ومن كلامٍ لأميرِ المؤمنينَ (ع) قالَه عندَ تلاوتِه: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ﴾[1]: «إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الذِّكْرَ جِلاَءً لِلْقُلُوبِ، تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ، وَتُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ، وَتَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ، وَمَا بَرِحَ لله عَزَّتْ آلاَؤهُ فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ، وَفِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ، عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ، وَكَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ، فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَة فِي الأسْمَاعِ وَالأبْصَارِ وَالأفْئِدَةِ»[2].
المناجاةُ هي مِنَ الأبوابِ التي جعلَها اللهُ عزَّ وجلَّ لعبادِه ليُخاطبوه من خلالِها، يسألونَه حاجاتِهم، ويُسرّونَ إليه بما في قلوبِهم؛ فأبوابُه مفتوحةٌ لهم، وقد وردتْ أنواعٌ من المناجاةِ التي علَّمَنا إيّاها أهلُ البيتِ (عليهم السلام) لا سيّما المناجاةَ الشعبانيّةَ التي كانَ يدعو بها الأئمّةُ (عليهم السلام) في ليالي شهرِ شعبان.
وكما وردَ في كلامِ الإمامِ أميرِ المؤمنينَ (ع)، فإنّ اتّباعَ النورِ يتمُّ مِن خلالِ يقظةِ أدواتٍ ثلاثٍ هي: الأبصارُ والأسماعُ والأفئدةُ، وهذا ما نقرأهُ أيضاً في فقراتِ المناجاةِ الشعبانيّةِ: «إِلَهِي هَبْ لِي قَلْباً يُدْنِيهِ مِنْكَ شَوْقُهُ وَلِساناً يُرْفَعُ إِلَيْكَ صِدْقُهُ وَنَظَراً يُقَرِّبُهُ مِنْكَ حَقُّهُ».
ففي هذه الفقرةِ تتمحورُ المناجاةُ حولَ أمورٍ ثلاثة:
1. شوقُ القلوبِ إلى لقاءِ اللهِ عزَّ وجلَّ ورضاه، وهذا الشوقُ يؤثّرُ في سلوكِ الإنسانِ على مستويين: أحدُهما: الكفُّ عن المعاصي وتركُ ما يوجبُ البعدَ عن اللهِ عزَّ وجلَّ، قالَ أميرُ المؤمنينَ (ع): «فَمَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ سَلاَ عَنِ الشَّهَوَاتِ». وثانيهما: العملُ بالطاعاتِ والعباداتِ وذكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فما وردَ في آياتِ كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ من ذكرِ نعيمِ الجنّةِ وأوصافِ هذا النعيمِ يجعلُ المؤمنَ في أشدِّ الشوقِ إليها حتّى يصلَ به حدّاً يسكنُ إلى جوارِ أهلِ القبورِ شوقاً إلى تلك الجنّةِ، يقولُ (ع): «لَوْ شَغَلْتَ قَلْبَكَ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ بِالْوُصُولِ إلَى مَا يَهْجُمُ عَلَيكَ مِنْ تِلْكَ الْمَنَاظِرِ الْمُونِقَةِ، لَزَهِقَتْ نَفْسُكَ شَوْقاً إِلَيْهَا، وَلَتَحَمَّلْتَ مِنْ مَجْلِسِي هذَا إِلَى مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ اسْتِعْجَالاً بِهَا. جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْعَى بِقَلْبِهِ إِلى مَنَازِلِ الأَبْرَارِ بِرَحْمَتِهِ».
2. صدقُ اللسانِ: فمَنْ صدَقَ لسانُه خرجَ عن النفاقِ، فهو لا يُحدِّثُ بالكذبِ، ولا يقولُ ما لا يفعلُ، ولا يَعِدُ ولا يريدُ الوفاءَ، وبهذا يُمسكُ بأبوابِ الطاعاتِ، وقد رويَ عن رسولِ اللهِ (ص): «عليكم بالصدقِ، فإنّ الصدقَ يهدي إلى البرِّ، وإنّ البرَّ يهدي إلى الجنّةِ، وما يزالُ الرجلُ يصدقُ ويتحرّى الصدقَ حتّى يُكتبَ عندَ اللهِ صدّيقاً».
3. حقُّ البصرِ: وهو من أعظمِ نِعَمِ اللهِ عزَّ وجلَّ من عبادِه، فهو وسيلةٌ للاعتبارِ، وقد وردَ في رسالةِ الحقوقِ للإمامِ زينِ العابدينَ (ع): «وأمَّا حقُّ البصرِ فغضُّه عمّا لا يحلُّ لك وتركُ ابتذالِه إلاّ لموضعِ عبرةٍ تستقبلُ بها بصراً أو تستفيدُ بها علماً فإنَّ البصرَ بابُ الاعتبارِ».
[1] سورة النور، الآيتان: 36-37.
[2] الخطبة: 222.