يتم التحميل...

التعليم والعدالة الاجتماعية في القرآن

المجتمع الإسلامي

وتنعكس العدالة الاجتماعية التي نادى بها الإسلام وحث على تحقيقها بين جميع الأفراد، على النظام التعليمي بالخصوص. فبموجب الارتكاز العقلائي الذي أمضاه الشارع، لابد للأفراد القادرين من الناحية العقلية على التعلم وقطع أشواط المراحل الدراسية...

عدد الزوار: 116

لاشك أن إطلاق معاني العدالة الاجتماعية والقضائية في القرآن كقوله تعالى: ﴿اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ1، ﴿فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ2، ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى3، ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾4، يعكس شمولها لجميع المؤسسات الاجتماعية التي تهتم بشؤون الفرد، لأنها لم تقيد أو تخصص بمورد معين.

وتنعكس العدالة الاجتماعية التي نادى بها الإسلام وحث على تحقيقها بين جميع الأفراد، على النظام التعليمي بالخصوص. فبموجب الارتكاز العقلائي الذي أمضاه الشارع، لابد للأفراد القادرين من الناحية العقلية على التعلم وقطع أشواط المراحل الدراسية، من المستوى الابتدائي وحتى المستوى التخصصي المهني أو العلمي. وفي المرحلة الأخيرة يلعب الجهد والذكاء دوراً أساسياً في مساعدة الأفراد على حجز مقاعدهم الدراسية في الجامعات العلمية والأدبية والمعاهد الفنية. فالطلبة المتفوقون في العلوم البايولوجية والكيميائية يدخلون كليات الطب والعلوم المتعلقة بها.

والطلبة المتفوقون في الرياضيات والعلوم الهندسية يدخلون كليات الهندسة والعلوم المتعلقة بها. والمتفوقون في الاجتماعيات يدخلون كليات العلوم الاجتماعية، وهكذا. وهذا المقياس في حجز مقاعد الجامعات، أعدل من مقياس الأنظمة الغربية التي تشترط العامل الطبقي ولون البشرة أساساً في دخول الجامعات العريقة كجامعات اكسفورد وكامبردج وهارفرد وييل وبرنستون5. فالنظام التعليمي الإسلامي يشجع الطالب الفقير على شق طريقه بنجاح إلى أرقى الجامعات في الدولة بغض النظر عن لونه وطبقته الاجتماعية. بل يستطيع أن يتميز عن أقرانه الأغنياء، لأن الفقر لا يشغله عن التحصيل، وهو على اطمئنان بأن عائلته المسحوقة سوف يعيلها النظام الاجتماعي أو الدولة عن طريق الحقوق الشرعية. فلا يصرفه الفقر ـ عندئذٍ ـ عن الدرس، ولا تجبره حاجة العائلة الأساسية على ترك التحصيل. وإذا ما ظهرت بوادر انحلال النظام الطبقي خلال مراحل التعليم، أصبحت فرص انتعاش النظام الاجتماعي أوسع، وأصبح المقياس في تسيير شؤون النظام الاجتماعي و الجهد والكفاءة والذكاء. ولا يختلف اثنان على أن الذكاء قدرة علمية تحصيلية تتواجد عند الفقراء كما تتواجد عند الأغنياء.

ومع أن الإسلام يقدم نظاماً عادلاً في توفير الفرص التعليمية لكل القادرين على التحصيل، إلا انه لا ينكر وجود التفاوت في قابليات الفهم والإدراك والإبداع لدى الفراد. فالأفراد عموماً متفاوتون في مستوى فهمهم العلمي وإبداعهم وإنتاجهم. ولما كانت هذه القابليات متفاوتة، فان المكافأة على الجهد المبذول يجب أن تتفاوت حتماً من فرد إلى آخر. ولكن هذا التفاوت في الأجور ينبغي أن لا يخلق طبقات اجتماعية متفاوتة، بل طبقة واحدة مختلفة الدرجات. وهذا النظام التعليمي الرائع يضمن قضيتين أساسيتين، الأولى: تنشيط فرص الإبداع لكل فرد، والثانية: العدالة الاجتماعية لكل الأفراد. فلا يستطيع الذكي مهما أوتي من قوة عقلية أن ينشئ طبقة متميزة به عن الآخرين، تماماً كما لا يستطيع الثري مهما أوتي من قوة مالية إنشاء طبقة متميزة به وبأقرانه، لأن ذلك يدعو إلى الظلم الذي يرفضه الإسلام.

