...وننصرف الآن من منطقة الفكر إلى منطقة القلب، من منطقة العقل إلى منطقة الوجدان، أريد أن نعيش معاً لحظات بقلوبنا لا بعقولنا فقط، بوجداننا، بقلوبنا، نريد أن نعرض هذه القلوب على القرآن الكريم بدلاً من أن نعرض أفكارنا وعقولنا، نعرض صدورنا، لمن ولاؤها؟ ما هو ذاك الحبّ الذي يسودها ويمحورها ويستقطبها؟ إنّ الله سبحانه وتعالى لا يجمع في قلب واحد ولاءين، لا يجمع حبين مستقطبين؛ إمّا حبّ الله، وإمّا حبّ الدنيا، أمّا حبّ الله وحبّ الدنيا معاً، فلا يجتمعان في قلب واحد.
فلنمتحن قلوبنا، فلنرجع إلى قلوبنا لنمتحنها، هل تعيش حبّ الله سبحانه وتعالى، أو تعيش حب الدنيا، فإن كانت تعيش حب الله، زدنا ذلك تعميقاً وترسيخاً، وإن كانت ـ نعوذ بالله ـ تعيش حب الدنيا، حاولنا أن نتخلّص من هذا الداء الوبيل، من هذا المرض المهلك.
إن كلّ حبّ يسقطب قلب الإنسان، يتخذ إحدى صيغتين وإحدى درجتين:
الدرجة الأولى: أن يشكّل هذا الحيّ محوراً وقاعدة لمشاعر وعوطف وآمال وطموحات هذا الإنسان، قد ينصرف عنه في قضاء حاجة في حدود خاصّة ولكن يعود، سرعان ما يعود إلى القاعدة لأنها هي المركز، وهي المحور.. قد ينشغل بحديث، قد ينشغل بكلام، قد ينشغل بعمل، بطعام، بشراب، بمواجهة، بعلاقات ثانويّة، بصداقات... لكن يبقى ذاك الحبّ هو المحور، هذه هي الدرجة الأولى.
والدرجة الثانية من الحبّ المحور، أن يستقطب هذا الحبّ كلّ وجدان الإنسان، بحيث لا يشغله شيء عنه على الإطلاق. ومعنى أنه لا يشغله شيء عنه، أنه سوف يرى محبوبه وقبلته وكعبته أينما توجه، أينما توجه سوف يرى ذلك المحبوب، هذه هي الدرجة الثانية من الحبّ المحور.
هذا التقسيم الثنائي ينطبق على حبّ الله وينطبق على حبّ الدنيا، حب الله سبحانه وتعالى، الحبّ الشريف لله المحور، يتخذ هاتين الدّرجتين؛ الدّرجة الأولى يتخذها في نفوس المؤمنين الصالحين الطاهرين الذين نظّفوا نفوسهم من أوساخ هذه الدنيا الدنية، هؤلاء يجعلون من حبّ الله محوراً لكلّ عواطفهم ومشاعرهم وطموحاتهم وآمالهم، قد ينشغلون بوجبة طعام، بمتعة من المتع المباحة، بلقاء مع صديق، بتنزّه في شارع، ولكن يبقى هذا هو المحور الذي يرجعون إليه بمجرّد أن ينتهي هذا الانشغال الطارئ.
وأما بالدرجة الثانية، فهي الدرجة التي يصل إليها أولياء الله من الأنبياء والأئمة (عليهم أفضل الصلاة والسلام).. (عليّ بن أبي طالب) الذي نحظى بشرف مجاورة قبره، هذا الرّجل العظيم، كلكم تعرفون ماذا قال، هو الذي قال: "ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله معه وقبله وبعده وفيه"، لأن حبّ الله في هذا القلب العظيم استقطب وجدانه إلى الدرجة التي منعته من أن يرى شيئاً آخر غير الله، حتى حينما كان يرى الناس، كان يرى فيهم عبيد الله، حتى حينما كان يرى النعمة الموفورة، كان يرى فيها نعمة الله سبحانه وتعالى دائماً.. هذا المعنى الحرفي، هذا الربط بالله دائماً وأبداً، يتجسّد أمام عينه، لأن محبوبه الأوحد، ومعشوقه الأكمل، قبلة آماله وطموحاته، لم يسمح له بشريك في النظر، فلم يكن يرى إلا الله سبحانه وتعالى.
هذه هي الدرجة الثانية، التقسيم الثنائي نفسه يأتي في حبّ الدنيا، الذي هو رأس كلّ خطيئة، على حدّ تعبير رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حبّ الدنيا يتخذ درجتين:
الدرجة الأولى أن يكون حب الدنيا محوراً للإنسان، قاعدةً له في تصرفاته وسلوكه، يتحرك حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يتحرك، ويسكن حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يسكن، يتعبد حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يتعبّد، وهكذا... الدنيا تكون هي القاعدة، لكن أحياناً أيضاً، يمكن أن يفلت من الدنيا، يشتغل أشغالاً أخرى نظيفة، طاهرة، قد يصلي لله سبحانه وتعالى، قد يصوم لله سبحانه وتعالى، لكن سرعان ما يرجع مرة أخرى إلى ذلك المحور وينشدّ إليه.. فلتاتٌ يخرج بها من إطار ذلك الشيطان، ثم يرجع إلى الشيطان مرة أخرى.
هذه درجة أولى من هذا المرض الوبيل، مرض حبّ الدنيا.
وأما الدرجة الثانية من هذا المرض الوبيل، فهي الدرجة المهلكة، حينما يعمي حبّ الدنيا هذا الإنسان، يسدّ عليه كل منافذ الرؤية... حبّ الدنيا في الدرجة الثانية يصل إلى مستوى بحيث إنّ الانسان لا يرى شيئاً إلا ويرى الدنيا فيها وقبلها وبعدها ومعها، حتى الأعمال الصالحة تتحوّل عنده وبمنظاره إلى دنيا، تتحوّل عنده إلى متعة، إلى مصلحة شخصية، حتى الصلاة، حتى الصيام، حتى البحث، حتى الدرس، هذه الألوان كلها تتحوّل إلى دنيا لا يمكنه أن يرى شيئاً إلا من خلالها...
هذه هي الدرجة الثانية، وكلّ من الدرجتين مهلكة، والدرجة الثانية أشدّ هلكة من الدرجة الأولى، ولهذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة"، وقال الإمام الصادق (عليه السلام): "الدنيا كماء البحر، من ازداد شرباً منه، ازداد عطشاً"...
لا تقل فلآخذ هذه الحفنة من الدنيا ثم أنصرف عنها.. فلأحصل على هذه المرتبة من جاه الدنيا ثم أنصرف إلى الله..! ليس الأمر كذلك، فإنّ أيّ مقدار تحصل عليه من مال الدنيا، من مقامات هذه الدّنيا الزائلة، سوف يزداد بك العطش والنّهم إلى المرتبة الأخرى، "الدنيا كماء البحر"، "الدنيا رأس كلّ خطيئة". الرسول (صلى الله عليه وآله) يقول: "من أصبح وأكبر همه الدنيا، فليس له من الله شيء"...
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يطهّر قلوبنا، وينقّي أرواحنا، ويجعل الله أكثر همّنا، ويملأنا حبّاً له، وخشية منه، وتصديقاً به، وعملاً بكتابه.
الشّهيد السيّد محمد باقر الصدر (رض) - جزء من محاضرة لسماحته، واردة في كتاب له بعنوان ومضات
2019-04-23