حصار المسلمين في شعب أبي طالب (عليه السلام)
إضاءات إسلامية
حصار المسلمين في شعب أبي طالب (عليه السلام)
عدد الزوار: 110
لما لم تفلح جميع محاولات قريش في ثني النبي (صلى الله عليه وآله) عن دعوته المباركة، ولا في إقناع أبي طالب (عليه السلام) بالتخلي عنه وعن نصرته، ولا في منع الناس من الدخول في الإسلام، عبر وسائل الترهيب تارة والترغيب أخرى، أجمعوا أمرهم على حرمانهم ومقاطعتهم اقتصادياً، والتضييق عليهم في المأكل والمشرب والملبس، وهي آخر وسيلة وأمل لهم، يرجون أن يحصلوا منه على نتيجة مرضية لهم، فإن الإنسان مهما تحمل من الآلام، إلا أن تحمله للجوع والعطش محدود، وهذا ظاهر بمجرد الالتفات إلى طبائع البشر وسلوكهم في الحياة عبر التاريخ، بل ان مجمل الحروب التي حصلت في التاريخ كانت ذات طابع اقتصادي أولا وبالذات، ولو أن النبي (صلى الله عليه وآله) ثبت على موقفه فلن يكون بمقدور اتباعه الصبر على ذلك، والموت في سبيله، ولو فرض ذلك، فإن صراخ الأطفال وأنينهم، تحت ضغط الجوع، ربما دفعهم إلى الاستسلام والتراجع، لعدم قدرتهم على تحمل عذابات أطفالهم أمام أعينهم، فإن العاطفة كثيراً ما تتغلب على العقل في مقامات كهذه، وهو ما يغير المعادلة لمصلحة قريش حسب زعمهم.
فقرروا إدارة الحرب بشكل آخر، من خلال المقاطعة الاقتصادية، وحرمان المسلمين من أدنى مقومات العيش، بعد أن لم تفلح كافة الأساليب الأخرى، فكتبوا في شهر محرم من السنة السابعة للبعثة صحيفة تعاقدوا عليها، ووقع عليها أربعون من شيوخهم، وكتبوا فيها أنهم لا يزوجون بني هاشم وبني عبد المطلب ولا يتزوجون منهم، ولا يبيعونهم ولا يبتاعون منهم، ولا يجتمعوا معهم على أمر من الأمور، أو يسلموا لهم رسول الله ليقتلوه، وإلا فإنهم سيموتون جوعا وعطشا، وبالتالي فلا يتحمل أحد مسؤولية قتلهم، وإما أن يتراجع النبي (صلى الله عليه وآله) عن دعوته وتنتهي المشكلة، وختموها بخواتيمهم وعلقوها في داخل الكعبة.
وأمر أبو طالب بني هاشم أن يدخلوا برسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الشعب، واستمر هذا الحصار حتى السنة العاشرة، والهاشميون يتضورون جوعا وعطشا، لا يقدرون أن يخرجوا من الشعب إلا في الموسم، أي في شهر رجب أثناء العمرة، وفي شهر ذي الحجة أثناء موسم الحج.
وعملت قريش على منع الوافدين إلى مكة من أن يبيعوهم أو يبتاعوا شيئا من الهاشميين، فكانوا يشترون منهم ما يريدون بيعه بأغلى الأثمان، وإن كانت خيالية لا يحلم بها الوافدون، حتى لا يقدر الهاشميون على شراء شيء منهم.
بل عمدوا إلى وضع مراقبين حول الشعب حتى لا يدخل إليهم أحد شيئا، إلا ما كان يأتيهم سرا عن عيون الرقابة.
وكان المسلمون ينفقون أثناء هذه المدة من أموال أبي طالب وخديجة، حتى نفذت واضطروا أن يقتاتوا بورق الشجر، وكان أطفالهم يتضورون جوعا أمام أعين القرشيين، دون أن يهتز لهم جفن، أو يتحرك بهم عرق من عاطفة.
وهنا لا بد أن نشير إلى مسألة ترتبط بأبي طالب (عليه السلام) وهي أنه لو مات كافرا كما يقولون([1])، فما هو الداعي له ليتحمل كل هذه المشاق والأذى بهذا المستوى، وهو لا يأمل الحصول على جاه ولا سلطان ولا غير ذلك، لقاء هذه التضحية والمجاهدة المنقطعة النظير في تاريخ الإنسانية، وما استلزمته معاندة قريش ومخاصمتها من آثار عليه على المستوى الشخصي والمادي، وهو في سن الشيخوخة، والمؤرخون يصرحون بأنه مات عن عمر قارب الستة وثمانين سنة، بل في الشعب كان يأمر ابنه علياً (عليه السلام) أن ينام مكان النبي (صلى الله عليه وآله)، يعني في أواخر عمره، وقد تقدم ذكرها.
ولو فرض جدلا طمعه بمثل ذلك، أو أنه كان يدافع عنه حمية وتعصبا، فهل من الممكن أن تصل الحمية بالمرء أن يدفع ابنه الذي من صلبه إلى الموت بدلا عنه؟!.
نهاية الصحيفة:
وأخيراً، وبعد ثلاث سنوات من الحصار، ظهرت المعجزة الإلهية، فجاء النبي (صلى الله عليه وآله) إلى عمه أبي طالب، وأخبره بأن الأرضة قد أكلت كل ما في الصحيفة، ولم يبق فيها إلا ما كان إسما لله تعالى.
فجاء أبو طالب ومعه بعض الهاشميين إلى قريش، وقال لهم، وقد ظنوا أنه جاء مستسلماً لهم، ابعثوا إلى صحيفتكم لعله يكون بيننا وبينكم صلح فيها، فبعثوا وأتوا بها، فلما وضعت وعليها أختامهم، قال أبو طالب لهم: أتنكرون منها شيئا؟
قالوا: لا.
قال: إن ابن أخي حدثني ولم يكذبني قط، أن الله قد بعث على هذه الصحيفة الأرضة، فأكلت كل قطيعة واثم، وتركت كل اسم هو لله، فإن كان صادقا أقلعتم عن ظلمنا، وإن يكن كاذبا ندفعه إليكم فقتلتموه.
وتجلت في هذا الموقف حكمة أبي طالب، وحنكته العالية، حيث ألزم قريشا بموقف صعب، لا يمكنها التملص منه ومن مفاعيله وتبعاته، وظنت قريش أنها حصلت على ما تريد، فصاح الناس: أنصفتنا يا أبا طالب.
فلما فتحت الصحيفة فإذا هي كما أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكبر المسلمون، وبهت المشركون، فقال أبو طالب: أتبين لكم أينا أولى بالسحر والكهانة؟.
فأسلم يومئذ كثير من الناس كما يذكر الرواة، ولكن قريشا ظلت على موقفها ونقضت اتفاقها مع أبي طالب (عليه السلام)، حتى جاء بعضهم ونقضوا الصحيفة، فخرج الهاشميون من الشعب.
سماحة الشيخ حاتم اسماعيل
([1]) تاريخ الإسلام ج1 ص91.