يتم التحميل...

هل تقبل سنة الإسلام الاجتماعية الإجراء والبقاء؟

المجتمع الإسلامي

ربما لقائل أن يقول: إذا كان نظر الإسلام في تكوين المجتمع الصالح أرقى بناءً وأتقن أساساً حتى من المجتمعات التي كونتها الملل المتمدنة المترقية حقاً فما باله لم يقبل الإجراء إلا برهة يسيرة ثم لم يملك نفسه دون أن تبدل قيصرية وكسروية؟...

عدد الزوار: 97

ربما لقائل أن يقول: إذا كان نظر الإسلام في تكوين المجتمع الصالح أرقى بناءً وأتقن أساساً حتى من المجتمعات التي كونتها الملل المتمدنة المترقية حقاً فما باله لم يقبل الإجراء إلا برهة يسيرة ثم لم يملك نفسه دون أن تبدل قيصرية وكسروية؟ وتحوّل إمبراطورية أفجع وأشنع أعمالاً مما كان قبله بخلاف المدنية الغربية التي تستديم البقاء.

وهذا هو الدليل على كون مدنيتهم أرقى وسنتهم في الاجتماع أتقن وأشد استحكاماً، وقد وضعوا سنتهم الاجتماعية وقوانينهم الدائرة على أساس إرادة الأمة واقتراح الطباع والميول ثم اعتبروا فيها إرادة الأكثر واقتراحهم، لاستحالة اجتماع الكل بحسب العادة إرادة، وغلبة الأكثر سنة جارية في الطبيعة مشهودة فإنا نجد كلاً من العلل المادية والأسباب الطبيعية مؤثرة على الأكثر لا على الدوام، وكذا العوامل المختلفة المتنازعة إنما يؤثر منها الأكثر دون الكل ودون الأقل فمن الحري أن يبنى هيكل الاجتماع بحسب الغرض وبحسب السنن والقوانين الجارية فيه على إرادة الأكثر وأما فرضية الدين فليست في الدنيا الحاضرة إلا أمنية لا تتجاوز مرحلة الفرض ومثالاً عقلياً غير جائز النيل.

وقد ضمنت المدنية الحاضرة فيما ظهرت فيه من الممالك قوة المجتمع وسعادتها وتهذيب الأفراد وطهارتهم من الرذائل، وهي الأمور التي لا يرتضيها المجتمع كالكذب والخيانة والظلم والجفاء والجفاف ونحو ذلك.

وهذا الذي أوردناه محصل ما يختلج في صدور جمع من باحثينا معاشر الشرقيين وخاصة الباحثين من الفضلاء المفكرين في نطاق البحث الاجتماعي والنفسي، غير أنهم وردوا هذا البحث من غير مورده فاختلط عليهم حق النظر، ولتوضيح ذلك نقول:

أما قولهم: إن السنة الاجتماعية الإسلامية غير قابلة الجريان في الدنيا على خلاف سنن المدنية الحاضرة في جو الظروف القائمة، ومعناه أن الأوضاع الحاضرة في الدنيا لا تلائم الأحكام المشرعة في الإسلام، فهو مسلم لكنه لا ينتج شيئاً فإن جميع السنن الدائرة في المجتمع الإنساني إنما حدثت بعد ما لم تكن وظهرت في حين لم تكن عامة الأوضاع والظروف الموجودة إلا مناقضة له طاردة إياه، فانتهضت، ونازعت السنن السابقة المستمرة المتعرقة، وربما اضطهدت وانهزمت في أول نهضتها ثم عادت ثانياً وثالثاً حتى غلبت وتمكنت وملكت سيطرتها، وربما بادت وانقرضت إذ لم يُساعدها العوامل والظروف بعد، والتاريخ يشهد بذلك في جميع السنن الدينية والدنيوية حتى في مثل الديمقراطية والاشتراكية، وإلى مثله يشير قوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِين1.

فالآية تشير إلى أن السنة التي تصاحب تكذيب آيات الله لا تنتهي إلى عاقبة حسنة محمودة.

فمجرد عدم انطباق سنة من السنن على الوضع الإنساني الحاضر ليس يكشف عن بطلانه وفساده، بل هو في جملة السنن الطبيعية الجارية في العالم لتتميم كينونة الحوادث الجديدة إثر الفعل والانفعال وتنازع العوامل المختلفة.

