يتم التحميل...

الإسلام والتأثيرات الاجتماعية للانحراف

المجتمع الإسلامي

لا ريب أن تساؤل رواد القضاء الغربي عن موجب الشدة والفورية في نظام العقوبات الإسلامي له منشأ نابع من إحساسهم بفشل نظام العقوبات الذي يطبقه ذلك القضاء. فالزعم بأن القصاص في القتل والجرح والقطع والجلد، عقوبات في غاية القسوة مقارنة بنظام السجون الذي اقره القضاء الغربي...

عدد الزوار: 101

لا ريب أن تساؤل رواد القضاء الغربي عن موجب الشدة والفورية في نظام العقوبات الإسلامي له منشأ نابع من إحساسهم بفشل نظام العقوبات الذي يطبقه ذلك القضاء. فالزعم بأن القصاص في القتل والجرح والقطع والجلد، عقوبات في غاية القسوة مقارنة بنظام السجون الذي اقره القضاء الغربي كعقوبة عادلة لجرائم القتل والسرقة والاعتداء والاغتصاب، زعم فيه الكثير من المغالطات، لأن فشل القضاء الرأسمالي الغربي في تصحيح الانحراف وإبعاد الجريمة عن النظام الاجتماعي، وضع الكثير من المفكرين والمقننين الغربيين على حافة السقوط في أحضان الفكرة القائلة بأن اجتثاث جذور الجريمة من المجتمع الإنساني لا يتم إلا عن طريق استخدام أقسى العقوبات الجسدية بالمنحرفين. ولكنهم عادوا وقالوا بأن قسوة العقوبات في الأحكام الجنائية، تتنافى مع تطلعات العالم المتحضر في النظر للإنسان باعتباره كائناً متميزاً يحق له العيش في الحياة الطبيعية، حتى لو كان مجرماً منحرفاً عن الخط الاجتماعي العام1. وهذه النظرة الرحيمة تجاه الإجرام تعتبر ظلماً للضحية وإجحافا بحقها في الاقتصاص والمماثلة والتعويض.

ومع أن الإسلام ينظر إلى الانحراف باعتباره اعوجاجاً يتوجب علاجه وتعديله، ويوجب على الحاكم الشرعي استرداد الحق وإرجاعه إلى أهله وذويه، إلا أن التشريع الإسلامي أراد بالقصاص والحدود ودفع الديات، تثبيت النظام الاجتماعي ونشر فكرة العدالة والأمان في ربوع الوطن الإسلامي، لأن تأثيرات الانحراف السلبية على المجتمع وأفراده، تسبب نخراً مستمراً وتهديماً أساسيا لأصول النظام الاجتماعي. وحتى نفهم الصورة الحقيقية للانحراف الاجتماعي وتأثيره المستمر على المجتمع الإنساني لابد من إدراج هذه السلبيات المتمثلة بالحقائق التالية:

الحقيقة الأولى: إن من سلبيات الانحراف إرباك النظام الاجتماعي، فانتشار عمليات القتل والسرقة والغصب والاعتداء على أعراض الناس يجعل الحياة الاجتماعية الرغيدة أمراً صعب المنال، ويحمل الحياة اليومية الكثير من المفاجآت. فكما أن العامل المشاغب في مصنع آلي يستطيع إرباك الإنتاج، والطبيب المجنون في مستشفى للأطفال يستطيع خلخلة النظام الطبي، والمعلم المستهتر بقيم العلم يستطيع إرباك أذهان الطلبة، كذلك يفعل الانحراف في المجتمع الإنساني من خلال إرباكه لتوجه الأفراد وتطلعهم نحو حياة مستقرة هادئة.

الحقيقة الثانية: ومن سلبياته أيضاً إرباك النظام الأخلاقي. فان انتشار الانحراف وانعدام السيطرة الاجتماعية عليه بنظام أو قانون، يفتح الباب أمام الأفراد بتجاوز الخط الذي يفصل بين الحق والباطل، خصوصاً إذا كان نظام العقوبات متساهلاً مع المنحرفين. فإذا كان الانحراف يمثل حصيلة شريحة اجتماعية صغيرة العدد اليوم مع قانون متساهل، فان الغد سيجلب منحرفين جدد، إلى أن يعم ذلك الانحراف جميع أطراف النظام الاجتماعي.

الحقيقة الثالثة: إن من سلبيات الانحراف استهلاك مصادر وطاقات بشرية نافعة لو لم تستخدم للسيطرة على الجريمة، لاستخدمت في مجال آخر لمنفعة الأفراد. خذ على سبيل المثال النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة، فانه يصرف يومياً مبالغ مالية طائلة على إطعام ورعاية ثلاثة ملايين سجين ارتكبوا جرائم مختلفة لعزلهم عن الاختلاط بالمجتمع الكبير2. ومع أن هؤلاء السجناء قد اخرجوا عن ساحة العمل الإنتاجية، إلا أن الدولة مكلفة بإعاشتهم ومراقبتهم وتقديم العلاج الطبي لهم، وهذا يكلفها كمية هائلة من الطاقات الإنتاجية والبشرية.

