القسوة، حقيقتها، آثارها وسبل معالجتها
دراسات أخلاقية::الأخلاق المذمومة
بقراءةٍ متأنّيةٍ للآيات والرّوايات التي تناولت موضوع القلب، نستطيع أن نستنتج أنّ هذا المصطلح يشير إلى الهويّة المعنويّة للإنسان، والتي يُعبّر عنها بتعبيرات مختلفة.
عدد الزوار: 527
تمهيد
بقراءةٍ متأنّيةٍ للآيات والرّوايات التي تناولت موضوع القلب1، نستطيع أن نستنتج أنّ
هذا المصطلح يشير إلى الهويّة المعنويّة للإنسان، والتي يُعبّر عنها بتعبيرات
مختلفة. وهذه الهويّة ترتبط بالمحتوى الدّاخليّ أو الباطنيّ، بمعزل عن حسن هذا
المحتوى أو قبحه، أو توجّهه وميله. وعلى هذا الأساس، يكون لكلّ إنسان قلبٌ خاصٌّ به
يمكن التعرّف إليه من خلال معرفة الوجهة التي اختارها لقوله تعالى:
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ
يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾2.
ويُعدّ العالم الخارجيّ، بأرضه وسماواته وما يتنزّل من الأمر بينهنّ، المسرح الكبير
أو المدرسة التي هي مهد تكامل الإنسان، فيما إذا أراد هذا السّبيل وسلكه، أمّا إذا
تنكّب عن هذا الصّراط الذي ارتضاه الله له وخلقه من أجله، فإنّ كلّ شيء فيه سيكون
حجّة عليه يوم القيامة، لا بل عذابًا وجحيمًا في الآخرة.
ولكي يتكامل الإنسان في هذه المدرسة الكبرى للحياة، يحتاج إلى التّفاعل الباطنيّ
معها وفيها، بالإضافة إلى التّفاعل الحسّيّ الذي يُعدّ أمرًا لازمًا ويشترك فيه
جميع النّاس. وقد أشارت آيات القرآن الكريم إلى أنّ الكثير من النّاس لا يتفاعلون
مع عالمهم إلّا من خلال الحواس الظاهرة، وقد فقدوا أو خسروا الحواس الباطنة التي هي
وسيلتهم للاستفادة المعنويّة والتّكامليّة فيه. ولهذا فالتّفاعل الحسّيّ، إذا لم
يجعله صاحبه مقدّمة للتّفاعل القلبيّ، فإنّه سيُعدّ من زمرة الأنعام، بل أضلّ سبيلا.
ويعتمد التّفاعل القلبيّ على كون القلب مفعمًا بالحياة والتأثّر وقابليّة الانفعال.
فمن لم يكن قلبه كذلك، فهو محرومٌ من هذه الفرصة الوحيدة لبناء حياة معنويّة تدوم
إلى الآخرة، وهذا هو القلب القاسي. ولهذا كان ـ كما جاء في الحديث الشّريف ـ أبعدَ
شيء عن الله تعالى3.
ما هي الشّخصيّة القاسية؟
القسوة أو الصّلابة وصفٌ ينطبق على الأبدان كما ينطبق على القلوب، وما يهمّنا هنا
هو ما يرتبط بأحوال القلوب. وكما علمنا فإنّ هذه الأحوال سرعان ما تصبح سمةً بارزةً
أو ثابتةً فيها، فتطبع صاحبها بشخصيّة محدّدة، وينشأ عنها مجموعة من السّلوكيّات
المتكرّرة.
وقد تمرّ قلوبنا بحالاتٍ من القسوة، لكنّ الأخطر هو أن تصبح قاسية، وتثبت على هذه
الحالة، فعندها يصبح التّغيير صعبًا جدًّا، وفي بعض الحالات متعذّرًا. وفي حال
القلب القاسي، فإنّ الأمر المخيف هو أنّ ما يحتاج إليه الإنسان للتغيير هو رقّة قلب
تنفعل بالموعظة والكلمة الطيّبة، وهذا ما يفتقده ها هنا. يقول الإمام الخمينيّ قدس
سره: "اعلم أنّ القساوة عبارة عن غلظة القلب وشدّته وصلابته، يُقال: قسا قلبه قساوة
وقساءً، غلُظ وصلُب، وحجر وقاس، أي صلب"، ويقابلهما اللين والرقّة، قال تعالى في
الآية المباركة:
﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ
مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ
فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾4، وفي هذه الآية جعل شرح الصّدر ـ الذي يستلزم قبول الحقّ ـ
مقابلًا لقساوة القلب التي تستلزم عدم قبول الحقّ. ثمّ ذكر في الآية اللاحقة اللين
ورقّة القلب، وهي المقابل الحقيقيّ للقساوة، فقال:
﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ
الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ﴾5"6.