والإسلام كسائر السنن من جهة النظر الطبيعي والاجتماعي وليس بمستثنى من هذه الكلية، فحاله من حيث التقدم والتأخر والاستظهار بالعوامل والظروف حال سائر السنن وليس حال الإسلام اليوم ـ وقد تمكن في نفوس ما يزيد على المليار من أفراد البشر، ونشب في قلوبهم، بأضعف من حاله في الدنيا زمان دعوة نوح وإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قامت دعوة كل منهم بنفس واحدة لم تكن تعرف الدنيا وقتئذ غير الفساد ثم انبسطت وتعرقت وعاشت واتصل بعضها ببعض فلم ينقطع حتى اليوم. وقد قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بالدعوة ولم يكن معه من يستظهر به يومئذ إلا رجل وامرأة ثم لم يزل يلحق بهم واحد بعد واحد واليوم يوم العسرة كل العسرة حتى أتاهم نصر الله فتشكلوا مجتمعاً صالحاً ذا أفراد يغلب عليهم الصلاح والتقوى ومكثوا برهة على الصلاح الاجتماعي حتى كان من أمر الفتن بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان.

وهذا الأنموذج اليسير على قصر عمره وضيق نطاقه، لم يلبث حتى انبسط في أقل من نصف قرن على مشارق الأرض ومغاربها وحوّل التاريخ تحويلاً جوهرياً يشاهد آثاره الهامة إلى يومنا، وستدوم ثم تدوم.

ولا تستطيع أن تستنكف الأبحاث الاجتماعية والنفسية في التاريخ النظري عن الاعتراف بأن المنشأ القريب، والعامل التام للتحول المعاصر المشهور في الدنيا هو ظهور السنة الإسلامية وطلوعها ولم يهمل جل الباحثين في أوربا استيفاء البحث عن تأثيرها في المجتمع الإنسان إلا لعصبية دينية أو علل سياسية وكيف يسع لباحث خبير ـ لو أنصف النظر ـ أن يسمي النهضة المدنية الحديثة نهضة مسيحية ويعد المسيح عليه السلام قائدها وحامل لوائها. والمسيح يصرح بأنه إنما يهتم بأمر الروح ولا يشتغل بأمر الجسم ولا يتعرض لشأن الدولة والسياسة؟ وهو ذا الإسلام يدعو إلى الاجتماع والتآلف ويتصرف في جميع شؤون المجتمع الإنساني وأفراده من غير استثناء فهل هذا الصفح والإغماض منهم إلا لإطفاء نور الإسلام ﴿وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ2 وإخماد ناره عن القلوب بغياً وعدواناً حتى يعود جنسية لا أثر لها إلا أثر الانسلال المنشعبة.

وبالجملة قد أثبت الإسلام صلوحه لهداية الناس إلى سعادتهم وطيب حياتهم، وما هذا شأنه لا يسمى فرضية غير قابلة الانطباق على الحياة الإنسانية، ولا مأيوساً من قوله: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً3.
ان البحث العميق في أحوال الموجودات الكونية يؤدي إلى أن النوع الإنساني سيبلغ غايته وينال بغيته وهي كمال ظهور الإسلام بحقيقته في الدنيا وتوليه التام أمر المجتمع الانساني، وقد وعده الله تعالى طبق هذه النظرية في كتابة العزيز قال: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ4.

وقال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا5.

وقال: ﴿أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ6.

