نماذج من المقامات العرفانية للمرأة
المرأة في القرآن والسنة
النساء اللواتي كان لهن ذوق عرفاني في الإسلام، واللواتي قلن جملاً وكلمات عرفانية رفيعة، أو نظمن شعراً، كن كثيرات في التاريخ ونشير إلى عدة حالات كنماذج. رابعة الشامية هي زوجة أحمد بن أبي الحواري، وفضيلة وكرامة هذه المرأة لم تكن قابلة للإنكار، كان زوجها يقول: عندما نفرش مائدة الطعام...
عدد الزوار: 89رابعة الشامية1
مخاطبة ملك الغيب
رابعة الشامية هي زوجة أحمد بن أبي الحواري، وفضيلة وكرامة هذه المرأة لم تكن قابلة للإنكار، كان زوجها يقول: عندما نفرش مائدة الطعام، كانت رابعة تقول لي: كل (فإنها ما نضجت إلا بالتسبيح). ما المقصود من هذه الجملة؟ هل المقصود أنها كانت تسبح أثناء الطبخ ـ مثل الكلام الذي ورد بشأن بعض مراجع التقليد، بأن أمه كانت تقول: لم أرضعه الحليب إلا باسم الله ـ أي أنني كنت أقول سبحان الله أثناء طبخ الطعام؟ أم أن المقصود هو أن هذا الطعام طبخ بالتسبيح؟ وأساساً هل يمكن طبخ الطعام بالتسبيح؟
أي أنه إذا قال شخص (سبحان الله) يكون الطعام جاهزاً.
في سورة يونس المباركة، جاءت كيفية تناول أهل الجنة للطعام هكذا: ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾2.
إن قوله: إن دعوى أهل الجنة هو التسبيح ماذ يعني؟ هذه الكلمة تبين مسألتين، الأولى: أن هؤلاء مدعون ويطلبون أمراً، والثانية: أنهم يسبحون ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾. معنى الجملة الوسط واضح إلى حد ما ولكن ما هي الجملة الأولى والجملة الأخيرة؟ وما هو التناسب الموجود بين الإدعاء والتسبيح والتحميد؟
ما هو مسلم أن هؤلاء كائنات ممكنة ومحتاجة، لذا يريدون غذاءً، ولكن عندما يريد أهل الجنة طعاماً وفاكهة لا يقولون لشخص: هيىء لنا فاكهة، أو يدخلون إلى البستان ويقطفون فاكهة، بل إن ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾ كل ما يريده هؤلاء يهيأ بالتسبيح، إذا أرادوا ماء كوثر، يقولون: ﴿سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾، وإذا أرادوا فاكهة يقولون: ﴿سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾ فيثبتون الدعوى بالتسبيح.
التناسب بين إثبات تلك الدعوى والتسبيح هو أنهم عندما يرون أنفسهم محتاجين إلى نعمة من النعم في الجنة، يجدون أن الله تعالى منزه عن هذه الحاجة، فلا يقولون: أعطنا فاكهة أو ماء، بل يقولون: بأن الله منزه عن حاجة، أي أنهم محتاجون. والله مبرأ من الحاجة إلى الفواكه والكوثر، والأدب يقتضي أن يكون للإنسان هذا النوع من السلوك مع الكرماء، فكيف بالسلوك مع الله الذي هو خالق الكرماء، لا يقول: أنا محتاج، أعطني بل أنت لا تريد، أنت لست محتاجاً وهكذا يتكلم أهل الجنة أيضاً ﴿سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾ أنت منزه عن أن تكون محتاجاً آنا، أي أعطنا، هذا بيان العلاقة بين الادعاء والتسبيح.