إنّ القسوة أمرٌ ندركه بالوجدان والتّجربة الحسّيّة، فكثيرًا ما نواجه بعض المواد
الطّبيعيّة التي تكون ليّنة رقيقة، ثمّ تقسو عبر بعض العوامل، فتكون في الحالة
الأولى طيّعة، ثمّ تصبح
عصيّة. وهكذا، نصادف أشخاصًا لا ينفع معهم الكلام الجميل والمعاملة الرّقيقة،
فنجدهم لا يتأثّرون بالمواقف التي يخشع القلب لها أو يتأثّر فرحًا أو بكاءً. وفي
بعض الأحاديث ذُكرت الرأفة والرّحمة، وجُعل ضدّهما القسوة والغضب.
لهذا قال الإمام الخميني قدس سره: "وما ورد في الحديث الشّريف من ذكر الرأفة
والرّحمة كمضادّين للقسوة والغضب، هو ليس من باب المقابلة والمضادّة الحقيقيّة، بل
المقصود هو المقابلة على نحو مقابلة اللازم أو الملزوم، لأنّ الرأفة لازمة اللين
الذي هو المقابل الحقيقيّ للقسوة، والرّحمة لازمة أو ملازمة للحلم الذي هو المقابل
الحقيقي للغضب"7.
ما هي آثار القسوة القلبيّة؟
يكفي أن يُحرم الإنسان من فرصة التّكامل ليكون من الأخسرين، وهل من معنى لوجود
البشر في هذا العالم أو غاية سوى التّكامل للوصول إلى لقاء الله تعالى؟!
1- قتل أولياء الله
والقلب القاسي ـ كما علمنا ـ لا يتفاعل مع آيات الله التي تمثّل دروس الحياة
ومقامات الوجود. وقد قرأنا في التّاريخ أنّ بني إسرائيل وصلوا إلى حالة من القسوة
القلبيّة، بحيث قال الله تعالى عنهم:
﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ
فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا
يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ
الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾8. فكانوا يقتلون الأنبياء كما يقتل النّاس الحشرات.
حتّى أنّهم، وبحسب بعض الرّوايات المنقولة عن أهل بيت العصمة، قتلوا في ليلة واحدة
ستّين نبيًّا لهم، ثمّ خرجوا في اليوم التّالي إلى أعمالهم وكأنّ شيئًا لم يكن!
وهذه الظّاهرة الاجتماعيّة ليست منحصرة في التّاريخ، فإنّ أيّ أمّة تقتل أولياءها
الإلهيّين ستُصاب حتمًا بهذه الحالة حتى يصبح عندها الإجرام وسفك الدّماء وشقّ
الصّدور وأكل القلوب أمرًا تتفاخر به، وذلك لأنّ وجود أولياء الله يمثّل أعظم
الآيات التي تكون مليئة بالمعاني. فمن لم يتفاعل قلبه مع وجود الوليّ، لن يتفاعل مع
أيّة آية أخرى، وإنّ
من جالس وليّاً ربانيّاً، وكان في قلبه شيء من الرقّة، يعلم كيف أنّ مجرّد النّظر
إلى عباد الله الصالحين كفيل بإحداث تحوّلٍ نوعيّ في حياة الإنسان.
2- تحريف كتاب الله
ولا شكّ بأنّ نصوص الكتب الإلهيّة، كالتوراة والإنجيل والقرآن، تمثّل خزانة الآيات
اللامتناهية، وتعبّر عن حضور الله الأعظم، فكلام الله تعالى هو التجلي الأتم الأعظم
لكمالاته. فمن الذي سيجترئ على العبث بها وتحريفها، سوى أصحاب القلوب القاسية! يقول
الله تعالى:
﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ
قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا
ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ
قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ﴾9.
