التعصّب الممدوح والمذموم
عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
مَن كان في قلبه حبّة من خردل من عصبيّة، بعثه الله تعالى يوم القيامة مع أعراب
الجاهليّة"[1].
تمهيد
إنّ التعصّب هو أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته (قرابته) والتألّب معهم على من
يناويهم، ظالمين كانوا أو مظلومين، والعصبيّ هو من يعين قومه على الظلم ويغضب
لعصبته ويحامي عنهم[2].
وقد سُئِل الإمام علي بن الحسين عليهما السلام عن العصبيّة، فقال: "العصبيّة التي
يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من
العصبيّة أن يحبّ الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم"[3].
وهي من أخطر النزعات وأفتكها في تشـتّت المسلمين وتفرّقهم، وإضعاف طاقاتهم،
الروحيّة والمادّيّة، وقد حاربها الإسلام، وحذّر المسلمين من مفاسدها وآثارها
السلبيّة على الجميع، يقول الإمام الصادق عليه السلام: "مَن تعصَّب، عصَّبه الله
بعصابة من نار"[4].
أوّلاً: إمام المتعصّبين
للتعصّب أساس يعود تاريخه إلى افتخار الشيطان على أبينا آدم عليه السلام
بخلقه، حيث تعصّب لأصله، ويحكي القرآن الكريم قوله:
﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ
وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾[5].
فإبليس إمام المتعصّبين، والعصبيّة من جنوده المودية إلى الهلاك، لأنّها تسلك
بصاحبها سبيل الضلال والغيّ، وتبعده عن طريق الحقّ والرشاد.
وقد ذمّ أميرُ المؤمنين عليه السلام إبليس قائلاً: "فافتخر على آدم بخلقه، وتعصّب
عليه لأصله، فعدوُّ الله إمام المتعصّبين وسلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبيّة
ونازع الله رداء الجبريّة، وادّرع لباس التعزّز، وخلع قناع التذلّل"[6].
وفي حديث آخر: "اعترته الحميّة، وغلبت عليه الشقوة، وتعزّز بخلقه النار، واستوهن
خلق الصلصال"[7].
ثانياً: التعصّب للحقّ
لا ريب أنّ العصبيّة الذميمة التي نهى الإسلام عنها هي: التناصر للباطل،
والتعاون على الظلم، والتفاخر بالقيم الجاهليّة.
أمّا التعصّب للحقّ، والدفاع عنه، والتناصر لتحقيق المصالح الإسلاميّة العامّة،
كالدفاع عن الدين، وحماية الوطن، وصيانة كرامات المسلمين وأنفسهم وأموالهم، فهو
التعصّب المحمود الباعث على توحيد الأهداف والجهود، وتحقيق العِزة والمنعة
للمسلمين.
قال الإمام زين العابدين عليه السلام: "إنّ العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها، أن
يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرجل
قومه، ولكِن من العصبيّة أن يعين قومه على الظلم"[8].
وعنه عليه السلام أنّه قال: "لم يدخل الجنّة حميّة غير حميّة حمزة بن عبد المطلب؛
وذلك حين أسلم غضباً للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم"[9].
ولقد هاجم أمير المؤمنين عليه السلام الروح العصبيّة، مبيّناً التعصّب الممدوح في
خطبة القاصعة قائلاً: "فإن كان لا بدّ من العصبيّة، فليكن تعصبّكم لمكارم الخصال
ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور، الّتي تفاضلت فيها المُجداء النُجداء من بيوتات
العرب ويعاسيب القبائل... فتعصّبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار والوفاء بالذمام
والطاعة للبرّ، والمعصية للكِبْر، والأخذ بالفضل، والكفّ عن البغي"[10].
وعنه عليه السلام أنّه قال: "إن كنتم لا محالة متعصّبين، فتعصّبوا لنصرة الحقّ
وإغاثة الملهوف"[11].
ثالثاً: عاقبة العصبيّة
أ. الخروج من الإيمان
لأنّ الإيمان هو التصديق بالقلب، والعمل بالحقّ والعدل، كما جاء في
الحديث الشريف عن الإمام الرضا عليه السلام: "وهو معرفة بالقلب، وإقرار باللسان،
وعمل بالأركان"[12].
