العائلة في النظرية القرآنية
المجتمع الإسلامي
ولاشك أن النظرية الإسلامية تؤمن بان الإنسان ليس حيواناً اجتماعياً كما تزعم النظرية التوفيقية، بل تعتبره كائناً كريماً، رفعه الخالق سبحانه وتعالى بالعلم والعقل والإدراك والتفكير...
عدد الزوار: 112
لاشك أن النظرية القرآنية تولي الأسرة عناية فائقة لإدراكها أهمية الدور الذي ينبغي أن تلعبه تلك المؤسسة على الساحة الاجتماعية، بخصوص ضبط السلوك الجنسي كما في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾1، و﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾2، وتعويض الخسارة البشرية للمجتمع الناتجة بسبب الموت: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ﴾3، ﴿وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾4، وحماية الأفراد وتربيتهم وإشباع حاجاتهم العاطفية: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾5، ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى...﴾6، ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾7، ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾8، وتنميتهم للاختلاط والتفاعل الاجتماعي لاحقاً: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ *وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ﴾9. وينضوي البناء التحتي للنظرية القرآنية على تحديد دوري الرجل والمرأة في المؤسسة العائلية، أو بتعبير أدق: تفصيل التكليف الشرعي فيما يخص واجبات الزوج وحقوق الزوجة أولاً، وحقوق بقية الأفراد في المؤسسة العائلية ثانياً.
ولاشك أن النظرية الإسلامية تؤمن بان الإنسان ليس حيواناً اجتماعياً كما تزعم النظرية التوفيقية10، بل تعتبره كائناً كريماً، رفعه الخالق سبحانه وتعالى بالعلم والعقل والإدراك والتفكير، ومنحه قابلية الاستخلاف في الأرض. بمعنى أن الإنسان المفكر كلما ارتقى عن الحيوان بدرجة التفكير والإدراك، اختلفت ـ عندئذٍ ـ العلاقات والوظائف الاجتماعية بينه وبين الأفراد كماً ونوعاً عن العلاقات الجمعية التي تجمع القطيع الواحد من الحيوانات ضمن مزرعة واحدة. فالحيوانات ضمن ذلك القطيع لا تعرف ضابطاً يضبط سلوكها الجنسي، ولا نظاماً يحدد من شهوتها الهائجة، على عكس النظام الاجتماعي الإنساني الذي ينظم العلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى عن طريق المؤسسة العائلية، التي تعتبر من أهم المؤسسات الاجتماعية خدمة للإنسان.
وبطبيعة الحال، فان الإسلام لم ينظر للمؤسسة العائلية باعتبارها مؤسسة اجتماعية لتعويض الخسائر البشرية الحاصلة نتيجة موت الأفراد فحسب، بل نظر لها باعتبارها محطة استقرار لعالم متحرك، تنتقل من خلاله ممتلكات الجيل السابق للجيل اللاحق عن طريق الإرث والوصية الشرعية، ومحطة لفحص وتثبيت انساب الأفراد عن طريق إعلان المحرمات النسبية والسببية الناتجة عن الزواج، وجواز الإقرار بالنسب، ومركز حماية الأفراد بتقديم شتى الخدمات الإنسانية لهم بخصوص الملجأ والمطعم والدفء والحنان. وإذا كانت العائلة محطة لشحن الطاقات العملية، وقاعدة لتنشيط الإنتاج الاجتماعي، فإنها تعتبر ـ في الوقت نفسه ـ مركزاً لإشباع الحاجات العاطفية كالحب والحنان والعطف والرحمة، ومكاناً لتهذيب السلوك الجنسي، ومسرحاً لتعليم المعارف الأساسية قبل الخروج للساحة الاجتماعية كاللغة والأعراف والعادات والتقاليد والقيم الأخلاقية. فالعائلة ـ إذن ـ تساهم في خلق الفرد الاجتماعي الصالح للعلم والإنتاج والمساهمة في بناء النظام الاقتصادي والسياسي للمجتمع.
وصيانةً لكرامة المرأة، فقد ألحق الإسلام المولود بالزوج بسبب الفراش أولاً، ووطء الشبهة ثانياً، وهو الوطء مع جهل التحريم. واصل الإلحاق ينبع من قاعدة فقهية تسمى بـ (إمكان الإلحاق) التي تسالم عليها الفقهاء. ومن منطلق صيانة حقوق المرأة والمجتمع حرم الإسلام ـ بالنسب ـ زواج الأم، والبنت، والأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت. وحرم ـ بالسبب ـ زواج زوجة الأب على الابن، وزوجة الابن على الأب، وأم الزوجة على زوج ابنتها، وبنت الزوجة، والمطلقة ثلاثاً، والمطلقة طلاق العدة، ونكاح الشغار، والزواج مع الارتداد والكفر، والجمع بين الأختين، وتحريم الزوجة إذا قذفها زوجها بالزنا دون إثبات البينة، وفساد عقد زواج الرجل مع المرأة المتزوجة، والمعتدة من وفاة أو طلاق بائن أو رجعي أو شبهة. وفي كل هذه الأحكام الشرعية، يكون الأصل حفظ حقوق وكرامة المرأة ككيان مستقل جدير بالاحترام، لأن عملية الزواج ليست عملية غريزية فحسب، بل هي مسلك يؤدي بالمرأة إلى طريق الأمومة المتميز عرفاً وشرعاً. ولا سلطان للولي على المرأة البالغة ـ حسب النظرية الإسلامية ـ حيث أن لها الخيار في اختيار الزوج المناسب. وفي الطلاق، فقد حفظت الشريعة كل حقوقها المالية والمدنية.