3- الدّخول في العذاب
إنّ الويل الذي يشير إلى عذاب جهنّم هو من نصيب أصحاب القلوب القاسية التي لا
تتفاعل مع ذكر الله.
والمقصود من ذكر الله هو حضور الله. وليس حضور الله سوى ظهور العظمة المطلقة بكلّ
معاني الجمال والجلال، قال الله تعالى:
﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ
قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾10.
ويذكر الإمام قدس سره بعض المقامات المعنويّة الرّفيعة قائلًا: "وللدّخول في حصن "لا
إله الا الله" مراتب، كما أنّ للأمن من العذاب أيضًا مراتب، فمن دخل بباطنه وظاهره
وقلبه وقالبه في حصن الحقّ وصار في معاذه، فقد أمِن من جميع مراتب العذاب، وأعلى
مراتبها عذاب الاحتجاب عن جمال الحقّ والفراق عن وصال المحبوب جلّ وعلا، فالمولى
أمير المؤمنين عليه السلام يقول في دعاء كميل: "فهبني صبرت على عذابك، فكيف أصبر
على فراقك"؟، ويدنا عن الوصول إليه قاصرة. فمن حصل له هذا المقام فهو عبد الله على
الحقيقة، ويقع تحت قباب الربوبيّة، ويكون الحقّ تعالى متصرّفًا في مملكته، ويخرج من
ولاية
الطّاغوت. وهذا المقام من أعزّ مقامات الأولياء، وأخصّ مدارج الأصفياء، وليس لسائر
النّاس منه حظّ"11.
4- إنكار المقامات
ثمّ يقول قدس سره معلّقاً: "بل لعلّ القلوب القاسية للجاحدين والنّفوس الصّلبة
للمجادلين البعيدة عن هذه المرحلة بمراحل تنكر هذه المقامات، ويحسبون الكلام في
أطرافها باطلًا، بل ينسبون ـ والعياذ بالله ـ هذه الأمور، التي هي قرّة عين
الأولياء والكتاب والسنّة مشحونة بها، إلى اختراعات الصّوفية وأراجيف الحشويّة"12.
ويذكر في محلٍّ آخر كيف أنّ القلوب القاسية يصعب عليها قبول المقامات، فيقول: "واعلم
أنّ السّالك الى الله والمجاهد في سبيل الله لا بدّ له أن لا يقتنع بالحدّ العلميّ
لهذه المعارف ولا يصرف كلّ عمره في الاستدلال الذي هو حجاب، بل الحجاب الأعظم، لأنّ
هذه المرحلة لايمكن طيّها بالرّجل الخشبيّة، بل ولا بطائر سليمان. إنّ هذا الوادي
وادي المقدّسين، وهذه المرحلة مرحلة الأحرار، فما لم يخلع نعلي حبّ الجاه والشّرف
والأهل والولد، وما لم يلقِ عصا الاعتماد والتوجّه إلى الغير من يمينه، لا يمكن أن
يضع قدمه في الوادي المقدّس الذي هو مكان المخلصين ومنزل المقدّسين. وإذا خطا
السّالك في هذا الوادي بحقائق الإخلاص، وألقى الكثرات والدّنيا (وهي خيال في خيال)
وراء ظهره، فإن بقي فيه بقايا من الأنانيّة فيؤيّد من عالم الغيب ويندكّ جبل إنّيته
بالتّجليات الإلهيّة وتحصل له حالة الصّعق والفناء، وقبول هذه المقامات للقلوب
القاسية التي ليس عندها خبر سوى الدّنيا وحظوظها ولا تتعرّف على شيء إلّا بالغرور
الشّيطاني يكون صعبًا جدًّا وينسب إلى نسج الأوهام"13.
وقد ذكر الإمام قدس سره أنّ إنكار المقامات يُعدّ أسوأ أشواك طريق الإنسانيّة، وهو
أكبر موانع السير والسّلوك.
إنّ بعض النّاس ينكرون مثل هذه المقامات دون أن يفكّروا فيها أو يتأمّلوا في
معانيها المليئة بالقداسة والجمال والطّهارة، أمّا من عرف فيها مثل هذه القيم، ثمّ
أنكرها، فهو بحقّ
صاحب القلب القاسي الذي تلين عنده الصّخور الصّمّاء.
