فلسفة التعليم في النظريات الغربية ونقدها
المجتمع الإسلامي
تتناول (النظرية التوفيقية) أهم الأركان التي تبتني عليها (المدرسة) في النظام التعليمي. فهذه النظرية تؤمن بأن المدرسة والنظام التعليمي المشرف عليها تحفظ روحية النظام الاجتماعي الحضارية من خلال نقل معتقدات الآباء إلى أبنائهم...
عدد الزوار: 111
تتناول (النظرية التوفيقية) أهم الأركان التي تبتني عليها (المدرسة) في النظام التعليمي. فهذه النظرية تؤمن بأن المدرسة والنظام التعليمي المشرف عليها تحفظ روحية النظام الاجتماعي الحضارية من خلال نقل معتقدات الآباء إلى أبنائهم، ونشر الثقافة العامة التي توحد توجهات المجتمع، وتطوير شخصيات الأفراد، وتأهيلهم للعمل التخصصي، وإثراء الثقافة الاجتماعية، وتعليم الأفراد إطاعة السلطة السياسية1.
فعلى صعيد نقل معتقدات الآباء إلى أبنائهم، فان هذه النظرية تؤمن بأن المجتمع لا يمكن أن يحيا حياة اجتماعية طبيعية دون أن تنتقل الثقافة والمعرفة من الجيل السابق إلى الجيل اللاحق. فالمدرسة تغذي أفراد المجتمع بشتى أنواع العلوم والمهارات والقيم، التي يعتبرها النظام الاجتماعي من الأولويات الأساسية لبقائه ووجوده الحضاري. فتعلم لغة الوطن التي يتفاهم بها الفرد مع أقرانه، وجغرافية الدولة التي يعيش فيها، وتركيبتها السكانية والعرقية تعتبر من أهم مكاسب النظام التعليمي، حيث تنعكس فوائدها على النظام الاجتماعي كلياً. وربما يعتبر الدفاع عن الدولة والنظام السياسي من أهم ثمار شجرة التعليم.
وعلى صعيد نشر الثقافة العامة التي توحد توجهات المجتمع الفكرية، فان المجتمعات الإنسانية على الأغلب، تتركب من أقليات عرقية ودينية متعددة تسكن أرضاً واحدة. فلا يمكن توحيد توجهات هذه الأقليات ما لم يتم صهرها تحت سقف نظام تعليمي واحد يستخدم لغة واحدة."
وعلى صعيد تطوير شخصية الفرد، فان المدرسة تمنح الأفراد فرصة تعلم المهارات المهنية التي تؤهلهم للاشتغال والاكتساب في مستقبل حياتهم، حيث تساهم هذه المدرسة في منح الأفراد فرصة استخدام ما منحهم الخالق عز وجل من نعمة التفكير وطاقة كامنة للإبداع والتطوير. ولكن المدرسة لا تضمن تخريج أفراد مثقفين بل إنها تسعى لتفتيح عقولهم اليافعة كما يساهم نسيم الربيع في تفتيح براعم الأزهار... وذلك من خلال مساهمتها في تعريف الفرد بنفسه وبالعالم المحيط به.
وعلى صعيد تأهيل الأفراد للعمل التخصصي، تساهم المدرسة في ضمان مستقبل الفرد المهني ورفد النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بالمتخصصين في مختلف الحقول التي تحتاجها، فتضبط المدارس المتخصصة ـ كالطب والتمريض والهندسة والكيمياء ونحوها ـ عدد الطلبة الذين يحتاجهم المجتمع حتى لا يحصل الاضطراب الفني بتراكم الطلبة على اختصاص دون غيره.
وعلى صعيد إثراء الثقافة الاجتماعية والعلمية، فان المؤسسات التعليمية تساهم بشكل أساسي في زيادة المعرفة البشرية حول الحياة والكون والإنسان، وتساعد الطالب على فهم تاريخه الإنساني وحضارته ومجتمعه، وتفتح باباً للنقاش العلمي والنقد البناء، وتعطي الأساتذة والباحثين فرصاً واسعة لانجاز مختلف البحوث العلمية في شتى المعارف البشرية. وتعتبر الجامعات أعمدة البحوث العلمية النظرية التي تساهم في وضع الفرضيات والنظريات وإقامة البراهين والأدلة على صحة أو فساد فرضيات أو نظريات أخرى أنشأها علماء طبيعيون آخرون. ولما كانت الفكرة الرأسمالية تؤمن بتطوير منتوجاتها الصناعية بشكل مستمر حتى تجد أسواقاً دائمية لاستهلاكها، أصبحت الجامعات التجريبية الغربية العقل الرئيسي للمؤسسات الصناعية الرأسمالية العملاقة2.
وعلى صعيد حقن الأفراد بأفكار تمجد بأهمية النظام والسلطة السياسية، فان المؤسسات التعليمية تساهم بشكل فعال في ترسيخ فكرة النظام الاجتماعي وضرورة احترامه، وأهمية السلطة السياسية واحترام القانون، ووجوب الامتثال أمام المحاكمة القضائية إذا طلب ذلك. وبالجملة، فان المدرسة تنشئ اعتقاداً لدى الفرد بأن النظام السياسي إنما صمم أساساً لخدمة أفراد المجتمع جميعاً، فلهم الحقوق التي أقرها القانون وعليهم الواجبات التي كلفهم بها النظام الاجتماعي.
