أجمل الإمام الخامنئي (دام ظله) التوحيد كرؤية وقدمه في رسالته "روح التوحيد" من خلال الميادين التالية:
أ. التوحيد على صعيد التصوّر
بما يعني من وحدة جميع العالم وانسجامه وائتلاف أجزائه وعناصره، ممّا يكشف عن وحدة الخالق المدبّر ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾(9). كما يكشف أنّ للعالم هدفًا ويقوم على أساس حساب وانضباط دقيق، وأنّ لكلّ جزء من أجزاء العالم روحًا ومعنًى ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ﴾(10). فكلّ ما في الوجود يوحِّد الله طائعًا، ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِلاَ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْد﴾(11).
ب. التوحيد على صعيد الفهم للإنسان
وهو يعني وحدة أبناء البشر وتساويهم في ارتباطهم بالله سبحانه، فالله إله الجميع ولا ميزةً لفرد على آخر أو لشعب على شعب إلّا بالعمل الصالح والسعي والمثابرة في خدمة الناس التزامًا بأحكام الله سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾(12).بناءً على ذلك، فإنّ الله جهّز الناس جميعًا بكافّة إمكانات الرقيّ والسموّ والتكامل.
وعليه، فكلّ سيطرة لغير الله على الناس هي نحو من العبوديّة الممقوتة، والتوحيد يرفض هذا الشكل من الحياة، ويعتبر الإنسان عبدًا لله فقط، ويحرّره من العبوديّة والرضوخ لكلّ نظام، بل لكلّ عامل مسيطر يضع نفسه مكان الله. فالتوحيد يعني التسليم لله وحده، ويستتبع ذلك رفض كلّ سلطة غير سلطة الله مهما كان شكلها ونوعها ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَ للهِ أَمَرَ أَلاَ تَعْبُدُوا إِلاَ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾(13).
ج. التوحيد كحاكم على علاقات الإنسان
إنّ الإنسان في الرؤية التوحيديّة التي يقدّمها الإمام الخامنئي، جزء منسجم مع محيط العالم الذي يلفّه ويحويه، وهو في الوقت الذي تتحكّم فيه قوانين هذا العالم، فإنّه يتميّز بقوانين خاصّة تنسجم مع السنن الكونيّة العامّة. فالإنسان يتمتّع بقوّة إرادة وقدرة اختيار، وعليه أن يطوي طريقه الفطريّ الطبيعيّ عن اختيار، لأنّه طريق سموّه وكماله. وهذا يعني أنّه قادر على الانحراف عن هذا الطريق الطبيعيّ ﴿فَمَنْ شَاء فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾(14).
وعليه، فالتوحيد هو الدعوة للإنسان للانسجام والتوازن مع قوانين وسنن العالم ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾(15).
د. التوحيد على صعيد النظم الإنسانيّة
ومفاده سلب كلّ نظام يستقلّ عن الإرادة الإلهيّة في إدارة حياة الإنسان، وأنّ الله هو الحاكم في حياة الناس وإدارتها. عليه، فإنّ ولاية الإنسان على الإنسان لو قامت على أساس حقٍّ مستقلٍّ وبدون مسؤوليّة لاستلزمت الظلم والطغيان والعدوان، الفرد الحاكم والجهاز الحاكم لا يستطيع أن يتخلّص من الانحراف والطغيان والإفراط إلّا إذا كانت زمام الأمور معطاة بيد هذا الفرد أو هذا الجهاز من قبل سلطة عُليا ضمن إطار مسؤوليّات متناسبة. وهذه السلطة العليا في المدرسة الدينيّة هي الله المحيط بكلّ شيء علمًا ﴿لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ﴾(16). بناءً عليه، فقد حدّد ضمن هذا القسم التوحيديّ جملة مهام ملقاة على كاهل الإنسان وأمام وجدانه الإنسانيّ في علاقته مع الناس على أسس توحيديّة منها:
- أنّ الحكم خاص بالله، ينفّذه من أرادهم الله، وهم منفّذون وحفظةً للقوانين الإلهيّة: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(17)، ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾(18).
- أنّ كلّ ما يمتلكه الإنسان إن هو إلّا أمانةً من الله المالك الأوحد وضعها بيد الإنسان ليستثمرها فيما يرضي الله وخدمة الناس وللاستعانة بها على طريق السموّ والتكامل.