وهذا يعني أنّ العصبيّة ستصادم الحقّ وتعاكسه، أي إنّها ستتعارض مع الإيمان؛ لأنّ
من الإيمان العمل والسير على مقتضى الحقّ والانصاف، فحلول العصبيّة في القلب ينفي
الحقّ والإيمان؛ لأنّ المتعصِّب سيأخذُ جانباً معروفاً مسبقاً ويدافع عنه، حتّى وإن
لم يكن على الحقّ!
وقد نصَّت الرِّواية عن الإمام الصَّادق عليه السلام على ذلك: "من تَعصَّب أو
تُعُصِّبَ له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه"[13].
وجعل الله تعالى التعصّب وصفاً لقلوب الكافرين، حيث قال:
﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾[14].
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ الملائكة كانوا يحسبون أنّ إبليس
منهم، وكان في علم الله أنّه ليس منهم، فاستخرج ما في نفسه بالحميّة والغضب، وقال:
خلقتني من نار وخلقته من طين"[15].
ب- الحشر مع الأعراب
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن كان في قلبه حبّة من خردل
من عصبيّة، بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهليّة"[16].
ج- استحقاق النار
عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "من تعصّب، عصّبه الله عزّ وجلّ
بعصابة من نار"[17].
رابعاً: الإسلام دين التناصر
جاء الإسلام، والناس متفرّقون شيعًا وأحزابًا وقبائل، فجمع الله به
الناس، وألَّف به بين قلوبهم: قال الله تعالى:
﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانً﴾[18].
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "صعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
المنبر يوم فتح مكّة، فقال: أيّها الناس، إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهليّة
وتفاخرها بآبائها، ألا إنّكم من آدم عليه السلام، وآدم من طين، ألا إنّ خير عباد
الله عبدٌ اتّقاه، إنّ العربيّة ليست باب والد، ولكنّها لسان ناطق، فمن قصر به
عمله، لم يبلغه حسبه، ألا إنْ كان دم كان في الجاهليّة أو إحنة[19]، فهي تحت قدمي
هذه إلى يوم القيامة"[20].
وقد ربَّى الإسلام أبناءه على استشعار أنّهم أفراد في مجموعة، وأنّهم أجزاء من هذه
الجماعة الكبيرة، فالمسلم بشعوره أنّه جزء من الجماعة يحبّ للأجزاء الأخرى مثل ما
يحبّ لنفسه.
فإنّ انتماء المسلم للجماعة يترتّب عليه حقوق وواجبات، ومن أعظمها واجب التناصر بين
المسلمين.
وقد أوصى أمير المؤمنين عليه السلام ولديه الحسن والحسين عليه السلام بقوله: "وكونا
للظالم خصماً، وللمظلوم عَوْناً"[21]. وعنه عليه السلام أيضاً: "أحسن العدل نصرة
المظلوم"[22].
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال: "اللهمّ، إنّي أعتذر إليك من مظلوم
ظُلِم بحضرتي، فلم أنصره"[23].
الإنسان والمجتمع، دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] الشيخ الكلينيّ،
الكافي، مصدر سابق، ج2، ص308.
[2] ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، ج9، ص232، 233.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص308.
[4] المصدر نفسه.
[5] سورة الأعراف، الآية 12.
[6] نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 286.
[7] المصدر نفسه، ص 42.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص308.
[9] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص308.
[10] نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 295.
[11] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص163.
[12] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج15، ص329.
[13] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص307.
[14] سورة الفتح، الآية 26.
[15] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص308.
[16] المصدر نفسه.
[17] المصدر نفسه.
[18] سورة آل عمران، الآية 103.
[19] الإحنة: الشحناء.
[20] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص246.
[21] نهج البلاغة، مصدر سابق، ص421.
[22] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص113.
[23] الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجّاديّة الكاملة، مؤسّسة النشر
الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة، إيران - قم، 1404 - 1363 ش،
لا.ط، ص187.