يمكن الوقوف عند واقعة الغدير المهمّة جدّا من مختلف الجوانب والأبعاد. ولكن يبدو أن ما يجب الالتفات إليه على رأس جميع الجوانب هو أن الغدير قبل أن يكون محل إعلام ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) ووصايته، هو محل تجسيد ولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله) العظمى. وبعبارة أخرى إن الغدير هو أهم محطّة لاختبار مدى التزام الناس بولاية النبي (صلى الله عليه وآله) قبل امتحانهم بقبول ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام).
إذا أردنا أن ننظر في يوم الغدير إلى غربة وصي النبي (صلى الله عليه وآله)، فلابد أن نقف قبل ذلك عند غربة النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه. وهي الغربة التي تبلورت على أثر ذاك الامتحان العظيم. وفي الواقع يجب أن نعتبر يوم الغدير يوم أوج غربة ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) قبل أن نعتبره منطلقا لغربة أمير المؤمنين (عليه السلام).
وأهم دليل لهذا القول هو المقطع المحوري من خطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عيد الغدير حيث قال: «مَن کُنتُ مُولاهُ فهذا عَلیٌّ مُولاه» فهو قد أكّد في البداية على ولايته ثمّ صرّح بولاية علي (عليه السلام). ومقتضاه هو أنه من لم يخضع لولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلن يتقبّل ولاية علي (عليه السلام) بطبيعة الحال.
وفي الواقع قد ناشد رسول الله (صلى الله عليه وآله) القوم أن «ألست أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِم» فكانت المشكلة وما زالت في ولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله).
بدلا من أن يصرّح الله سبحانه في آية من آيات القرآن بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) ووصايته، وَكَل هذا الأمر إلى رسوله (صلى الله عليه وآله). صحيح أن كل ما يجرى على لسان النبي (صلى الله عليه و آله) هو بأمر الله ووحيه، كما قال سبحانه: (ما یَنطِقُ عَنِ الهَوی اِن هُوَ الاوَحیٌ یُوحی) ولكن في بعض الأحيان قد جاءت أوامر الله صريحة وبشكل مباشر عبر آيات القرآن وما كان على الرسول إلا أن يتلوها على الناس ويشرحها لهم. ولكن في أحيان أخرى كان يجب أن تصل أحكام الله إلى الناس عن طريق بيان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويسمع الناس منه، كما هو الحال في بيان تفاصيل بعض الأحكام ومصاديق بعض المسائل والأحكام. وكان الناس قد تعرّفوا على هذا الأسلوب.
وفي الواقع كأن الله قد أمر النبي أن اؤمر الناس بقبول ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) إذ يجب على الناس إطاعتك وإطاعتك إطاعة للّه. لقد شاء الله أن يبلّغ الناس حكم ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) ووصايته عن طريق النبي (صلى الله عليه وآله). وقد أصبح هذا النوع من الإبلاغ بالإضافة إلى حساسيّته أرضية مناسبة لامتحان كبير على الناس في مدى إطاعتهم لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله).
أما ما هي الحكمة من هذا التقسيم الثنائي في بيان معارف الدين وأحكامه ولماذا يصرّح اللّه ببعضها في كتابه الكريم بينما يكل تبيين بعض آخر من الأحكام إلى الرسول ليبيّنها ويؤسسها بنفسه فهذا موضوع مهمّ جدا حري بالتأمل ولابدّ من مناقشته في محلّه. وأنه ما هو السبب في جعل قضية الوصاية وإمامة الإمام علي (عليه السلام) في القسم الموكول على عاتق رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحيث يجب أن يبلغه الناس بنفسه فهذا أيضا موضوع جدير بالتأمل وينطوي على أسرار ورموز كثيرة جدّا ولا ينبغي إهمالها ولابدّ من الوقوف عنده في مجال آخر.
إذن فعيد الغدير هو يوم ولاية إمامين: إحداهما هي الولاية العظمى للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي تجلّت في أوجها، والأخرى هي إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) التي قد بلغت لجميع الناس. إذن في الواقع نحن نحتفل في عيد العدير بمناسبتين. الأولى هي تجلي ولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أرفع حالاتها ومراتبها والأخرى هي تحقق أوسع إعلان رسمي لولاية علي ولي الله (عليه السلام).
ولاية رسول الله العظمى (صلى الله عليه وآله):
قد يبدو تعبير ولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله) غريبا نوعا ما، إذ عادة ما يتبادر ذهن المؤمنين من كلمة الولاية إلى ولاية الأئمة المعصومين (عليهم السلام). ولكننا نعلم أن أنبياء الله عموما وخاتم الأنبياء خصوصا كانوا يحظون بمقام الإمامة. فقوله تعالى: (مَا اَرسَلنَا مِن رَسُولٍ اِلّا لِیُطاعَ بِاِذنِ اللهِ) یشیر إلى مقام الولاية. وكذلك تأكيد الله على إطاعة نبيّه الخاتم إلى جانب إطاعته: (اَطیعُوا اللهَ وَ اَطِیعُوا الرَّسُولَ) تصريح مستقل بولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله).
كما أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد صرّح بولاية نفسه قبل إبلاغ حكم ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث قال: «یَا أَیُّهَا النَّاسُ مَنْ وَلِیُّکُمْ وَأَوْلَی بکُمْ مِنْ أَنْفُسِکُمْ فَقَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَقَالَ مَنْ کُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِیٌّ مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.«
إن معنى ولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو أن له صلاحية الأمر ولزوم امتثال أوامره علينا كضرورة إطاعة الله المتعال. إنه وليّنا وقد سلّم بيده زمام إدارة حياتنا. إذن فبإمكانه أن ينصب إماما بعده حتى وإن لم يأمره الله بشكل صريح ولم يحدّد له الخليفة بذكر المصداق. وإن كان ما حصل في واقعة الغدير في الواقع كان وفقا لأمر الله المؤكد والمعيّن بالتحديد وهذا ما صرح به النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مرارا.
