظة «أهل» كما قدَّره الزمخشري أو لفظاً غير ذلك مثل كلمة «ذي» أو «ذوي» أو «ذوي قربى«.

إلى هنا تمت الاِجابة عن السوَال الاَوّل حول الآية.
 
أهل البيت سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم، العلامة المحقّق الشيخ جعفر السبحاني


([1]) الشورى: 109.
([2]) الشعراء:109، 127، 145، 164، 180.
([3]) الشعراء:109، 127، 145، 164، 180.
([4]) الشعراء:109، 127، 145، 164، 180.
([5]) الشعراء:109، 127، 145، 164، 180.
([6]) الشعراء:109، 127، 145، 164، 180.
([7])هود:29.
([8])هود: 51.
([9]) الاَنعام: 90.
([10]) الشورى: 23.
([11]) الاَنعام: 90.
([12]) سبأ: 47.
([13]) الفرقان: 57.
([14]) فصّلت: 1 ـ 5.
([15]) السيرة النبوية:1|293ـ 294.
([16]) تصحيح الاعتقاد: 68.
([17]) سفينة البحار: مادة حبَّب.
([18]) أخرجه الحاكم في مستدركه :3|148، وقال: هذا حديث صحيح الاسناد على شرط الشيخين. ولم يخرجاه، وأخرجه الذهبي في تلخيص المستدرك معترفاً بصحته على شرط الشيخين قلت: هذا حديث متواتر وقد ألَّف غير واحد من المحقّقين رسائل حوله.
([19]) مريم: 62.
([20]) الحجر: 30 ـ 31.
([21]) تصحيح الاعتقاد:68.
([22]) سبأ: 47.
([23]) الفرقان: 57.
([24]) الكشاف:3|81 في تفسير الآية.
([25]) البقرة: 83.
([26]) البقرة: 177.
([27]) التوبة: 113.

2021-02-02