ولاشك أن النظرية التوفيقية تطرح بديهيات النظرية التعليمية دون أن تتطرق إلى دور الطبقات الاجتماعية المتصارعة في استخدام النظام التعليمي كمطية لتيسير عملية مسك زمام السلطة، وكسب الثروة، وتحقيق الرفعة الاجتماعية. بمعنى أن النظرية التوفيقية تتجاهل الحقائق التي تدين النظام التعليمي في الدولة الرأسمالية، خصوصاً فيما يتعلق بطبيعة التعليم وتصميم المناهج الدراسية. وتمضي هذه النظرية، ممارسات النظام التعليمي الأمريكي في القرنين الماضيين بخصوص حرمان الزنوج والهنود الحمر من حق التعليم3، وهو تناقض واضح في مبتنيات تلك النظرية، لأن التعليم المبني على الأساس الطبقي والتمييزي لا يوحد المجتمع على الصعيدين الثقافي والتاريخي، كما تزعم تلك النظرية.
وقد تولت نظرية الصراع الاجتماعي نقد هذه النظرية التوفيقية وكشف إفلاسها الفكري، فقالت بأن التعليم عنصر مهم في وضع الفرد الطبقي، لأن الفرد المتعلم يستطيع أن يحتل موقعاً أعلى في السلم الاجتماعي من خلال وظيفته التي تحتاج إلى كمية معينة من العلوم والاختصاصات4. فالطبيب والمهندس مثلاً، يحتلان موقعاً اجتماعياً أرفع من ذلك الذي يحتله العامل غير الماهر.
ولاشك أن الآباء الأغنياء من الطبقة العليا ينظرون إلى مستقبل أبنائهم نظرة خاصة تضمن لهم الوصول إلى الطبقة المسيطرة. ولذلك، فإنهم يمهدون لهم طرقاً خاصة لتحقيق أحلامهم. ففي النظام التعليمي البريطاني مثلاً، يدخل أبناء الطبقة الرأسمالية المدارس الخاصة المعدودة المسماة بمدارس (القواعد النحوية)، التي تضمن لخريجيها مستقبلاً سياسياً مشرقاً وعضوية دائمة في الطبقة الثرية. وفي روسيا، يدخل أبناء الوزراء وأعضاء الحزب الشيوعي المسيطرين على النظام السياسي لفترة قريبة، مدارس خاصة بأبناء الطبقة العليا. وفي أمريكا تتلون المدارس التعليمية بلون الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد.
وتتهم نظرية الصراع، الطبقة الرأسمالية بتكريس النظام التعليمي الطبقي للحفاظ على مصالحها الحيوية في السيطرة على مقدرات النظام الاجتماعي، وتقدم دليلاً على ذلك، وهو أن الطبقة الرأسمالية تحصل دائماً على أعلى مستويات التعليم، لأن الآباء يصرفون جزءاً كبيراً من أموالهم على وسائل التعليم الخاصة بالطبقة الغنية، وان الأبناء متفرغون للدرس والتحصيل. وهكذا يمتص النظام الاجتماعي أبناء الطبقة الفقيرة كعمال، بينما يستوعب أبناء الطبقة الرأسمالية كأفراد يحظون بأهمية عظمى في السلم الاجتماعي.
وأخيراً، فان النظام التعليمي في المجتمع الرأسمالي لا يحافظ على الوضع الطبقي فحسب، بل يجعل الطبقية مسألة شرعية، لأن النظرية الرأسمالية ترى أن من حق الطبقة العليا السيطرة على النظام الاجتماعي لأنها تملك الثروة ووسائل الإنتاج الاقتصادي. وإذا ما نجحت المؤسسة التعليمية في إقناع الفقراء بأن حقوق الطبقة الرأسمالية في الثراء وما يترتب عليها إنما هي حقوق عادلة ـ لأن أمولهم قد جاءت عن طريق الجهد وعرق الجبين، وان الفرص متاحة لكل من أراد الثراء ـ نجح الرأسماليون ـ عندئذٍ ـ في السيطرة على مقدرات النظام الاجتماعي بكل ما فيه من خيرات، والى أمد غير محدود.
ولكن نظرية الصراع الاجتماعي لا يتم إلا بإنشاء صراع جديد آخر مع الطبقة الرأسمالية. وتقع في خطأ آخر عندما تتصور إنها تستطيع ـ مطلقاً ـ توحيد الأجور والمكافآت الاجتماعية للأدوار التي يقوم بها الأفراد في النظام الاجتماعي. وأمام أخطاء هذه النظريات يقدم القرآن الكريم رسالته الدينية بأروع صورها، وهي رسالة العدالة الاجتماعية القائمة على أصلين، الأول: أصالة الأخوة الإسلامية بين جميع أفراد النظام الاجتماعي: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...﴾5. والثاني: إعادة توزيع الثروة الاجتماعية عن طريق فرض الضرائب الشرعية على أموال الأفراد: ﴿... وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾6. وتنضوي تحت راية العدالة الاجتماعية القرآنية العدالة التعليمية التي هي جزء لا يتجزأ من جوهر الفكرة الدينية. ولاشك أن رسالة القرآن أصلح للإنسانية والنظام الاجتماعي من رسالة النظرية التوفيقية التي تركن للظلم الرأسمالي، وأصلح من رسالة نظرية الصراع التي تسلب فكرة الأخوة والتآخي من مباني النظام الاجتماعي للإنسانية المعذبة.
*النظرية الاجتماعية في القران الكريم،د:زهير الاعرجي،أمير_قم،ص118-123.
1- (الكسندر آستن). الوصول الى الامتياز التعليمي. سان فرانسسكو: بوسى ـ باس، 1985 م.
2- (هربرت هيمان) وآخرون. التأثيرات الثابتة للتعليم. شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو: 1975 م.
3- (ريجنالد كلارك). الحياة العائلية والتحصيل المدرسي. شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو، 1983 م.
4- (كارل ماركس). المخطوطات الاقتصادية والسياسية لعام 1844 م. نيويورك: الناشرون الدوليون، 1964 م.
5- الحجرات:10.
6- الذاريات:19.