وعلى ضوء ذلك، فان اتهام نظرية الصراع الاجتماعية المؤسسة العائلية بأنها أول مؤسسة اضطهادية يختبرها الفرد في حياته11، كان مجرد تشخيص لمشكلة اجتماعية إقليمية كانت تعيشها أوروبا في القرون الماضية وتعاني من آثارها السلبية، ولا يمكن تطبيقها على جميع المجتمعات الإنسانية. فهل يستطيع (فريدريك انجلز) أن يحلل معنى الاضطهاد الأسري إذا كان للمرأة حق خيار الفسخ في العيوب الموجبة، وحق الطلاق الخلعي، وحق الاشتراط في صيغة العقد ضمن الحدود الشرعية؟ بل كيف يؤدي الاضطهاد الأسري إلى الاضطهاد الاجتماعي، كما يزعم (انجلز)، وكلنا يعلم أن الأسر الرأسمالية الغنية أكثر نعومة في تعاملها مع النساء من الأسر الفقيرة؟
ويعكس قول فقهاء الإمامية بعدم اعتبار الحاجز الطبقي أو العنصري في تحقق عملية الزواج، عدالة الإسلام الاجتماعية. "حيث يجوز عندنا انكاح الحرة بالعبد، والعربية بالعجمي، والهاشمية بغير الهاشمي وبالعكس، وكذا أرباب الصنائع الدنية كالكناس والحجام وغيرهما [أن يتزوجوا] بذوات الدين من العلم والصلاح والبيوتات وغيرهم"12. وقال أكثر الفقهاء بان شرط قدرة الزوج على النفقة ليست من شروط الكفاية لقوله تعالى: ﴿إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾13.
ولاشك أن نظرة الإسلام الرحيمة تجاه العلاقة الشهوية بين الذكر والأنثى وربطها بإصلاح المشاكل الاجتماعية، تضع الإسلام على قمة المؤسسات العلاجية الهادفة لمعالجة الأمراض التي تنشئها الدوافع الغريزية البشرية. فلكي يكون النظام الاجتماعي قادراً على علاج أمراضه الاجتماعية، لابد وان يطرح أشكالاً مختلفة من الزواج بحيث تلائم مشاكل الأفراد المتنوعة. وعلى ضوء ذلك، فقد أجاز الإسلام النكاح الدائم، والمؤقت، وتعدد الزوجات، وملك اليمين. واعتبر ما وراء ذلك تعدياً على الحدود الشرعية وظلماً اوجب على الأفراد دفعه ـ على الصعيد الكفائي ـ. ولا ريب أن إباحة هذا السلوك المتعدد كان الهدف منه معالجة المشاكل الاجتماعية التي تتركها الوحدة والحرمان. وإذا كانت النظرية الاجتماعية الغربية تدعو بكل قوة إلى الإيمان بـ (المذهب الفردي) باعتباره طريقاً للعدالة الاجتماعية14، فلا يحق للفرد أن يتزوج بأكثر من زوجة واحدة.. فإذا كان الأمر كذلك، فنحن نرد على النظرية الغربية بالسؤال النظري التالي: أيهما أفضل للنظام الاجتماعي: الزواج المتعدد أو تعدد الزوجات؟ فإذا كان الزواج المتعدد أفضل، فلماذا كل هذه العقد النفسية التي تحملها المرأة المطلقة أكثر من مرة؟ ومن الذي يصبح مسؤولاً عن رعاية الأطفال المتكونين من أكثر من أب، ومن يحفظ حقوقهم الاجتماعية؟ بل أين الاستقرار النفسي الذي تعيشه العائلة إذا انكسرت الآصرة الجغرافية فابتعد الأبناء عن آبائهم، والبنات عن أمهاتهن، والأخوة عن إخوتهم، والأخوات عن أخواتهن، أليس هذا تمزيقاً لأواصر الأسرة الواحدة؟
وفكرة تعدد الزوجات التي أقرها الإسلام فكرة استثنائية، وليست أصلاً في التزويج الإنساني، فاغلب الأفراد يكتفون بزوجة واحدة تشارك بشؤون البيت، فتنهض الأسرة على أكتافها. أما في الأزمات الإنسانية، وتغلب عدد النساء على الرجال، فان تعدد الزوجات يصبح نظاماً يصب لمصلحة المرأة المحرومة أكثر منه لمصلحة الرجل، خصوصاً إذا ما علمنا أن تعدد الزوجات يستوجب العدالة الحقوقية والاجتماعية بينهم من قبل الزوج.