ومثلما أنّ للقسوة القلبيّة آثارًا وعواقب، فهي أيضاً أثرٌ لأمور أخرى وعقاب لأفعال
سابقة، وسوف يظهر من كلام الإمام الآتي أهمّ الأسباب التي تؤدّي إلى هذه الحالة
المقيتة. وعلى كلّ واحدٍ منّا أن يتأمّل في الأحاديث الشّريفة التي تتحدّث عن
الآثار الأخرى لقسوة القلب، فإنّ في هذا التفكّر تليينًا لقلوبنا التي باتت أكثر
ميلًا نحو القسوة بفعل ما يرد عليها من أسباب الحجب.
من أين تنشأ القسوة القلبيّة؟
1- احتجاب الفطرة
إنّ العامل الأوّل الذي ذكره الإمام قدس سره وراء قسوة القلوب هو احتجاب الفطرة،
لأنّ الفطرة مسؤولة عن التّوجّه والانجذاب إلى آيات الحقّ والجمال في الوجود،
وبفضلها يتحقّق الانفعال الباطنيّ تلو الانفعال، فيصبح الباطن عندها رقيقًا.
يقول الإمام قدس سره: "وعلى أيّ حال، فإنّ الفطرة الإنسانيّة إذا قبلت الحقّ
استسلمت له تعالى، ولكن إذا غلَّفتها الحجب، وغرقت في التّوجّه للنّفس وفي حبّها،
وخضعت لتأثيرات الطّبيعة، نفرت من الحقّ والحقيقة، وظهرت فيها الجلافة والقسوة،
فاستكبرت وتمرّدت على طاعة الحقّ تعالى"14.
2. كثرة الكلام واللغو
والعامل الثّاني هو كثرة الكلام واللغو، فقد رُوي عن رسول اللهصلى الله عليه وآله
وسلم أنّه قال: "لا تكُثروا الكلام بغير ذكر الله، فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر الله
تقسوُ القلبِ، إنّ أبعد النّاس من الله القلبُ القاسي"15.
ويقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "أمّا فيما يرتبط بخصوص آثار اللغو والكلام القبيح،
فينبغي الالتفات إلى شدّة إضراره على الرّوح، فهو يسلب النّفس الصّلاح والصّفاء
والسّلامة والوقار والطّمأنينة والسّكينة، ويلوّثها بالجلافة والكدر والقسوة
والغفلة والإدبار عن ذكر
الله"16. ويبدو أنّ السّبب يعود إلى أنّ كثرة الكلام بلا طائل تحجب الإنسان عن
الانصات والاستماع إلى آيات الله المبثوثة في الآفاق وفي الكتب التّدوينيّة. وفي
المقابل، فإنّ من أراد أن تتنزّل عليه الرّحمة الإلهيّة، فليستمع بإصغاء إلى تلاوة
الآيات،
﴿وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ﴾17.
3- الأمراض القلبيّة
ولا يخفى أنّ أمراض القلب المختلفة، كالعجب والرّياء، تؤدّي إلى قسوة القلب، لأنّها
تسلب منه نعمة الإيمان، هذه النّعمة التي بفضلها يحصل التوجّه والإقبال على آيات
الله في العالم.
يقول الإمام قدس سره: "وأمّا اللباس الظاهر فنعمة من الله، يستر عورات بني آدم، وهي
كرامة أكرم الله بها عباده ذريّة آدم لم يكرم غيرهم، وهي للمؤمنين آلة لأداء ما
افترض الله عليهم، وخير لباسك ما لا يشغلك عن الله عزّ وجلّ، بل يقرّبك من شكره
وذكره وطاعته، ولا يحملك فيها على العجب والرّياء والتزيّن والمفاخرة والخيلاء،
فإنّها من آفات الدّين، ومورثة القسوة في القلب"18.
كيف نواجه القسوة القلبيّة
ربّما لا يخلو أحد منّا من درجة ما من درجات القسوة القلبية! يشهد على هذا غفلتنا
الحاصلة حينًا بعد آخر. وعندما تلين قلوبنا، فإنّ هذا يُعدّ فرصة مهمّة للإشراف على
النّفس، واتّخاذ بعض الإجراءات المناسبة لمنع تكرّر القسوة وصيرورتها حالة دائمة.