وهنا جهة أخرى أغفلها هؤلاء في بحثهم وهي أن الاجتماع الإسلامي شعاره الوحيد هو إتباع الحق في النظر والعمل، والاجتماع المدني الحاضر شعاره إتباع ما يراه ويريده الأكثر، وهذان الشعاران يوجبان اختلاف الغاية في المجتمع المتكون. فغاية الاجتماع الإسلامي السعادة الحقيقية الفعلية، بمعنى أن يأخذ الإنسان بالاعتدال في مقتضيات قواه فيعطي للجسم مشتهياته مقدار ما لا يعوقه عن معرفة الله في طريق العبودية بل يكون مقدمة توصل إليها وفيه سعادة الإنسان بسعادة جميع قواه، وهي الراحة الكبرى ( وان كنا لا ندركها اليوم حق الإدراك لاختلال التربية الإسلامية فينا ) ولذلك وضع الإسلام قوانينه على أساس مراعاة جانب العقل المجبول على إتباع الحق، وشدد في المنع عما يفسد العقل السليم وألقى ضمان إجراء الجميع من الأعمال والأخلاق والمعارف الأصلية إلى عهدة المجتمع مضافاً إلى ما تحتفظ عليه الحكومة والولاية من إجراء السياسات والحدود وغيرها، وهذا على أي حال لا يوافق طباع العامة من الناس ويدفعه هذا الانغمار العجيب في الأهواء والأماني الذي نشاهده في كافة المترفين والمعدمين ويسلب حريتهم في الاستلذاذ والتلهي والسبعية والافتراس إلا بعد مجاهدة شديدة في نشر الدعوة وبسط التربية على حد سائر الأمور الراقية التي يحتاج الإنسان في التلبس بها إلى همة قاطعة وتدرب كاف وتحفظ على ذلك مستدام.

وأما غاية الاجتماع المدني الحاضر فهي التمتع من المادة ومن الواضح أن هذه تستتبع حياة أساسية تتبع ما يميل إليه الطبع سواء وافق ما هو الحق عند العقل أو لم يوافق بل إنما يتبع العقل فيما لا يخالف غايته وغرضه.

ولذلك كانت القوانين تتبع في وضعها وإجرائها ما يستدعيه هوى أكثرية المجتمع وميول طباعهم، وينحصر ضمان الإجراء في مواد القانون المتعلقة بالأعمال، وأما الأخلاق والمعارف الأصلية فلا ضامن لإجرائها بل الناس في التلبس بها وتبعيتها وعدمه أحرار،ولازم ذلك أن يعتاد المجتمع الذي شأنه ذلك بما يوافق هواه من رذائل الشهوة والغضب فيستحسن كثيراً مما كان يستقبحه الدين، وان يسترسل باللعب بفضائل الأخلاق والمعارف العالية مستظهراً بالحرية القانونية.

ولازم هذا اللازم أن يتحول نوع الفكرة عن المجرى العقلي إلى المجرى الإحساسي العاطفي، فيصبح الفجور والفسق تقوى و فتوة وحسن خلق كمعظم ما يجري في أوربا بين الشبان، وبين الرجال والنساء والكلاب، وبين الرجال وأولادهم ومحارمهم، وما يجري في الاحتفالات ومجالس الرقص وغير ذلك مما ينقبض عن ذكره لسان المتأدب بأدب الدين، وربما كان الطريق الديني غرائب وعجائب مضحكة عندهم وبالعكس كل ذلك لاختلاف نوع الفكرة والإدراك باختلاف الطريق، ولا يستفاد في هذه السنن الاحساسية من التعقل ـ كما عرفت ـ إلا بمقدار ما يسوى به الطريق إلى التمتع والتلذذ فهو الغاية الوحيدة التي لا يعارضها شيء، ولا يمنع منها شيء إلا في صورة المعارضة بمثلها حتى انك تجد بين مشروعات القوانين الدائرة أمثال ( الانتحار) و (الإجهاض) وغيرهما، فللنفس ما تريده وتهويه إلا أن يزاحم ما يريده ويهواه المجتمع.

إذا تأملت هذا الاختلاف تبين لك وجه أوفقية سنة المجتمع الغربي لمذاق الجامعة البشرية دون سنة المجتمع الديني غير أنه يجب أن يتذكر أن سنة المدنية الغربية وحدها ليست هي الموافقة ـ لطباع الناس ـ حتى تترجح بذلك وحدها بل جميع السنن المعمولة الدائرة بين أهلها من أقدم أعصار الإنسانية إلى عصرنا هذا من سنن البداوة والحضارة تشترك في أن الناس يرجحونها على الدين الداعي إلى الحق في أول ما يعرض عليهم لخضوعهم للوثنية المادية.

ولو تأملت حق التأمل وجدت هذه الحضارة الحاضرة ليست إلا مؤلفة من سنن الوثنية الأولى غير أنها تحولت من حال الفردية إلى حال الاجتماع، ومن مرحلة السذاجة إلى مرحلة الدقة الفنية.

والذي ذكرناه من بناء السنة الاسلامية على اتباع الحق دون موافقة الطبع من أوضح الواضحات في بيانات القرآن، قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ7.

وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ8.

وقال في وصف المؤمنين ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ9.