أما الجملة الثالثة ـ العلاقة بين الادعاء والحمد ـ ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ﴾ أي بعد ذلك التسبيح، عندما تلقوا أنعاماً من الله، يبرزون في مقام الشكر ويقولون: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، الحمد بعد التسبيح، التسبيح هو بمعنى الطلب تلويحاً وعندما استجيب للطلب وحصل هذا المحتاج على ما يحتاجه، يأتي دور الشكر والحمد، لذا يقولون: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
وتقول رابعة الشامية لزوجها: كل هذه المائدة (فإنها ما نضجت إلا بالتسبيح)، قد لا يكون مقصودها أنها عندما كانت تذهب إلى المطبخ تسبح في لسانها وتقول في حال طبخ الغذاء (سبحان الله). بل قد يكون مقصودها إن هذا الطعام طبخ بالتسبيح.
فالمرأة يمكن أن تحصل على مثل هذا المقام.
وهذه المرأة لها شعر تربوي أيضاً، يقول زوجها: إن لها حالات متنوعة. كما أن أصحاب الرأي لهم أفكار متنوعة، بسبب أن مقدمات متنوعة تظهر في أذهانهم ـ أصحاب القلوب أيضاً لهم انجازات متنوعة، لأن واردات متنوعة تظهر في قلوبهم، أحياناً واردة الحب، وأحياناً واردة الخوف، وأحياناً واردة الأمل، ويقولون كلاماً مناسباً لكل واردة كان حب الله يرد عليها وتقول:
حبيب ليس يعد له حبيب وما لسواه في قلبي نصيب
حبيب غاب عن بصري وشخصي ولكن عن فؤادي ما يغيب
حبيبي هو الذي ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾3 أما "وقلبي بحبك متيماً"4 فهو مستور عن العين لأنه منزه عن أن تراه العين، ولكن له محل في القلب.
كانت أحياناُ تعيش حالة أنس بالله، وتنظم فيه شعراً وتقول:
ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس. وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
وأحياناً تتغلب عليها حالة الخوف وتقول:
وزادي قليل ما أراه مبلغي أللزاد أبكي أم لطول مسافتي
أتحرقني بالنار يا غاية المنى فأين رجائي فيك؟ وأين مخافتي
وهناك كلام لأمير المؤمنين عليه السلام في الأدعية حيث يقول:"آه من قلة الزاد وطول الطريق وبعد السفر وعظيم المورد"5.
رابعة البصرية العدوية6
هناك كلمات تربوية عن رابعة العدوية في هذا المجال، فقد ذكر أنها كانت تبكي كثيراً، وكانت تندهش عندما يرد كلام عن النار وكانت تقول: (استغفارنا يحتاج إلى استغفار)، هذه هي المعرفة الرفيعة التي يقولها سيد الشهداء عليه السلام في دعاء عرفة: "إلهي من كانت محاسنه مساوىء فكيف لا تكون مساوئه مساوىء"7.
الشخص الذي يعرف محاسنه جيداً، يتضح ـ بخياله ـ انه وصل إلى درجات رفيعة، الشخص الذي يصلي ويتصور أنه عمل عملاً، ولا يعلم أن كل هذا التوفيق هو ببركة اللطف الإلهي، الشخص الذي يبكي ويستغفر ويتصور أنه عمل عملاً مهماً، هذه هي (محاسنه المساوىء)، حسنته سيئة، فكيف بسيئته؟ هذه المرأة تقول إن استغفارنا يحتاج إلى استغفار، لأن هذا الاستغفار غير خالص أيضاً، لم تكن تقبل من الناس شيئاً وكانت تقول (مالي حاجة بالدنيا). عندما سمعت أن سفيان الثوري يقول: (واحزناه) إلى متى يجب أن نكون حزينين؟ قالت (واقلة حزناه). أنا أتألم لماذا ألمي قليل، أنت تقول لماذا أصل الحزن؟ أما أنا أقول لماذا قلة الحزن؟
نقل عن هذه المرأة كلام تربوي آخر، إذ قالت: "اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم".
لأن إظهار الحسنة نقص عند الإنسان، لأنها تظاهر.
