آفات التوحيد العباديّ
إنّ القرآن الّذي هو شفاء لما في باطن الإنسان من داء
﴿وَشِفَاءٌ لِمَا فِي
الصُّدُور﴾[1]، يعرِّف الإنسان علىٰ آفات التوحيد العبادي، فالتوحيد في العبادة له
عدوّ باطنيّ، وعدوّ خارجيّ. فالعدوّ الباطنيّ وصفته بعض الروايات بأنّه (أعدىٰ
الأعداء) فقالت: «أعدىٰ عدوّك نفسك الّتي بين جنبيك»[2] فهو الهوىٰ والشهوات، الّذي
لايعيق الإنسان عن بلوغ الكمال فحسب، بل يحطّم الإنسان شيئاً فشيئاً إلىٰ درجة أن
لاينال من عمره شيئاً سوىٰ الحسرات والآهات. والسرّ في كونه (أعدىٰ الأعداء) هو
انّه ليس هناك من عدوٍّ يفعل بالانسان هذا الفعل المشين الّذي يفعله هوىٰ النفس،
فهو بواسطة الإفراط في الأكل والنوم والكلام يَشُلّ الإنسان بحيث لايبقي له قدرة
علىٰ الحركة.
امّا العدوّ الخارجي للتوحيد العباديّ فهو الشيطان. وبالطبع فإنّ العدوّ الخارجيّ
يغوي الإنسان بواسطة التصرّف في مصادر حسّه وطرق ادراكه وأعضائه الحركيّة. ولهذا
فهذان العدوّان يرجعان الىٰ سببين طوليّين لاعرضيّين، أي أنّ العدوّ الخارجيّ
(الشيطان) يجرُّ الإنسان نحو الفساد عن طريق العدوّ الباطنيّ (هوىٰ النفس)، وأدوات
اغوائه هي وسوسة النفس. والشيطان يقول حول طريقة اختراقه للقلوب:
﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُم﴾[3]، فهو يوقع بالإنسان عن طريق
(الاُمنيّة). فالشيطان لايستطيع أن يُضِلَّ أحداً بغير وسيلة للإغواء، بل هو مثل
السمّ القاتل الّذي يفتك بالإنسان عن طريق الجهاز الهضميّ. فالسمّ مالم يؤكل وما لم
يجذبه الجهاز الهضميّ فإنّه لايؤثّر شيئاً.
والعابد الّذي يُصغي الىٰ هذين العدوّين، فهو ليس موحّداً في العبادة، وإذا قال في
الصلاة (ايّاك نعبد) فهو كاذب. ومثل هذا الإنسان المُنفلت قد شيّد في باطنه معبداً
للأصنام فهو منهمك في عبادة الصنم، وليس له من التوحيد نصيب.
وقد حذَّرَ القرآن الكريم من خطر هذين الأمرين، فقال حول العدوّ القريب والباطنيّ:
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ
وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَة﴾[4] فالّذي
يعمل طبقاً لما يشتهي، والمنفلت هو مطيع لهواه وليس تابعاً لقانون الله، وهو في
الواقع يعبد هواه فإلٰهه هواه وهو (عبد الهوىٰ) وليس (عبداً لله).
امّا فيما يتعلّق بالأمر البعيد والخارجيّ فيقول تعالىٰ:
﴿أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌ مُّبِين﴾.[5] وإذا ما اُبتلي الإنسان بخدعة عامل الهلاك القريب أو البعيد
فوقع في عبادة الصنم، فهو مشمول بالخطاب التوبيخيّ لنبيّ الله ابراهيم (عليه
السلام) حيث قال:
﴿أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّه﴾.[6]
فالقرآن الكريم من جهة يعتبر البعض عبيد الهوىٰ ومن جهة اُخرىٰ يقول علىٰ لسان
الخليل «اُفّ لمن يعبد غير الله» وهذا «التأفّف» ليس لعناً وانزجاراً موقّتاً
وعابراً حتّىٰ يكون موعده قد انقضىٰ وتصرّم، بل هو من كلام القرآن الّذي هو «يجري
كما يجري الشمس والقمر»[7]، وعليه فإنّه اليوم أيضاً، يخاطب حجّة العصر الإمام
المهدي (عج) عبيد الهوىٰ ويقول:
﴿أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ
اللَّه﴾.
فالإنسان من جهة يبلغ بالعبادة المقام الشامخ ويرقىٰ إلىٰ ذرىٰ الولاية ويثبت اسمه
في سجلّ المقبولين، ومن جهة اُخرىٰ يتسافل بسبب عبادة الهوىٰ ويسقط إلىٰ حضيض
الضلالة بحيث يستحقّ الخطاب المشين المذكور. والإنسان بتغلّبه علىٰ هذين العدوّين
الباطنيّ والخارجيّ (الهوىٰ والشيطان) وسيطرته عليهما يصل الىٰ درجة التوحيد
الصادق.
والقرآن الكريم في مقام تبيين صفات الموحّدين الصادقين ومدحهم يقول:
﴿وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئ﴾[8]، أي انّ الموحّدين الصادقين
إذا أصبحت بيدهم القدرة والحكومة، فليس فقط يعبدون الله بل هم لايجعلون لله أيّ
شريك أيضاً.
وصحيح انّ جملة (يعبدونني) غير مفيدة للحصر، لكن جملة (لايشركون بي شيئاً) الّتي هي
نكرة في سياق النفي تفيد الحصر، وحيث انّ الجملة الثانية وردت الىٰ جانب الجملة
الاُولىٰ بغير حرف عطف فهذا يدلّ علىٰ انّ التوحيد العباديّ ونفي الشرك معنيان غير
منفصلين عن بعضهما، وإذا دلّت النكرة في سياق النفي علىٰ نفي جميع أنحاء الشرك
فالعبادة ستكون خالصةً لله، وهذا هو نفسه مضمون: (ايّاك نعبد).
والصفات المذكورة تتعلّق بالمؤمنين الصالحين الّذين وصلوا الىٰ سُدّة الحكم وليست
محصورة بالمرسلين والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ولهذا فانّ الوصول الىٰ هذا
المقام ميسور لكلّ انسان.
وخلاصة القول هي انّ الله سبحانه من جهة يحصر العبادة والخوف والرهبة في ذاته
المقدّسة:
﴿إِيِّاكَ نَعْبُد﴾،
﴿إِيَّايَ فَارْهَبُون﴾[9]، ومن جهة اُخرىٰ يبيّن
أعداء وآفات التوحيد العباديّ ويوضّح سبيل علاجها ومواجهتها ومن جهة ثالثة يكلّف
الجميع بالإلتزام بها، ومن جهة رابعة يعدّ المحاور الأساسيّة للتكليف سهلة وبعيدة
عن العسر والحرج. وبالنتيجة فإنّ تحصيل مثل هذا الكمال مقدور للإنسان، بل هو سهل
عليه.
آية الله الشيخ جوادي آملي
[1] . سورة يونس، الآية
57.
[2] . البحار، ج67، ص64.
[3] . سورة النساء، الآية 119.
[4] . سورة الجاثية، الآية 23.
[5] . سورة يس، الآية 60.
[6] . سورة الأنبياء، الآية 67.
[7] . البحار، ج89، ص97.
[8] . سورة النور، الآية 55.
[9] . سورة البقرة، الآية 40.