وقال: ﴿لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ10.

فاعترف بأن الحق لا يوافق طباع الأكثرين وأهواءهم، ثم رد لزوم موافقة أهواء الأكثرية بأنه يؤول إلى الفساد فقال: ﴿بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ11.

ولقد صدق جريان الحوادث وتراكم الفساد يوماً فيوماً ما بينه تعالى في هذه الآية. وقال تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ12 والآيات في هذا المعنى وما يقرب منه كثيرة جداً وإن شئت زيادة تبصر فيه فراجع سورة يونس، فقد كرر فيه ذكر الحق بضعاً وعشرين مرة.

وأما قولهم: إن اتباع الأكثر سنة جارية في الطبيعة، فلا ريب أن الطبيعة تتبع الأكثر في آثارها إلا أنها ليست بحيث تبطل أو تعارض وجوب اتباع الحق فإنها نفسها بعض مصاديق الحق فكيف تبطل نفسها.


وتوضيح ذلك يحتاج إلى بيان أمور
أحدهما: ان الأمور الخارجية التي هي أصول عقائد الإنسان العلمية والعملية تتبع في تكونها وأقسام تحولها نظام العلية والمعلولية، وهو نظام دائم ثابت لا يقبل الاستثناء أطبق على ذلك المحصلون من أهل العلم والنظر وشهد به القرآن على ما مر. فالحدث الخارجي لا يتخلف عن الدوام والثبات حتى ان الحوادث الأكثرية الوقوع التي هي قياسية هي في انها أكثرية دائمة ثابتة، مثلاً: النار التي تفعل السخونة غالباً بالقياس إلى جميع مواردها ( سخونتها الغالبية ) أثر دائم لها وهكذا، وهذا هو الحق.

والثاني: أن الإنسان بحسب الفطرة يتبع ما وجده أمراً واقعياً خارجياً بنحو فهو يتبع الحق بحسب الفطرة حتى ان من ينكر وجود العلم الجازم إذا القي اليه قول لا يجد من نفسه التردد فيه خضع له بالقبول.

والثالث: أن الحق كما عرفت هو الأمر الخارجي الذي يخضع له الإنسان في اعتقاده أو يتبعه في عمله، وأما نظر الإنسان وإدراكه فإنما هو وسيلة يتوسل بها إليه كالمرآة بالنسبة إلى المرئي.

إذا عرفت هذه الأمور تبين لك أن الحقية وهي دوام الوقوع أو أكثرية الوقوع في الطبيعة الراجعة إلى الدوام والثبات أيضاً إنما هي صفة الخارج الواقع وقوعاً دائمياً أو أكثريا دون العلم والإدراك، وبعبارة اخرى هي صفة الامر المعلوم لا صفة العلم، فالوقوع الدائمي والاكثري أيضاً بوجه من الحق، وأما آراء الأكثرين وأنظارهم واعتقاداتهم في مقابل الأقلين فليست بحق دائماً، بل ربما كانت حقاً إذا طابقت الواقع وربما لم تكن إذا لم تطابق وحينئذ فلا ينبغي أن يخضع لها الإنسان ولا أنه يخضع لها لو تنبه للواقع فإنك إذا أيقنت بأمر ثم خالفك جميع الناس فيه لم تخضع بالطبع لنظرهم وإن اتبعتهم فيه ظاهراً فإنما تتبعهم لخوف أو حياء، أو عامل آخر لا لأنه حق واجب الأتباع في نفسه، ومن أحسن البيان في أن رأي الأكثر ونظرهم لا يجب أن يكون حقاً واجب الإتباع، قوله تعالى: ﴿بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ13.

فلو كان كل ما يراه الأكثر حقاً لم يمكن أن يكرهوا الحق ويعارضوه. وبهذا البيان يظهر فساد وبناء اتباع الأكثرية على سنة الطبيعة فإن هذه السنة جارية في الخارج الذي يتعلق به العلم دون نفس العلم والفكر والذي يتبعه الإنسان من هذه السنة في إرادته وحركاته إنما هو ما في الخارج من أكثرية الوقوع لا ما اعتقده الأكثرون أعني أنه يبني أفعاله وأعماله على الصلاح الأكثري، وعليه جرى القرآن في حكم تشريعاته ومصالحها، قال تعالى ﴿مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ14.