قول أهل المعرفة: إن ظهور أولياء الله في العبودية أولى لهم من الظهور في الربوبية. إذا لم تقتض الضرورة فان أي ولي من أولياء الله لا يبين معجزة، لأن الإعجاز هو ظهور الربوبية، لذا يقول الذين وصلوا إلى المقصد: إن ظهور أولياء الله في العبودية ألذّ من ظهورهم في الربوبية، ولو لم تقتض الضرورة لا يظهرون في الربوبية، أي لا يأتون بمعجزة أبداً، لأن المعجزة هي مظهر الربوبية.
﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ﴾8.
لو لم يك إذن الله لم يستطع أي رسول الآتيان بمعجزة وآية، والمقصود من الإذن هنا هو الإذن التكويني أيضاً. ويشرع بـ (كن فيكون) التي يقولها الله، وإلا فأي كائن سواء كان ملكاً أو إنساناً لا يستطيع أي عمل بالاستقلال. كل العالم يدار بأمر الله. وعندما يظهر إعجاز فهذه ربوبية الله تظهر في كسوة الإنسان الكامل، وطبعاً انفصال الظاهر، عن المظهر، محفوظ، ثم إن هذا هو مقام فعل لا مقام الذات. الفرض أن سيرة السالكين الواصلين هي ظهورهم في العبودية لا في الربوبية.
وأسند الشيخ شهاب الدين السهروردي في كتاب عوارف المعارف بيتين منسوبين إلى رابعة العدوية وهذان البيتان عبارة عن:
إني جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
كثير من أولئك النساء كنّ يستيقظن طوال الليل، بعضهن كانت تقول: رأيت في عالم الرؤيا آثار خيرها تصلني في أطباق نور، كانت أحياناً تخاطب نفسها وتقول: "يا نفسي كم تنامين وإلى كم تنامين يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور" كما كانت تقول:"إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك بل حباً لك وقصداً للقاء وجهك".
هذا الكلام المنسوب إلى الأولياء يتأسى بهم تلاميذهم، كما نظمت الأبيات التالية:
أحبك حبين حب الهوى وحبا لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمّن سواك
وأما الذي أنت أهل له فكشفك لي الحجب حتى أراك
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاك
رابعة بنت إسماعيل
في شرح حياة هذه المرأة9 ورد أنها كانت تقول: "رأيت أهل الجنة يذهبون ويجيئون وربما رأيت الحور العين يستترن مني بأكمامهن". وكما أن الرجال يصلون أحياناً إلى محل يسترون أنفسهم عن الأئمة عليهم السلام كذلك بعض الملائكة يصلون أحياناً إلى محل يسترون أنفسهم عن أولياء الله من الرجال. كما أن النساء يصلن أحياناً إلى محل تستتر الحور العين عنهن. ولكن هل يختفين أم يصبحن تحت شعاع نورهن؟
إن ما ورد في الرواية من أن الشخص الذي يتوضأ يخلق ملك بماء وضوئه، أي يصبح بعملهم الصالح (كن فيكون) وإلا فالملائكة لا هي من النار ولا من الطين، يخلقون بالصلاة. مثل نهر عسل الجنة الذي يخلق بالعمل الصالح.
﴿وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى﴾10.
عسل الجنة ليس من النحل، بل يخلق بالصوم والصلاة. كما أن حور الجنة ليست مثل الإنسان حتى تكون ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ﴾11، وليست مثل الجن، حتى تكون ﴿وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ﴾12، بل هي تخلق بالصلاة، بالعبادة والإطاعة. بناء على هذا إذا كان الملك كائن يخلق بالصلاة، والمصلي أعلى من الصلاة لأن:""فاعل الخير خير منه"13.
فالنساء من أهل الجنة أعلى من الحور، وهذا هو الموقع الواقعي للمرأة، وإذا توهم شخص أن بعض القيود التنفيذية لا تسمح بأن تصل المرأة إلى هذه المواقع العميقة، فهذا توهم باطل.
الخلاصة هي أن الطريق مفتوح للرجل والمرأة بالتساوي وليس هناك أي فرق بينهما في مجال سير الكمالات.
