روي عنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه عليه السلام يَقُولُ: "الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ، لَا يَزِيدُه سُرْعَةُ السَّيْرِ إِلَّا بُعْداً"[1].
معنى البصيرة
البصيرة هي القدرة على الرؤية الصحيحة المتشكّلة من عقل الإنسان وثقافته وتربيته وتجربته ودينه، وهي ما نصطلح عليه اليوم ب(الوعي)، فقد يكون الإنسان ذا بصرٍ حادّ، لكنّه ذو بصيرةٍ كليلة ضعيفة، ولذا يبيّن الله - جلّ وعلا - أنّ رؤية البصيرة أهمُّ بكثير من رؤية البصر، وذلك في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾[2].
يقول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "ذهاب البصر خير من عمى البصيرة"[3].
أهمّيّة البصيرة
الشخص الذي يمتلك بصيرة، هو ذاك الإنسان العاقل الذي يَعي الواقع ويدركُه ويَعرِف الناس من حوله، أي إنّ لديه القدرة على التمييز بين ما هو مستقيم وما هو منحرِف، ما هو عدلٌ وما هو ظُلم، ما هو حقٌّ وما هو باطل، حسب تعبير الإمام عليّ عليه السلام: "الْخَيْرُ مِنْه مَأْمُولٌ والشَّرُّ مِنْه مَأْمُونٌ، إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ، وإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ"[4]، لأنّه مستقيم في فِكره وعمله.
وكما قال تعالى: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[5].
ومعنى الآية: منكّساً رأسه إلى الأرض، أي لا يُبصر الطريق، ولا من يستقبله، ولا ينظر أمامه ولا عن يمينه ولا عن شماله، فيعثر كلّ ساعة، ويخرّ على وجهه لوعورة طريقه واختلاف أجزائه انخفاضاً وارتفاعاً. فحاله نقيض حال من يمشي سويّاً، ولذلك قابله الله تعالى بقوله: ﴿أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّ﴾، أي مستوياً قائماً يبصر الطريق وجميع جهاته، فيضع قدمه سالماً من العثار والخرور ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾، يعني مستوي الأجزاء والجهة. وقيل: "يراد الأعمى الَّذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسّف، فلا يزال ينكبّ على وجهه، وأنّه ليس كالرجل السويّ الصحيح البصر، الماشي في الطريق المهتدي له"[6].
إنّ الذي يمشي سويّاً، ببصره وبصيرته، أهدى من المنكبّ على وجهه، لا ينتفع ببصره في المشي ولا ببصيرته، لأنّ السير على الطريق المستقيم لا يحتاج فقط إلى عينين مفتوحتين، وإنّما إلى عقل مفتوح أيضاً. أما رأيتَ لو أنّ السائق غفل عن الطريق وشرد ذهنه إلى مكانٍ آخر، لم تنفعه عيناه في ضبط السَيْر حتّى يعود إلى وعيه؟ إذاً، فإنّ الاعتماد على البصر-حتّى في الأمور البصريّة - غير كافٍ، فأنت حينما ترى قصراً أثريّاً ترى منظره الخارجيّ، أي طراز البناء وشكله وهندسته، لكنّ البصيرة تتدخّل لتنقلك إلى مَنْ بناه، ومَنْ سكنَه، لتحصل لديك حالة (الاعتبار) بالآثار.
الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ
"الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ، لَا يَزِيدُه سُرْعَةُ السَّيْرِ إِلَّا بُعْداً".
ومعنى الحديث: شبّه الإمام عليه السلام الجاهل العامل على غير بصيرة قلبيّة، ومعرفة يقينيّة بما يعلمه، بالسائر على غير الطريق المطلوب، تنفيراً بذلك التشبيه عن الجهل الموجِب لسقوط العمل عن درجة الاعتبار، وإيضاحاً للمقصود. وأشار إلى وجه التشبيه بقوله: "لا يزيده سرعة السَيْر إلاّ بُعداً"، أي بُعداً عن المطلوب أو عن طريقه، إذ بُعده عن المطلوب بقَدر بُعدِه عن طريق ذلك المطلوب.