ولم يدع الإسلام إلى جعل التعليم مطية رغبات طبقة دون أخرى لتحقيق التسلط على القوة السياسية، وكسب الثروة، وتحقيق الرفعة الاجتماعية، بل أراد من التعليم فهم الإنسان موقعه في الحياة الاجتماعية، ومعرفة دور الدين في بناء النظام الاجتماعي لتحقيق سعادة الفرد وتثبيت أسس العدالة الاجتماعية. ولما كان العلم شريفاً في نفسه، فان الشارع حث جميع الأفراد على تحصيل المقدار المتميز منه، كي يمنح الإنسان فسحة للتفكير في موقعه الاجتماعي الحياتي وموقعه في الكون، وما يترتب على ذلك من معارف ربانية توصله إلى معرفة خالقه وصانعه العظيم، وتحثه على تعلم الفنون والخبرات بشتى ألوانها بما ينفع النظام الاجتماعي وأفراده. ولاشك أن نظاماً تعليمياً كهذا لا يمنح امتيازاً لفرد دون آخر، لأن عدالة نظام الأجور في الإسلام هي صمام الأمان الذي يمنع بموجبه نشوء نظام طبقي مشابه للنظام الطبقي الرأسمالي. ولما كانت الدولة في المجتمع الإسلامي مسؤولة عن رعاية الأفراد وحمايتهم والاهتمام بهم، فان لها الحق في تحديد الأجور وتعيين الحد الأدنى والحد الأعلى للمكافآت الاجتماعية: على عكس الفكرة الغربية الرأسمالية التي تعين حداً أدنى للأجور ولكنها لا تضع علامة للحد الأعلى6، مما يفسح المجال لنمو الطبقة الرأسمالية الظالمة المتحكمة بشؤون المجتمع والسلطة السياسية واستفحالها.

والخلاصة: أن الإسلام لا يقر نظام تكافؤ الفرص فحسب، بل يهيئ الأفراد تهيئة شاملة للمنافسة العلمية القائمة على أساس الجهد والذكاء. فيزيل أولاً كل أسباب التعويق الاجتماعي لطلب العلم من فقر وعدم إشباع الحاجات الأساسية، فيأخذ حقوق الفقراء ويرجعها إليهم، ويلغي النظام الطبقي العائلي، ويشبع حاجات الأفراد جميعاً ويوفر لهم مستوىً واحداً من التعليم الابتدائي والثانوي لا يختلف فيه الفقير عن الغني. ثم يضع هؤلاء المتسابقين في ميدان العلم على خط البداية، ويهتف بهم: تسابقوا على بذل الجهد، فان سبق أحدكم الآخر فإنما يفوز بجهده وقابلياته. والإسلام بهذا النظام الرائع لا يثبت عدالته الاجتماعية بين الأفراد فحسب، بل يبرز نظامه المنسجم مع طبيعة الحياة الإنسانية التي خلقها الباري عز وجل، ويربطها بالنظام التكويني المبني على أساس الدقة والتنظيم والعدل. ولا ريب أن هذا النظام العادل يقف موقفاً معارضاً للنظام الرأسمالي الذي يزج بالمتسابقين في ميدان العلم غاضاً نظره عن المعوقات الاجتماعية التي وضعها للبعض منذ البداية، كتراكم الثروة لدى طبقة وحرمان الطبقات الأخرى، وتسليح الأغنياء بأفضل النظم العلمية وحرمان الفقراء منها، وحصر الجامعات الراقية بالنخبة من أفراد الطبقة الرأسمالية من خلال رسم مستقبل مشرق لهم وهم في مهد الطفولة7.

ويتبين لنا من كل ذلك أن النظام الإسلامي في التعليم ـ بلحاظ الإطار الأخلاقي للكتاب المجيد وروايات أهل البيت عليهم السلام ـ هو من أعدل الأنظمة التعليمية في العالم.

*النظرية الاجتماعية في القران الكريم،د:زهير الاعرجي،أمير_قم،ص113-117.


1- المائدة: 8.
2- النساء:135.
3- الأنعام:152.
4- النحل:90.
5- (جون ليولين) وآخرون. الذكاء واختلاف الاعراق. سان فرانسسكو: فريمان، 1975 م.
6- (كريستوفر جنكز) وآخرون. من الذي يسبق ؟ العوامل الحاسمة في النجاح الاقتصادي في أمريكا. نيويورك: الكتب الأساسية، 1979 م.
7- (راندال كولينز). المجتمع الاعتمادي: لمحة تاريخية عن علم اجتماع التعليم وانعدام العدالة الاجتماعية. نيويورك: المطبعة الأكاديمية، 1979 م.
2012-04-20