من هم الأبدال والأوتاد؟
لذا عندما سئل عارف: كم عدد (الأبدال)؟ قال: (أربعون نفساً)، وسئل لماذا لم تقل (أربعون رجلاً)، وقلت: أربعون نفساً؟ أجاب: ليس جميع هؤلاء رجال، بل توجد بينهم نساء، هذا أولاً، وثانياً: إن الشخص الذي ينال مقال الأبدال هو إنسان والإنسانية لا تختص بالمرأة أو الرجل14.
الأبدال، في الاصطلاح. هم سالكون ليسوا تحت تدبير شخص معين. ويذكرون بوصفهم (مفِرد) أو (مفرَد)، حيث انهم يقطعون الطريق لوحدهم، وهو وإن كان صعباً ولكنه قابل للمسير فيه، ورغم أن سير الإنسان تحت نظر مدير ومدبر يكون أكثر، ولكن يمكنه قطع هذا الطريق وحيداً.
هناك مجاميع كثيرة لكل منها اسم خاص، ولكن هذا السؤال والجواب طرح بشأن (الإبدال) خاصة، ولذا قال ذلك العارف في الجواب (أربعون نفساً) ولو طرح سؤال كم عدد الاقطاب والأوتاد؟ يمكن أن يقال في الجواب (أربعون نفساً). أي أن الذي يصل إلى هذه المقامات ليس (رجلاً)، بل هو (إنسان) والإنسانية ليست امرأة ولا رجلاً.
وعلى أساس هذه النكتة قيل:
"ولو كان الرجال كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال
فلا التأنيت لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال"15
على أية حال هناك نماذج كثيرة إذا ذكرت سوف يتضح ويتبين كم كان ميزان دور المرأة في صدر الإسلام بالمقارنة مع الرجل، وقد كانت هناك في طول التاريخ نساء بمستوى أويس القرني ولكن بسبب أنهن لم يطرحن أنفسهن بقين مجهولات.
قضية الفضيل بن عياض الذي اشتهر في التاريخ ويذكره العارفون، وتطرح قصته في ذيل الآية الشريفة:﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾16.
هي من الحوادث العرفانية الرفيعة، وقد وقعت حادثة تشبهها لامرأة عارفة كانت لها سابقة فنية، حيث قيل: إن مولاها أرسلها إلى المستشفى بسبب شدة الحيرة و... لأنه رأى انها كانت تقول: شعراً رفيعاً بشأن المحبوب يحير العقلاء، احتار الجميع في من هو ذلك المحبوب؟ ولم يفهم مولاها من أثر سوء ظنِّه من هو محبوب هذه المرأة الذي تقول من أجله هذا الشعر وتبكي وتضج. وعندما ذهب بعض العارفين في ذلك العصر للالتقاء بها فهموا أن هذه المرأة وصلت إلى مقام بحيث لا ترى إلا الله، وتنظم هذا الشعر الأدبي الرفيع في فراقه، وفي النتيجة أخرجوها من المستشفى وفهموا أن طريق القلب، لا يختص بالعارفين الرجال، فالنساء إذا لم يكن كالرجال في هذا الطريق فإنهن في نفس اتجاههم وكفؤهم.
*جمال المرأة وجلالها،الشيخ جوادي آملي،دار الهادي،بيروت ـ لبنان،ط1 1415هـ ـ1994م،ص237ـ246.
1- الدر المنثور، ص 201.
2- يونس:10.
3- سورة الأنعام، الآية: 103.
4- دعاء كميل.
5- نهج البلاغة، الفيض، الحكمة 74.
6- الدر المنثور، ص 202 ـ 203.
7- دعاء عرفة، القسم الأخير.
8- الرعد:38.
9- الدر المنثور، ص 203.
10- محمد،:15.
11- ص:71.
12- الحجر:27.
13- نهج البلاغة، الفيض. الحكمة 31.
14- تفسير روح البيان ذيل الآية: 42 من سورة آل عمران ج 2، ص 34.
15- تفسير روح البيان ذيل الآية: 42 من سورة آل عمران ج 2، ص 34.
16- الحديد:16.