1- التفكّر في آثار القسوة
ولنستمع إلى الإمام الخمينيّ قدس سره وهو يعظنا في هذا المجال قائلًا: "مسكينٌ هو
الإنسان الغافل! إنّه يولي الأمور الدنيويّة الفانية كلّ هذا الاهتمام، ويجهد نفسه
في اكتسابها وجمعها، متحمّلاً في ذلك كلّ ذلّة ومشقّة ومحنة، ونصب وتعب، ولا يتورّع
عن كلّ عارٍ وخزي
من أجلها، وهو يرى كلّ يوم أنّ أهلها يتركونها ويرحلون، ولا يأخذون معهم سوى
الحسرات، لكنّه رغم ذلك يتهاون إلى هذه الدرجة في اكتساب الإيمان الذي يتكفّل
بتحقيق السّعادة الأبديّة له، فيبقى على تهاونه وتساهله في هذا الأمر، رغم كلّ
مواعظ الأنبياء والأولياء والكتب السماويّة، فلا يفكّر في يوم مصابه وذلّته وعذابه،
ولا تؤثّر في قلبه القاسي كلّ مواعظ القرآن ووعده ووعيده التي تليّن الصّخرة
الصّماء، وتخشع لها جبال العالم، أجل، يقول تعالى:
﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا
الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ
اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ﴾19. فيا أيّها الإنسان ذو القلب القاسي، فكّر في حالك، وانظر ما هو
المرض الذي أصاب قلبك فجعله أشدّ قسوة من الصّخرة الصّمّاء؟ فكّر في علّة إعراض
قلبك عن كتاب الله المنزّل لإنقاذك من أشكال العذاب والظّلمات"20.
2- القرآن
وإنّ من أعظم الأعمال التي تساهم في رقّة القلب وتحول دون اشتداد قسوته ما نقله
الإمام الخمينيّ قدس سره عن الإمام الصّادق عليه السلام: "عن عبد الله بن سليمان،
قالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام عَنْ قَوْلِ الله تَعالى:
﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾21، قال: قال أميرُ المُؤْمِنِينَ عليه السلام: تَبَيَّنْهُ
تِبْياناً... لَا تَهُذَّهُ هَذَّ الشِّعْرِ، وَلَا تَنْثُرْهُ نَثْرَ الرَّمْلِ،
ولَكِنْ أَفْزِعُوا قُلُوبَكُ الْقَاسِيَةَ، وَلاَ يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ
السُّورَةِ"22...، أي لا يكن هدفكم ختم القرآن في أيّام معدودة أو الإسراع في قراءة
السّورة والبلوغ إلى آخرها. فالإنسان الذي يريد أن يتلو كلام الله، ويداوي قلبه
القاسي، ويشفي أمراضه القلبيّة من خلال قراءته للكلام الجامع الإلهيّ، ولكي يطوي مع
نور هداية المصباح الغيبيّ المنير، وهذا النّور على النّور السّماويّ، طريق الوصول
إلى المقامات الأخرويّة والمدارج الكماليّة، لا بدّ له من توفير الأسباب الظاهريّة
والباطنيّة والآداب الصوريّة والمعنويّة"23.
ويقول قدس سره: "فليس هذا الكتاب كتاب قصّة وتاريخ، بل هو كتاب السّير والسّلوك إلى
الله، وكتاب التّوحيد والمعارف والمواعظ والحكم. والمطلوب في هذه الأمور هو
التّكرار كي يؤثّر في القلوب القاسية وتأخذ منها موعظته"24.
3- التّوجّه إلى مظاهر الرّحمة الإلهيّة
ولا شكّ بأنّ التّمسّك برحمة الله والتّوجّه إلى مظاهرها في الحياة هو الذي يضمن
حياة قلبيّة معنويّة وانفعالًا دائمًا تجاه جميع شؤون الرّحمة التي تملأ وجود
الإنسان بكلّ معاني الحياة الأبديّة.