- وظيفة الإنسان في نعم الله وكنوز الأرض هو استثمارها بشكل صحيح وعادل، وفتح مغاليق كنوزها، والناس في هذه الغاية متساوون.
- أنّ وظيفة الموحّد هو كسر صنميّة الآلهة المزيّفة ونزع الأصفاد والأغلال عن نفوس الناس وإراداتهم الخلاّقة.
بناءً على ذلك، فقد اعتبر الإمام الخامنئي أنّ أكثر الناس تضرّرًا، وبالتالي عدائيةً لمنهج التوحيد هم أكثر الطغيان والاستكبار ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾(19).
ويقوم الإمام الخامنئي باستعراض عشرات الآيات من كلام الله العزيز بشأن الاستكبار، فيقول: نستطيع أن نفهم المستكبر على النحو التالي: الجناح المسيطر في المجتمع الجاهليّ، الماسك – دون استحقاق – بزمام السلطة السياسيّة والاقتصاديّة، واستمرارًا لاستثماره وتسلّطه الجائر يمسك أيضًا بزمام الأفكار والمعتقدات المسيطرة على الأذهان، ويعمل بأساليب متنوّعة على ملء الأذهان بأفكار تدفع الأفراد إلى الاستسلام له وإلى الانسجام مع الأوضاع القائمة، وهذا المستكبر يهبّ لمقارعة كلّ دعوة إلى التوعية، فما بالك إذا كانت الدعوة انقلابيّة تغييريّة.
وحتّى تُستكمل صورة العرض النظريّ للمستكبرين – حسب الفهم الخاص بالنهج التوحيديّ – فلا بدّ من تحديد من هم المستضعفون وما معنى العبوديّة، ذلك أنّ أيّ نظام جاهليّ ينقسم إلى طبقتين: مستكبرة ومستضعفة، والدين الذي يتبنّاه الناس في المجتمعات الجاهليّة هو الشرك، لارتباطهم بآلهة متعدّدة بتعدّد مراكز القوّة والسيطرة التي تستثمر الناس على طريق أهوائها. فالشرك إن هو إلّا تأليه أفراد إلى جانب الله أو بدلًا من الله، وبتعبير آخر، هو إيكال أمور الحياة إلى غير الله.
أمّا التوحيد، فإنّه يقع في النقطة المقابلة للشرك تمامًا، إذ يرفض كلّ هذه الآلهة، ويرفض التسليم لها، بل يقاوم سيطرتها، ويحصّن القلوب من الركون إليها، ويدفع إلى إزالتها وطردها، ويشدّ الكائن الإنسانيّ بكلّ وجوده إلى الله، ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾(20)، وفي ذلك، التأكيد على "الإيمان بحاكميّة الله وحدها في الحياة، ورفض الآلهة المزيّفة، والارتباط به وحده وتمزيق كلّ قيود العبوديّة الأخرى".
أخيرًا، فإنّ مقتضى معنى العبوديّة، حسب النهج التوحيديّ، يقول فيه الإمام الخامنئي:
نخلص إلى أنّ العبادة في المفهوم القرآنيّ هي: الاتباع والتسليم والطاعة المطلقة أمام قدرة واقعيّة أو وهميّة، طوعًا ورغبةً أو كرهًا وإلزامًا، مع الشعور بالتقديس والثناء المعنوي أو بدونه، هذه القدرة هي المعبود وهذا المطيع هو العبد والعابد. من خلال المفاهيم المتقدّمة يتبيّن معنى لفظة الألوهيّة ولفظة الله باعتبارهما تعبيرًا عن كلمة المعبود(21).
سماحة الشيخ شفيق جرادي، من مقالة: الرؤية التوحيديّة وقيم الحضارة الإسلاميّة – بتصرّف يسير
(9) سورة الملك، الآية 3.
(10) سورة الأنبياء، الآية 16.
(11) سورة مريم، الآية 93.
(12) سورة الحجرات، الآية 13.
(13) سورة يوسف، الآية 40.
(14) سورة الكهف، الآية 29.
(15) سورة آل عمران، الآية 83.
(16) سورة سبأ، الآية 3.
(17) سورة الأنعام، الآية 14.
(18) سورة المائدة، الآية 55.
(19) سورة الصافّات، الآية 35.
(20) سورة النحل، الآية 36.
(21) الإمام الخامنئي، روح التوحيد، مصدر سابق.