وتعتبر النظرية القرآنية ولاء الأفراد تجاه بعضهم البعض في العائلة الواحدة أهم عامل من عوامل تماسك المؤسسة الأسرية. ولاشك أن أحد مناشئ الولاء الشرعي، هو التكافل المالي الذي أمر به الإسلام. فقد أوجبت الشريعة النفقة للأصول والفروع وهم الوالدان والأولاد، وأوجبت نفقة الزوجة مع ثبوت الطاعة والتمكين. حتى أن للمطلقة الحامل ـ طلاقاً رجعياً أو بائناً ـ النفقة حتى تضع حملها. ولاشك أن للمرأة حقها المالي في الصداق أيضاً.
والأصل في ذلك، أن يكون للأسرة وليٌ يدير شؤونها المالية والعاطفية، أو وصي يدير شؤونها المالية ويرعى مصلحة أفرادها. فقد تسالم الفقهاء على قاعدة (إمكان الإلحاق) ـ المذكور سابقاً ـ والتي تشير إلى أن المولود لابد أن يلحق بالزوج، حتى تنشأ فكرة (الولاء) من اليوم الأول الذي يرى فيه الطفل نور الحياة الإنسانية. وما الرضاع والحضانة التي حدد الإسلام أنظمتها، إلا شكل من أشكال القاعدة الأساسية للولاء الاجتماعي لاحقاً. وبالإجمال فان الإسلام ربى الأفراد ـ في الأسرة الواحدة ومن خلال التشريع ـ على حب بعضهم البعض، والتفاني في مساعدة احدهم الآخر مساعدةً تجعلهم كتلة واحدة أمام الهزات الاجتماعية والاقتصادية. ولعل أفضل تعبير يتفق عليه الفقهاء ويعكس حقيقة الولاء والحب والإخلاص في الأسرة هو أن الوصي المأذون على رعاية الأحداث إذا خان، انعزل تلقائياً وبطلت جميع تصرفاته حتى دون إذن الحاكم الشرعي. فلا عجب ـ إذن ـ أن نرى تماسك الأسرة الإسلامية حول محور المسؤولية الشرعية والإلزام الأخلاقي والعدالة الاجتماعية، على خلاف الفكرة الغربية الداعية لمذهب الفرد باعتباره أساس النجاح الاقتصادي والاجتماعي14، وهو زعم كاذب، لان تحقيق الطموحات الفردية دون الطموحات الاجتماعية يساهم في انعدام العدالة الاجتماعية، وفي نشوء الطبقات الاقتصادي المتفاوتة، وفي انحدار المستوى الأخلاقي، وفي نشوء جيل من المشردين والمنحرفين الذين لا يكترثون لمعنى الاجتماع الإنساني ومعنى الحياة البشرية.
وبالإجمال، فان النظرية الاجتماعية القرآنية تؤمن بأهمية الفرد في المؤسسة العائلية باعتباره إنساناً شرفه الخالق عز وجل فرفعه من المستوى الدنيوي إلى المستوى الذي يليق به، ومن مستوى الحيوان الغريزي إلى مستوى الإنسان المفكر العاقل، ومنحه الحقوق وفرض عليه الواجبات، وأوصاه بالتآلف والتآخي والتعاشر ضمن الدائرة الإنسانية المتمثلة بالأسرة، والدائرة الجغرافية المتمثلة بالبيت. ولولا جدية الأحكام الشرعية المتعلقة بحقوق الأفراد في الأسرة الواحدة لانفرط عقد النظام الاجتماعي، وانحلت الآصرة الإنسانية التي ربطت الأفراد ببعضهم البعض على مر العصور.
*النظرية الاجتماعية في القران الكريم،د:زهير الاعرجي،أمير_قم،ص173-180.
1- الروم:20 ـ 21.
2- البقرة:187.
3- الشورى:49.
4- النحل:72.
5- لقمان:14.
6- النساء:36.
7- النساء:19.
8- الأنعام: 151.
9- لقمان: 17 ـ 19.
10- (روبرت ميرتون). النظرية الاجتماعية والتركيب الاجتماعي. نيويورك: المطبعة الحرة، 1968 م.
11- (فريدريك انجلز). أصل العائلة، الملكية الخاصة، والدولة. نيويورك: الناشرون الدوليون، 1942 م.
12- الجواهر ج 30 ص 106.
13- النور:32.
14- (سورن كيركيكارد). "المذهب الفردي والحقيقة الموضوعية". فصل فلسفي في كتاب (الأسئلة الثابتة في الفلسفة). تحرير: ميلفن رادر. نيويورك: هولت، راينهارت، وونستن، 1980.