وقال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ15 إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على ملاكات غالبية الوقوع للأحكام المشرعة.

وأما قولهم: إن المدنية الحاضرة سمحت بسعادة المجتمع وتهذيب الأفراد وتطهيرهم عن الرذائل التي لا يرتضيها المجتمع فكلام غير خال من الخلط والاشتباه.

وكأن مرادهم من السعادة الاجتماعية تفوق المجتمع في عدتها وقوتها وتعاليها في استفادتها من المنابع المادية وقد عرفت كراراً أن الإسلام لا يعد ذلك سعادة والبحث البرهاني أيضاً يؤيده بل السعادة الإنسانية أمر مؤلف من سعادة الروح والبدن وهي تنعم الإنسان من النعم المادية وتحليه بفضائل الأخلاق والمعارف الحقة الإلهية وهي التي تضمن سعادته في الحياة الدنيا والحياة الأخرى وأما الانغمار في لذائذ المادة مع إهمال سعادة الروح فليس عنده إلا شقاء.

وأما استعجابهم بما يرون من الصدق والصفاء والأمانة والبشر، وغير ذلك فيما بين أفراد الأمم المترقية، فقد اختلط عليهم حقيقة الأمر فيه، وذلك أن جل المتفكرين من باحثينا معاشر الشرقيين لا يقدرون على التفكير الاجتماعي وإنما يتفكرون تفكراً فردياً فالذي يراه الواحد منا نصب العين أنه موجود إنساني مستقل عن كل الأشياء غير مرتبط بها ارتباطاً تبطل استقلاله الوجودي (مع أن الحق خلافه) ثم لا يتفكر في حياته إلا لجلب المنافع إلى نفسه ودفع المضار عن نفسه فلا يشتغل إلا بشأن نفسه وهو التفكر الفردي، ويستتبع ذلك أن يقيس غيره على نفسه فيقضي فيه بما يقضي على هذا النحو من الاستقلال.
وهذا القضاء إن صح فإنما يصح فيمن يجري في تفكره هذا المجرى، وأما من يتفكر تفكراً اجتماعياً ليس نصب عينيه إلا انه جزء غير منفك ولا مستقل عن المجتمع وان منافعه جزء من منافع مجتمعه يرى خير المجتمع خير نفسه وشره شر نفسه، وكل وصف وحال له وصفاً وحالاً لنفسه، فهذا الإنسان يتفكر نحواً آخر من التفكر ولا يشتغل في الارتباط بغيره إلا بمن هو خارج عن مجتمعه واما اشتغاله بأجزاء مجتمعه فلا يهتم به ولا يقدره شيئاً.

واستوضح ذلك بما نورده من المثال: الإنسان مجموع مؤلف من أعضاء وقوى عديدة تجتمع الجميع نوع اجتماع يعطيها وحدة حقيقية نسميها الإنسانية، يوجب ذلك استهلاك الجميع ذاتاً وفعلاً تحت استقلاله فالعين والأذن واليد والرجل تبصر وتسمع وتبطش وتمشي، وإنما يلتذ كل بفعله ضمن التذاذ الإنسان به، وكل واحدة من هذه الأعضاء والقوى همها أن ترتبط بالخارج الذي يريد الإنسان الواحد الارتباط به بخير أو شر فالعين أو الأذن أو اليد أو الرجل إنما تريد الإحسان أو الإساءة إلى من يريد الإنسان الإحسان أو الإساءة إليه من الناس مثلاً، وأما معاملة بعضها مع بعض والجميع تحت لواء الإنسانية الواحدة فقلما يتفق أن يسيء بعضها إلى بعض أو يتضرر بعضها ببعض.

فهذا حال أجزاء الإنسان وهي تسير سيراً واحداً اجتماعياً، وفي حكمه حال أفراد مجتمع إنساني إذا تفكروا تفكراً اجتماعياً فصلاحهم وتقواهم أو فسادهم وإجرامهم وإحسانهم وإساءتهم إنما هي ما لمجتمعهم من هذه الأوصاف إذا اُخذ ذا شخصية واحدة.