هل قد أكد القرآن على ولاية النبيّ أم على ولاية خليفته؟
إن سبب اشتهار هذه الآية الكريمة (یا اَیُّهَا الَّذینَ ءامَنُوا اَطیعُوا اللهَ وَأَطیعُوا الرَّسُولَ وَاُولِی الاَمرِ مِنکُم) بولاية المعصومين (عليهم السلام) بين المؤمنين بسبب وجود عبارة «أولي الأمر»، ونحن قد بذلنا جلّ اهتمامنا بدلالة الآية على ولاية أولي الأمر وتحديد مصاديقهم من خلال أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهو عمل ضروري لابدّ منه. ولكن حريّ بنا أن نقف في هذه الآية عند إطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) أكثر من لزوم إطاعة أولي الأمر.
لقد تكرّر فعل «أطيعوا» في هذه الآية مرّتين؛ مرّة قبل كلمة «اللّه» ومرّة قبل كلمة «الرسول». مع أنه كان بالإمكان عطف كلمة «الرسول» على لفظ الجلالة والاكتفاء بـ «أطيعوا» واحدة. كما في العبارة التالية قد عطفت «أولي الأمر» على «الرسول». وحتى كان بالإمكان عطف الكلمات الثلاث بعضا على بعض باستخدام «أطيعوا» مرّة واحدة.
أما هذا الأسلوب أي أمر الناس بإطاعة الله ثم أمرهم بإطاعة الرسول عبر جملة مستقلة كاملة وبتكرار الفعل، يدل على تأكيد الله المتعال على إطاعة الرسول وكذلك يدل على أن قضية إطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليست بقضية خالية من بعض المكنونات.
كأن الله يقول للناس أن لرسولي كلاما وحديثا لم يأت في القرآن بصراحة ولم يكن من أوامري المباشرة، ولكن باعتباره (مَا یَنطِقُ عَنِ الهَوَی، إن هُوَ اِلّا وَحیٌ یوُحَی) تجب إطاعته كما تجب إطاعتي. إذن أراد القرآن عبر هذه الآية أن يؤكّد على ضرورة إطاعة الرسول. وفعلا لو كانت الأمة تطيع الرسول كاملا لما حصل نزاع على إطاعة أولي الأمر وتحديد مصاديقهم ولما همّشوا أوامر النبي (صلى الله عليه وآله) الصريحة.
إذن فالولاية التي تجلّت غربتها في يوم الغدير ليست ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) بل قبلها وأهمّ منها هي ولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله). ومع الأسف لم تكن هذه الظاهرة هي الأولى من نوعها بل لها سابقة. فهؤلاء الذين كانوا يستفسرون بحضور النبي (صلى الله عليه وآله) وتحت حاكميّته عن مبادئ أوامره ويسألونه «أهي من الله أم من عندك؟» من الواضح أنهم ماذا سيفعلون بعد ارتحاله بأوامره.
إشارات القرآن إلى غربة ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) وتصريحاته بها:
لابدّ أن نعرف أن شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يكن غريبا بل كان في أوج الشهرة والمحبوبية والقوّة الاجتماعية بل شخصيته الولائية كانت غريبة. يعني قلّ ما كانوا يمتثلون أوامره باعتباره رسولا تجب إطاعته ونافذة ولايته. وحتى شخصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) النبوية لم تكن غريبة، إذ كثيرا ما كانوا يسألون النبي بعد إصداره أمرا أن «أهذا حكمك أم حكم الله» ويبدو من خلال التاريخ أن هذا السؤال كان سؤالاً شائعاً يومئذ وممّا يدل على أنه كان يفرّق بعض الناس بسهولة بين حكم الله وحكم الرسول (صلى الله عليه وآله). ولم ينته الأمر إلى هذا السؤال وحسب بل كثيرا ما كانوا يناقشون النبي (صلى الله عليه وآله) ويلحّون عليه لكي يغير رأيه.
لا بأس أن نتأمل في آية من آيات القرآن لنقف على مدى غربة ولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بعض الأوساط. تقول الآية المباركة: (وَ إِذا قیلَ لَهُم تَعالَوا إِلی ما أَنزَلَ اللهُ وَاِلی الرَّسُولِ رَأَیتَ المُنافِقینَ یَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً)، إن سبب عدم إعراضهم عن ما أنزل الله ولو بحسب الظاهر وصدّهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لموضوع مهم وجدير بالتأمل.
إن مرض المنافق هو أنه يدعي أن لا مشكلة لي مع كتاب الله، بل مشكلتي مع حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله). ولذلك لا يصدّ عن ما أنزل الله بل حتى قد يشجّع الناس على تلاوة القرآن ولكنه يصدّ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) صدودا كما قال القرآن.
إن عظمة ولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وغربتها من الشدّة بمكان بحيث قد أكثر القرآن من الحديث عنها ولم تصل النوبة إلى الكلام الصريح عن ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام). وفي الواقع قد تحدّث الله سبحانه عن ولاية رسوله التي لو لم تُظلَم ولم تُنكَر لتقبّل الناس ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) بكل رحابة ولما حصل أي نزاع.
سماحة الشيخ علي رضا بناهيان