النبي الأكرم (ص) وإرساء الدعائم العقائدية والإنسانية في مجتمع المدينة
وفاء وإباء
النبي الأكرم (ص) وإرساء الدعائم العقائدية والإنسانية في مجتمع المدينة
عدد الزوار: 245
النبي
الأكرم (ص) وإرساء الدعائم العقائدية والإنسانية في مجتمع المدينة
إنَّ إيجاد النّظام (النموذجيّ للحكم) يحتاج إلى دعائم عقائدية وإنسانية، وهذا ما
قام به رسول الله صلى الله عليه وآله عندما وفد إلى مجتمع المدينة المنورة، حيث إنه
عمل على بذر الأسس العقائدية، وترسيخ الأصول الأخلاقية قبل أن ينطلق بالاعتماد على
هذا المجتمع لتحقيق باقي الأهداف الإلهية:
1- الدعائم العقائدية والفكرية:
لا بدّ أوّلًا من وجود معتقدات وأفكار سليمة كي يُقام النّظام
(النموذجيّ للحكم) على أساسها. وقد بيّن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هذه
الأفكار والرؤى في إطار كلمة التّوحيد والعزّة الإنسانيّة وسائر المعارف الإسلاميّة
خلال فترة السّنوات الثلاث عشرة الّتي أمضاها في مكّة، ثم علّمها وفهّمها الآخرين
بنحوٍ متواصلٍ وعلى مدى لحظات حياته، حتّى وافاه الأجل في المدينة، وكان على الدوام
بصدد تعليم وتفهيم الجميع مثل هذه الأفكار والمعارف السامية الّتي شكّلت أسس هذا
النّظام.
2- الدعائم الإنسانيَّة:
من الضروريّ وجود القواعد والدّعائم الإنسانيّة كي يستقيم بناء (النظام)
عليها، لأنّ النّظام الإسلاميّ لا يقوم على فردٍ واحد. وقد باشر النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم بإعداد هذه الرّكائز في مكّة، وحقّقها. كان بعض منهم من كبار
الصّحابة، على اختلاف مراتبهم، فقد كانوا ثمرة الجهود المضنية والجهاد المرير خلال
فترة السنوات الثلاث عشرة في مكّة، فيما كان بعضهم الآخر من الّذين تمّ بناؤهم في
يثرب من خلال رسالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أمثال سعد بن معاذ وأبي أيوب
وآخرين، وذلك قبل هجرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وعندما حلّ النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم في المدينة، باشر عملية بناء الإنسان منذ لحظة دخوله إليها. ومع
مرور الأيّام، أخذت ترد إلى المدينة شخصيّات تتّسم بجدارتها الإدارية وجلالة القدر
والشجاعة والتضحية والإيمان والاقتدار والمعرفة، حتّى أصبحت أعمدةً صلبة لهذا
الصّرح الشامخ الرفيع.
من النماذج التطبيقية في إرساء الدعائم العقائدية والفكرية
إلغاء الطبقية والنسَبية:
لقد حدّد صلى الله عليه وآله وسلم موقفه منذ اللحظة الأولى لدخوله
المدينة، فعندما دخلت النّاقة - التي كان يركبها النبيّ - يثرب، أحاط بها النّاس.
وكانت يثرب يومها مقسَّمة إلى أحياء تضمّ بيوتًا وأزقّة ومتاجر، يعود كلٌّ منها إلى
واحدة من القبائل التّابعة، إمّا للأوس أو للخزرج... كانت الناقة تمرّ من أمام قلاع
هذه القبائل، فيخرج كبارها ويأخذون بركاب النّاقة منادين: إلينا يا رسول الله، وكان
صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "دعوا الناقة فإنّها مأمورة". لكنّ كبار القوم
وأشرافهم وشيوخهم وشبابهم اعترضوا ناقة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قائلين:
انزل هنا يا رسول الله، فالدّار دارك، وكلّ ما لدينا في خدمتك، لكنّه صلى الله عليه
وآله وسلم كان يقول لهم: "دعوا الناقة فإنّها مأمورة". وهكذا طوت الناقة الطريق
حيًّا بعد حيّ، حتّى وصلت إلى حيّ بني النجّار، الّذين تنتمي إليهم أمّ الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم، وباعتبارهم أخوال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جاؤوه
وقالوا: يا رسول الله! إنّ لنا بك لقرابة، فانزل عندنا، فقال صلى الله عليه وآله
وسلم: "دعوا الناقة فإنّها مأمورة"، فانطلقت الناقة حتّى حطّت رحالها في أكثر أحياء
المدينة، فقرًا، فمدّ النّاس أعناقهم ليعرفوا مَنْ صاحب الدار الّتي حطّت عندها
الناقة، فإذا به أبو أيّوب الأنصاريّ، أفقر أهل المدينة، أو أحد أفقرهم. عمد أبو
أيّوب الأنصاريّ وعياله الفقراء المعوزون إلى أثاث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
فنقلوه إلى دارهم، وحلّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ضيفاً عليهم، فيما رُدّ
الأعيان والأشراف وأصحاب النفوذ وذوو الأنساب وأمثالهم، أي أنّه حدّد موقعه
الاجتماعيّ، فاتّضح من خلال ذلك عدم تعلّق هذا الرجل بالثّروة والنسب القبليّ
والزعامات القبلية والانتماء الأُسريّ والعائليّ، وعدم ارتباطه بالمتحايلين
الوقحين، ولن يكون كذلك. فهو صلى الله عليه وآله وسلم حدّد طبيعة سلوكه الاجتماعيّ
منذ اللحظة الأولى، وأيًّا من الفئات يُساند، ولأيٍّ من الطبقات ينحاز، ومَنْ هم
الّذين سينالون القسط الأوفر من فائدة وجوده. فالجميع كانوا ينتفعون من وجود النبيّ
صلى الله عليه وآله وسلم وتعاليمه، بيد أنّ الأكثر حرمانًا كان أكثر انتفاعًا منه،
دافِعُهم في ذلك هو التعويض عن حرمانهم.