الحقيقة الرابعة: ومن سلبيات الانحراف زوال الثقة بين الأفراد. والتعامل التجاري والتعليمي والثقافي عموماً مبني على أساس الثقة، فالفرد يستأجر سيارة للانتقال من مكان إلى آخر باعتقاد إن السائق سيوصله إلى المكان المعين لقاء أجرة معينة، فإذا تبين أن السائق مجرم محترف هدفه سرقة المستأجر، انهدمت الثقة بين المستأجرين والمؤجرين. ومثال آخر إن الأفراد يودعون أموالهم في المصارف فإذا تبين أن أصحاب المصارف لا يؤتمنون على أموال الناس انعدمت الثقة بين المودعين والبنوك التجارية. ويضع الناس كذلك ثقتهم بالنظام السياسي فإذا تبين خيانة أفراد النظام لحقوق الناس زالت الثقة بين الحاكم والمحكوم. وانعدام الثقة هذا يكلف النظام الاجتماعي والاقتصادي أموالا طائلة، بل إن انعدام الثقة بين المتعاقدين من أفراد المجتمع يؤدي في النهاية إلى تخريب النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للمجتمع الإنساني.

وحتى نفهم الصورة المشرقة للعلاج الإسلامي وتأثيره الايجابي في بناء النظام الاجتماعي الخالي من الانحراف، لابد من إدراج ايجابيات نظام العقوبات الإسلامي بالنقاط التالية:

أولاً
: فعلى صعيد استقرار النظام الاجتماعي فان فورية التعامل مع الانحراف يبعد الحياة الاجتماعية عن المفاجآت المحزنة التي تجلبها جرائم الاعتداء والقتل والسرقة، فيستطيع الفرد أن يعيش ويحيا في مجتمع تظلله شمس الأمان والحرية والسلام.

ثانياً: وعلى صعيد نظافة النظام الاجتماعي، فان الإسلام يحاول اجتثاث الأمراض الاجتماعية من الجذور، فيرجم المنحرف خلقياً كالزاني المحصن، ويجلد الزاني الأعزب، والقاذف والسكران. فيتأدب أفراد المجتمع بآداب الإسلام، إلى حد انه يأمرهم بأن لا يخرجوا من أفواههم كلمة نابية، أو يتهموا إنسانا بريئاً، أو يجرحوا شعور فرد ما. فيكون من نتائج تطبيق هذا النظام على المجتمع الشعور بالطمأنينة والأمان، وازدياد المحبة والتعاون بين الناس، وازدياد الطاقة الإنتاجية للأفراد في المجتمع الكبير.

ثالثاً: وعلى صعيد المصادر والطاقات البشرية فان الإسلام يستثمرها بأكمل الوجوه فلا يحتاج المجتمع الإسلامي إلا لعدد ضئيل من أفراد الشرطة، وعدد أقل من السجون، لأن العقوبات رادعة والنتيجة الايجابية متوقعة بكل تأكيد. فلو سرق فرد وقطعت يده علناً أمام الناس، ترى من يتجرأ على ارتكاب نفس الانحراف مرة أخرى؟ هذا إذا ما علمنا أن من مسؤولية الدولة إشباع حاجات الناس الأساسية، وان لها الحق في التدخل بما يضمن ذلك، حتى أن المنحرف المعاقب بأحكام الشريعة الإسلامية يعتبر أكثر إنتاجاً من المنحرف المعاقب في السجون الغربية. فالسارق المحدود بحد السرقة يستطيع ان يعمل وينتج ويحيا حياته الطبيعية ويتوب الى الله ويرجع إلى الحياة الاجتماعية كفرد طاهر من ذنوب الانحراف، الذي كان لابد من معالجته. أما المنحرف المسجون في النظام الغربي الرأسمالي فهو مصدر من مصادر الإجرام والشقاء، لأن السجن لا يؤدب المنحرف بل يزيده حقداً وغضباً على النظام الاجتماعي.

رابعاً: وعلى صعيد الثقة بين أفراد المجتمع، فان النظام الإسلام بتشريعاته الدقيقة جعل الثقة محور كل النشاطات الاجتماعية. فالثقة المتبادلة بين أفراد العائلة والجيران والقرابة وأبناء الحي وأبناء المدينة وأبناء الدين الواحد والدولة الواحدة، يرجع فضلها بالأصل إلى نظام العقوبات. واطمئنان الفرد في المجتمع الإسلامي يرجع بالأساس إلى اطمئنانه على نفسه وماله وعرضه. فالمسلم يعلم أن العقوبة في النفس والمال والعرض صارمة إلى حد أنها تردع الآخرين عن مجرد التفكير بالقيام بالانحراف. وهذه الثقة المتبادلة بين الأفراد تجعل المجتمع الإسلامي من أكثر المجتمعات البشرية إنتاجاً وأكثرها ثراءً. وان الحرية التي يزعم النظام الرأسمالي منحها لأفراده لا تنهض إلى مستوى الحرية التي يمنحها الإسلام لأفراد الدولة الإسلامية. فأية حرية أعظم من اطمئنان الفرد على نفسه وماله وعرضه ينتقل متى شاء، ويتحدث بما شاء ضمن حدود الأدب الإسلامي، ويستثمر ماله أنى شاء، وهو يعلم انه لا يخاف على مال يسرق أو نفس تقتل أو عرض يهتك، فأية حرية أعظم من هذه؟ ولاشك أننا لو طبقنا التشريع الإسلامي على البشرية جميعاً بكل ألوانها وأشكالها، لما جاع فقير، وما هدر حق، وما انتصر باطل، لأنه دين الاعتدال والمساواة، ونظام الحق والعدالة الاجتماعية.

*النظرية الاجتماعية في القران الكريم،د:زهير الاعرجي،أمير_قم،ص91-96.


1- (ادوين شور). سياسة الانحراف. انجلوود كليفز، نيوجرسي: برنتس ـ هول، 1980 م.
2- (جاك جيبز). الجريمة، العقاب، والردع. نيويورك: السفاير، 1975 م.

2012-04-20