وإن كان بعض علماء الاجتماع يرون أن الحرب لا تنفك عن حياة البشر، وأن حياة البشر
منذ البداية كانت توأماً مع المصادمات والحروب وسفك الدماء.. ولكن المحققين من
علماء الاجتماع وعلماء النفس يردون هذه النظرية ويقولون: ليست الحروب من الظواهر
التي لا خلاص للمجتمعات البشرية عنها، بل هذه هي الانحرافات الاخلاقية والاضطرابات
الاجتماعية والاقتصادية (المالية) التي تجر إلى الحروب الدموية. إذن فيجب أن نبحث
عن علل الحرب خارج إطار الطبيعة البشرية، وبالإمكان أن نزيل عللها وموجباتها
بالتعليم والتربية الصحيحة وتنظيم الأوضاع الاجتماعية وترتيبها، وبذلك نجنب البشرية
الصدمات العظيمة التي تصيبها من هذه الناحية.
وعلى الرغم مما حصل للناس في عهدنا هذا من الانتصارات المشرقة والتي لا مثيل لها من
قبل في العلوم والصناعات، فإن الحروب الدموية والمحطمة التي تقوم في القرن العشرين
وما بعده للتوسع والمطامع المادية وإشباع الميول الطاغية لجمع من الأفراد، من أبعد
حروب التاريخ عن الانسانية. فلو ألقينا نظرة قصيرة على صحيفة الأعمال السوداء لهذه
الحروب والحوادث التي وقعت في مدة هذه السبعين سنة التي مرت من القرن العشرين، لظهر
لنا أن الجرائم التي صدرت في هذه المدة القصيرة من الإنسان المتحضر لعلها أكثر من
كل الجرائم التي وقعت في تاريخ البشرية المليء بالمجريات والحوادث.
إن العالم الغربي بما له من وسائل صناعية وقنابل ذرية تدمر البشرية بقوتها العلمية،
وتبدل المناطق العامرة من وجه الأرض إلى خراب ودمار، وأن ضجيج المظلومين يصك سمع
السماء من خلال ما للغرب من ضعف فكري وسقوط أخلاقي.
إن الحربين العالميتين الناتجتين من تناقض المنافع المادية للدول الاستعمارية
الكبرى أنتجتا للبشرية نتائج مشؤومة ومؤسفة لا يمكن غسل عار القسوة والجريمة فيهما
عن حجر مؤججي نيرانها أبداً. أرقام الإجرام كما يلي:
استمرت الحرب العالمية الأولى 1565 يوماً، والذين قتلوا في ميادين الحرب يبلغون
أكثر من تسعة ملايين نفراً. وعدد الجرحى المعوقين فيها حدود العشرين مليوناً. وعدد
المفقودين فيها أكثر من خمسة ملايين. وخسائر المدن أكثر من مجموع الخسائر في النفوس
والأرواح في سوح القتال. وقد خمنوا مصاريف هذه الحرب بأربعمئة مليون دولاراً (وهذه
القيمة مرتفعة جداً بمقاييس ذلك الزمان)، ووفقاً لمحاسبة مؤسسة الأوقاف للسلام
العالمي لدايل كارنيجي، كان من الممكن أن يبنى بهذه المصاريف لكل من عوائل بريطانيا
وإيرلندا واسكتلندا وأمريكا وروسيا وألمانيا وكندا وأستراليا وبلجيكا دوراً محترمة
مع تجهيزها بما بكفيها من أثاث.
وانتهب الحرب العالمية الأولى بما حصل فيها من دمار وخسائر جسيمة عظيمة. وما كان
الصراخ والعويل والأنين منقطعاً من الباقين على الماضين، ولا أصبح الخراب والدمار
معموراً حتى كشرت الحرب العالمية الثانية أنيابها وكشفت النقاب عن وجهها الكالح
والموحش! وفي فترة قليلة لوثت العالم بنيرانها ودمائها.
وفي هذه الحرب العالمية الثانية كان القتلى خمساً وثلاثين مليوناً (بل أكثر من ذلك
بكثير بحسب تقارير مختلفة)، وحرم عشرون مليوناً من الأيدي والأرجل، وسفك على الأرض
سبعة عشر مليون ليتر من الدماء، وأصيبت عوائل البشرية بإثني عشر مليوناً من سقط
الجنين. وتهدم في هذه الحرب ثلاثة عشر مليون مدرسة وثانوية وستة آلاف مختبر علمي!
وانفجر ثلاثمئة وتسعون ملياراً من القذائف والقنابل في الفضاء!
وفي سنة 1945م قذفت قنبلتان صغيرتان من قبل الأميركيين في حربها مع اليابان إحداهما
على مدينة هيروشيما والأخرى بعد ثلاثة أيام على مدينة ناكازاكي فانعدم في هيروشيما
سبعون ألف نفر رأساً وجرح سبعون ألفاً آخرين، وفي ناكازاكي قتل أربعون ألف نفر وجرح
نفس العدد. تهدمت الدور وذهب كثير من الأطفال والبهائم ضحايا لهذه الفاجعة. وبعد
خمسة أيام استسلمت اليابان أمام الأمريكيين بلا أي شرط.
كل هذا البؤس والتعاسة والشقاء الذي خيم على رؤوس الناس على أثر هذين الحربين وأغرق
العالم في لجج البلاء والويلات، لم يكن لها أثر في أخلاق الشعوب الغربية، التي كانت
ولا تزال سكرى من سكر الثروة والمشروبات الكحولية، ولم تعتبر من هاتين التجربتين
المرتين والمؤلمتين الماضيتين. وفي العصر الحاضر تستمر أوار الحروب كل يوم في زاوية
من زوايا العالم ويخاف أن تتبدل هذه الحروب الإقليمية إلى حرب كبيرة عالمية، فتودي
بالحضارة والإنسانية رأساً.
إن الأمم المتحضرة اليوم تصرف قسماً عظيماً من الذخائر الفكرية والقوى البدنية
والرساميل التي يجب أن تصرف في سبيل راحة الجميع ورفاهيتهم... تصرفها في إعداد أخطر
وسائل الفناء والدمار، ولم يدخروا كل هذه الأسلحة الخطيرة التي تبتلع كل يوم مبلغاً
لا يستهان به من ميزانيتهم من أجل التسلية واللعب.
المصدر: الإسلام والحضارة الغربية - بتصرّف
2018-12-19