وسرّ ذلك، أنّ الطريق الذي يوصل إلى الحقّ هو طريق واحد، تحيط به طرق الباطل الكثيرة، فمن ضعفت بصيرته سوف تزلّ قدمه، ويختار طريقاً من طرق الباطل والضلال، وسوف يبتعد شيئاً فشيئاً عن طريق الحقّ.
أمّا العامل على بصيرة وهدًى، فهو يعمل بنور بصيرته وهديها، الذي يوصله إلى طريق الحقّ والهداية، فيترقّب أحوال نفسه، فيعرف ما يضرّه وما ينفعه، ليختار الثاني ويترك الأوّل، ثمّ يبقى على هذه الحالة، حتّى ينتهي طريقه ويحصل له القرب المطلوب، الذي هو لقاء الله تعالى[7].
أعمى البصيرة في المفهوم القرآنيّ
من المعروف أنّ المصطلحات تُعرَف بأضّدادها، فإذا عرفنا معنى "أعمى البصيرة" فسنعرف معنى البصيرة بشكلٍ أوضح، بل إنّ هذه الطريقة، أي معرفة الأشياء بأضّدادها، هي من الأساليب التربويّة التي اعتمدها القرآن الكريم في هداية الناس، أي لفْت الأنظار بذِكْر الموازنة بين الضّدين، وإثبات عدم المساواة بينهما ليأخذ بالقلوب نحو اختيار النافع والصالح، وترْك ما سِواه. وهناك آياتٌ كثيرة بيّنت هذا المفهوم، منها الآية السابقة، ومنها قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيل﴾[8]، وغير ذلك من الآيات.
وإذا دقَّقنا النظر، في هذه الآية وغيرها من آي الذِّكر الحكيم، سنجد أنَّه لم يُرَدْ بالعمى - ولِنَقُل في أغلب الآيات القرآنيّة - المكفوف الذي ذهب بصرُه، وإنّما أُريدَ من العمى عمى البصيرة، أي العمى العقديّ، العمى المعنويّ، القلبيّ، الفكريّ، السياسيّ، وما شاكل ذلك.
تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ
قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيل﴾.
يُستفاد من الآية الكريمة عدّة أمور، منها:
• المراد بإمام كلّ أناس في الآية، من ائتمّوا به، سواء كان إمام حقّ أو إمام باطل.
• المراد بالدعوة - على ما يُعطيه سياق الذيل - هو الإحضار، فهم محضرون بإمامهم، ثمّ يأخذ من اقتدى بإمامٍ حقّ كتابه بيمينه، ويظهر عمى من عَمِيَ عن معرفة الإمام الحقّ في الدنيا واتّباعه، هذا ما يُعطيه التدبُّر في الآية.
النتيجة
فالبصيرة مرجِعٌ لِرَفع الالتباس والغموض والحيْرة، أي إنّنا بحاجة إلى نور آخر نكشف به الظلمة العقليّة والروحيّة، وهذا النور هو ما نسمّيه (البصيرة) لرؤية الباطن.
إنّ معي لبصيرتي، دار المعارف الإسلامية الثقافية.
[1] الكلينيّ، محمّد بن يعقوب، الكافي، صحّحَهُ وعلّق عليه عليّ أكبر الغفاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، 1363ه. ش، ط5، ج1، ص43.
[2] سورة الحج، الآية 46.
[3] الواسطيّ، عليّ بن محمّد الليثيّ، عيون الحِكَم والمواعظ، تحقيق الشيخ حسين الحسينيّ البيرجنديّ، دار الحديث، قم، ط1، ص 256.
[4] الرضيّ، السيّد محمّد بن حسين، نهج البلاغة،خُطَب الإمام عليّ عليه السلام، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، دار الهجرة، إيران - قم، 1414ه، ط1، ص305، الخطبة 193.
[5] سورة الملك، الآية 22.
[6] الكاشانيّ، الملّا فتح الله، زبدة التفاسير، تحقيق ونشر مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، قم، 1423ه، ط1، ج7، ص 133.
[7] راجع: المازندرانيّ، محمّد صالح، شرح أصول الكافي، ج2، ضبط وتصحيح السيّد علي عاشور، مع تعليقات الميرزا أبو الحسن الشعرانيّ، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، 2000 م، ط1، ص 135.
[8] سورة الإسراء، الآيتان 71 - 72.