ولهذا، يقول الإمام قدس سره: "واسم الرّحمة ، الذي تتفرّع منه الرأفة والعطف
ونظائرهما من أسماء الصّفات والأفعال ، هو أكثر اسم عرّف الحقّ تعالى نفسه به،
وكرّره في كلّ سورة من سور القرآن، لكي تتعلّق قلوب عباده برحمته الواسعة، فهذا
التعلّق هو منشأ تربية النّفوس وتليين القلوب القاسية، فلا يمكن جذب قلوب النّاس
وصدّهم عن الطّغيان والتمرّد، بأيّ شيء بمثل ما تجذبهم الرّحمة والرأفة والمودّة،
ولهذا فإنّ الأنبياء العظام هم مظاهر رحمة الحقّ جلّ وعلا، ولذلك نلاحظ في آخر سورة
التوبة ـ وهي سورة الغضب ـ أنّ الله تعالى وصف رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله
وسلم بهذه الصّورة:
﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ
مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾25. ويكفي في
بيان شدّة رأفته ورحمتهصلى الله عليه وآله وسلم بجميع بني الإنسان قوله تعالى في
أوّل سورة الشعراء:
﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾26، وقوله في أوائل سورة الكهف:
﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن
لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾27"28.
4- الإخلاص
إنّ الإخلاص لله تعالى، الذي هو عبارة عن توحيد وجهة القلب إليه مع ما يعنيه من
توجّه إلى الكمال المطلق والعظمة اللامتناهية، لن يُبْقي في القلب من القسوة شيئًا.
يقول الإمام قدس سره: "حتى لو كنّا قد عملنا عملًا صالحًا، فإنّه لم يكن خالصًا، بل
مشوبًا بالغشّ، ومع آلاف من موانع القبول. وإذا كنّا قد نلنا بعض العلم، فقد كان
علمًا بلا نتيجة، وهذا العلم إمّا أنْ يكون لغوًا وباطلًا، وإمّا أنّه من الموانع
الكبيرة في طريق الآخرة. ولو كان ذلك العلم والعمل صالحين، لكان لهما تأثيرٌ حتميّ
وواضح فينا، نحن الذين صرفنا عليهما سنوات طوالًا، ولغيّرا من أخلاقنا وحالاتنا.
فما الذي حصل حتّى كان لعملنا وعلمنا مدّة أربعين أو خمسين سنة تأثيرٌ معكوسٌ، بحيث
أصبحت قلوبنا أصلب من الصّخر القاسي؟!"29.
في التّعامل مع قساة القلوب
1- اعتماد الرقّة والمحبّة في إرشادهم
أمّا التّعامل مع الذين ابتلوا بقسوة قلبيّة وبقي فيهم شيء من الرّقّة، فإنّه يقوم
على أن نزيل من قلوبنا تلك القسوة أوّلًا، يقول الإمام قدس سره: "إذا كانت دواعي
الإنسان لإرشاد الجاهلين وإيقاظ الغافلين حسّ الرحمة والشّفقة وحقّ الإنسانية
والأخوّة، فتكون كيفيّة البيان والإرشاد المترشّحة من القلب الرحيم على نحوٍ يؤثّر
حتمًا في المواد اللائقة تأثيرًا حسنًا وتتنازل القلوب الصّلبة القاسية عن
استكبارها واستنكارها... فإذا أردت أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وترشد خلق
الله، فتذكّر من هذه الآيات الشّريفة التي أُنْزِلت للتذكّر والتّعليم وتعلّم منها،
والقَ عباد الله بقلبٍ مليءٍ بالمحبّة وفؤادٍ عطوفٍ واطلب الخير لهم من صميم القلب،
فإذا وجدت قلبك رحمانيًّا، ورحيميًّا فقم بالأمر والنهي والإرشاد كي يرقّق برقُ عطف
قلبك القلوبَ القاسية، وتلين حديد القلوب بالموعظة الممتزجة بنار محبّتك"30.
ويقول قدس سره في موضع آخر، يشرح فيه أهمية الرفق في التّعامل مع أصحاب القلوب
القاسية: "عندما أمر الله تبارك وتعالى موسى وهارون عليهما السلام بالذّهاب إلى
فرعون ودعوته إلى الحقّ وإرشاده إليه، أوصاهما ـ فيما أوصاهما به ـ أن:
﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾31. فرغم أنّ فرعون بلغ في طغيان أنانيّته مرتبة ادّعاء
الألوهيّة، إلّا أنّ الرّفق والمداراة مع ذلك، أنجعُ في جذب قلبه القاسي، وهذه
وصيّة عامّة للهداة إلى طريق الحقّ، تأمرهم بأن يسلكوا سبيل فتح القلوب، ولذلك مدح
الله تعالى نبيّهُ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ
عَظِيمٍ﴾32 "33... لذا يجب على الآمر بالمعروف والنّاهي عن المنكر أن يجبر مرارة
تقبّل الأمر والنّهي غير المستساغة بحلاوة طيب الكلام والرّفق والمداراة، لكي يؤثّر
كلامه في القلوب القاسية العاصية، فتلين له وتخضع لأمره ونهيه"34.
