إيّاك وسوء الظّن
عن أميرِ المؤمنينَ عليه السلام :
«لَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ الْقَضَاءُ عَلَى الثِّقَةِ بِالظَّنِّ».
تُبنى العلاقاتُ
الاجتماعيةُ لا سيّما العلاقاتُ الأخويةُ والصداقاتُ على أعمدةٍ متينةٍ تحفظُها
وتمنعُها مِنَ الانهيارِ والتلاشي، ومن أهمِّ هذه الأعمدةِ الثقةُ التي تقومُ بين
الطرفينِ. وكلّما ازدادتِ الثقةُ بين الإخوانِ ازدادتْ أواصرُ المودّةِ والمحبّةِ
والاعتمادِ على بعضِهم البعض، ومن أخطرِ الآفاتِ التي تُشكِّلُ باباً لانهيارِ
الأواصرِ الاجتماعيةِ سوءُ الظنِّ، لأنَّه يهدمُ الثقةَ، ولنتأمّلْ في قولِ اللهِ
تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾، ومن لطائفِ التأمّلِ في آياتِ اللهِ عزَّ وجلَّ أنّ الآيةَ
بعدَ أنْ أمرتْ بالاجتنابِ عن سوءِ الظنِّ، كان النهيُ فيها عن بعضِ الذنوبِ
كالتجسُّسِ والغيبةِ، قال تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ
بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾.
ويظهرُ من هذا البيانِ القرآنيِّ أنَّ مفتاحَ الوقوعِ في هذه الذنوبِ هو سوءُ الظنِّ،
فمن يقعُ في سوءِ الظنِّ بأخيه سوفَ يدفعُه ذلك إلى التجسُّسِ عليه أولاً، فإذا
عَلِمَ بعيبٍ مستورٍ فيه بسببِ هذا التجسُّسِ بدأَ بغيبتِه والوقيعةِ فيه، وهكذا
تدفعُ الوساوسُ الشيطانيةُ الإنسانَ من إثمٍ إلى إثمٍ، حتى إنّ سوءَ الظنِّ اذا
استحكمَ بالإنسانِ يَمنعُه من فعلِ الخيرِ كالعفوِ عن المسيءِ والمخطئِ حتى لو بادرَ
إلى الاعتذارِ، قال عليه السلام: «لا يَغْلِبنَّ عليكَ سوءُ الظنِّ، فإنَّه لا يدعُ
بينك وبين صديقٍ صفحاً».
وهكذا تتحقّقُ مراعاةُ العدلِ وتجنُّب الوقوعِ في الظلمِ والتعدّي من خلالِ
التحرُّزِ عن المفتاحِ الأولِ للشرورِ وهو سوءُ الظنِّ بالآخرين.
بل الحذرُ ينبغي أنْ يشتدَّ عندما تتوافرُ بعضُ الأمورِ التي تدفعُ الإنسانَ لسوءِ
الظنِّ بالآخرينَ، كالكلمةِ التي تصدُرُ من أخيكَ ولها محملٌ من محاملَ حسنةِ الظنِّ
فيذهبُ به سوءُ الظنِّ إلى الإساءةِ، قالَ أميرُ المؤمنينَ عليه السلام : «لَا
تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءاً، وأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي
الْخَيْرِ مُحْتَمَلًا». فالتروّي والتدقيقُ في صحةِ أيِّ خبرٍ يَرِدُكَ عن أخٍ لك
هو المطلوبُ في معالجةِ الاتهامِ والبناءِ عليه، وإذا وصلَكَ خبرُ حديثٍ قالَه
يُسيءُ لك فلا تُسرِعنَّ في الحكمِ عليه واتّخاذِ موقفِ قطيعةٍ معه.
ومن الآثارِ الإيجابيةِ لتجنُّبِ إساءةِ الظنِّ بالآخرينَ أنَّ سوءَ الظنِّ يوقعُ
الإنسانَ في التعبِ النفسيِّ والقلقِ والاضطرابِ، وفي المقابلِ فإنَّ حسنَ الظنِّ
يكونُ من أبوابِ الراحةِ، قالَ أميرُ المؤمنين عليه السلام في عهدِه لمالكِ الأشترِ
وهو يحثُّه على حسنِ الظنِّ بالرعيّةِ: «إِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ
نَصَباً طَوِيلًا»، حتى إنّ الإنسانَ السيءَ الظنِّ يعيشُ الوحشةَ لأنَّ سوءَ ظنِّه
لا يُبقي له صاحباً، قالَ أميرُ المؤمنينَ عليه السلام: «من لم يُحسِنْ ظنَّهُ
استوحشَ مِنْ كلِّ أحد».
ومِنَ الأسبابِ التي تدفعُ الإنسانَ لإساءةِ الظنِّ بالآخرينَ الجماعةُ التي يعيشُ
معها، من أصحابٍ وأصدقاءٍ فإنّ سوءَ الظنِّ مرضٌ معدٍ، يسري وينتشرُ فيصبحُ عادةً
جاريةً، قالَ أميرُ المؤمنينَ عليه السلام: «صُحْبَةُ الأشرارِ توجبُ سوءَ الظنِّ
بالأخيارِ».
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
2018-08-14