وهكذا صنع القرآن في قضائه على الأمم والأقوام التي ألجأتهم التعصبات المذهبية أو القومية ان يتفكروا تفكراً اجتماعياً كاليهود والأعراب وعدة من الأمم السالفة فتراه يؤاخذ اللاحقين بذنوب السابقين، ويعاتب الحاضرين ويوبخهم بأعمال الغائبين والماضين كل ذلك لأنه القضاء الحق فيمن يتفكر فكراً اجتماعياً، وفي القرآن الكريم من هذا الباب آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها.

نعم مقتضى الأخذ بالنصفة أن لا يضطهد حق الصالحين من الأفراد بذلك أن وجدوا في مجتمع واحد فإنهم وإن عاشوا بينهم واختلطوا بهم إلا أن قلوبهم غير متقذرة بالفكر الفاسد والمرض المتبطن الفاشي في مثل هذا المجتمع، وأشخاصهم كالأجزاء الزائدة في هيكله وبنيته، وهكذا فعل القرآن في آيات العتاب العام فاستثنى الصلحاء والأبرار.

ويتبين مما ذكرنا أن القضاء بالصلاح والطلاح على أفراد المجتمعات المتمدنة الراقية على خلاف أفراد الأمم الأخرى لا ينبغي أن يبنى على ما يظهر من معاشرتهم ومخالطتهم فيما بينهم وعيشتهم الداخلية بل بالبناء على شخصيتهم الاجتماعية البارزة في مماستها ومصاكتها سائر الأمم الضعيفة ومخالطتها الحيوية سائر الشخصيات الاجتماعية في العالم. فهذه هي التي يجب أن تراعى وتعتبر في القضاء بصلاح المجتمع وطلاحه وسعادته وشقائه وعلى هذا المجرى يجب ان يجري باحثونا ثم إن شاؤوا فليستعجبوا وإن شاؤو فليتعجبوا.

ولعمري لو طالع المطالع المتأمل تاريخ حياتهم الاجتماعية من لدن النهضة الحديثة الأوروبية وتعمق فيما عاملوا به غيرهم من الأمم والأجيال المسكينة الضعيفة لم يلبث دون أن يرى أن هذه المجتمعات التي يظهرون أنهم امتلؤوا رأفة ونصحاً للبشر يفدون بالدماء والأموال في سبيل الخدمة لهذا النوع وإعطاء الحرية والأخذ بيد المظلوم المهضوم حقاً وإلغاء سنة الاسترقاق والأسر يرى أنهم لا همّ لهم إلا استعباد الأمم الضعيفة ؛ مساكين الأرض ما وجدوا إليه سبيلاً، فيوماً بالقهر، ويوماً بالاستعمار، ويوماً بالاستملاك، ويوماً بالقيمومة، ويوماً باسم حفظ المنافع المشتركة، ويوماً باسم الإعانة على حفظ الاستقلال، ويوماً باسم حفظ الصلح ودفع ما يهدده، ويوماً باسم الدفاع عن حقوق الطبقات المستأصلة المحرومة ويوماً.. ويوماً.

والمجتمعات التي هذا شأنها لا ترتضى الفطرة الإنسانية السليمة أن تصفها بالصلاح أو تذعن لها بالسعادة وإن أغمضت النظر عما يشخصه قضاء الدين من معنى السعادة. وكيف ترضى الطبيعة الإنسانية أن تجهز أفرادها بما تجهزها على السواء ثم تناقض نفسها فتعطي بعضاً منهم عهداً أن يتملكوا الآخرين تملكاً يبيح لهم دماءهم وأعراضهم وأموالهم، ويسوي لهم الطريق إلى اللعب بمجامع حياتهم ووجودهم والتصرف في إدراكهم وإرادتهم بما لم يلقه ولا قاساه إنسان القرون الأولى، والمعول في جميع ما نذكره تواريخ حياة هؤلاء الأمم وما يقاسيه الجيل الحاضر من أيديهم فإن سمي عندهم سعادة وصلاحاً فلتكن بمعنى التحكم وإطلاق المشيئة.

*قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم، العلامة السيد محمد حسين الطبطبائي، دار الصفوة، ص16-28.


1- آل عمران:137.
2- التوبة:32.
3- البقرة:213.
4- المائدة:54.
5- النور:55.
6- الأنبياء:105.
7- التوبة:33.
8- غافر:20
9- العصر:3.
10- الزخرف:78.
11- المؤمنون:70 ـ 71.
12- يونس:32.
13- المؤمنون:70.
14- المائدة:6.
15- البقرة:183.

2009-11-04