2- التّواضع
"أمّا قوله عليه السلام: "بالتواضع تعمرُ الحكمة"، فالمقصود فيه هو: إمّا أنّ بذور
الحكمة لا تنمو في القلب الفاقد للتّواضع، مثلما أنّ النّبتة لا تنمو في الأرض
الصّلدة، وإمّا أن يكون المقصود هو أنّ العلماء لا يستطيعون بذر بذور الحكمة
وتنميتها في قلوب النّاس ما لم يكن العلماء أنفسهم متواضعين، فينبغي تليين القلوب
القاسية بالتّواضع، ثمّ بذر بذور الحكمة فيها، وتوقّع الثّمار منها، وكلا هذين
الاحتمالين صحيحان، فالأوّل يرتبط بإصلاح النّفس، والآخر بإصلاح الآخرين.
إذاً، فعلى الذين تصدّوا لإرشاد الخلق وعرّضوا أنفسهم كهداةٍ لطريق السّعادة، أن
يدعوا النّاس لذلك بالاتّصاف بهذا الخلق الكريم، ويضعوا نصب أعينهم سيرة الأنبياء
والأولياء عليهم السلام، وكيف كانوا، إلى جانب سموّ مقاماتهم، يتعاملون بالتّواضع
مع خلق
الله فعليهم أن يقتدوا بهم، ويزيلوا القسوة من قلوب النّاس، ويستقطبونها بأخلاقهم
الكريمة"35.
3- موعظة
"اللهمّ، أدخل كلمة التّوحيد إلى قلوبنا القاسية الكدرة، نحن أهل الحجاب والظلمة،
وأهل الشّرك والنّفاق، نحن الأنانيّون، عبّاد النّفس، المعجبون بها، أخرج من قلوبنا
حبّ النّفس وحبّ الدّنيا، واجعلنا عشّاقًا لله وعبّادًا لك
﴿إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾36"37.
* دراسات أخلاقية - الأخلاق المذمومة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ سورة الشعراء، الآيتان 88 - 89، وعن أمير المؤمنينعليه السلام: "فَالصُّورَةُ
صُورَةُ إِنْسَانٍ وَالْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَان" نهج البلاغة، ص119.
2- سورة البقرة، الآية 148.
3- "إِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ الله الْقَلْبُ الْقَاسِي"، وسائل الشيعة، ج12، ص
194.
4- سورة الزمر، الآية 22.
5- سورة الزمر، الآية 23.
6- جنود العقل والجهل، ص 220 - 221.
7- جنود العقل والجهل، ص222.
8- سورة البقرة، الآية 74.
9- سورة المائدة، الآية 13.
10- سورة الزمّر، الآية 22.
11- معراج السالكين، ص 232.
12- (م.ن).
13- (م.ن)، ص 259-260.
14- جنود العقل والجهل، ص356.
15- بحار الأنوار، ج2، ص144.
16- جنود العقل والجهل، ص 350.
17- سورة الأعراف، الآية 204.
18- معراج السالكين، ص108.
19- سورة الحشر، الآية 21.
20- جنود العقل والجهل، ص 111 - 112.
21- سورة المزمل، الآية 4.
22- الكافي، ج2، ص 614.
23- الأربعون حديثًا، ص 538.
24- معراج السالكين، ص197.
25- سورة التوبة، الآية 128.
26- سورة الشعراء، الآية 3.
27- سورة الكهف، الآية 6.
28- جنود العقل والجهل، ص 218.
29- الأربعون حديثًا، ص 203.
30- معراج السالكين، ص 246 - 248.
31- سورة طه، الآيتان 43 و 44.
32- سورة القلم، الآية 4.
33- جنود العقل والجهل، ص 287 - 288.
34- (م.ن), ص 289.
35- جنود العقل والجهل، ص 315 - 316.
36- سورة آل عمران، الآية 26.
37- الأربعون حديثًا، ص 93 - 94.