يتم التحميل...

الأمانة

الأخلاق المحمودة

تُعدّ الأمانة من بديهيّات الإدراكات الأخلاقيّة عند البشريّة وهي ضدّ الخيانة كما ورد في حديث جنود العقل والجهل المروي عن الإمام الصادق عليه السلام،

عدد الزوار: 376

تمهيد
تُعدّ الأمانة من بديهيّات الإدراكات الأخلاقيّة عند البشريّة وهي ضدّ الخيانة كما ورد في حديث جنود العقل والجهل المروي عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث الإمام الأمانة من جنود العقل بقوله عليه السلام: "...والأمانة وضدها الخيانة.."1، ولهذا يُجمع النّاس على قبح الخيانة ويطردون من اتّصف بها لما فيها من فساد لنظام معاشهم.

وعليه، فلا يحتاج الإنسان إلى تعاليم الأنبياء وإرشاداتهم ليكون أمينًا. فهي حجّة الله تعالى على الإنسانيّة ووسيلته لأخذ الميثاق. أمّا وجه الحاجة في الأمانة إلى هداية السّماء فهي من ناحية التعرّف على الأمانات التي جهلها النّاس أو غفلوا عنها فضاعت وسط أعرافهم وعاداتهم.

لهذا نجد الإمام يسلّط الضّوء على مجموعة من الأمانات الإلهيّة ويشرح كيفيّة اعتبارها كذلك، حتّى إذا أدرك أحدنا معنى الأمانة فيها شعر بالمسؤوليّة الكبرى تجاهها.

فالأمين ـ بالمعنى التامّ ـ هو الذي يحافظ على هذه الأمانات، ويردّها إلى أهلها. ولهذا، وُصف العارف بهذه السجيّة العظيمة على نحو الحصر، كما جاء في كلام الإمام الصّادق عليه السلام: "العارف شخصه مع الخلق وقلبه مع الله لو سها قلبه عن الله طرفة عين لمات شوقًا إليه، والعارف أمين ودائع الله وكنز أسراره ومعدن نوره ودليل رحمته على خلقه ومطيّة علومه وميزان فضله وعدله، قد غني عن الخلق والمراد والدّنيا ولا مؤنس له سوى الله ولا نطق ولا إشارة ولا نفس إلا بالله لله من الله مع الله"2.

أنواع الأمانات
إنّ وضوح معنى الأمانة يغنينا عن البحث عن تعريفها العمليّ، كما أنّ حسنها الوجدانيّ لا يضطرّنا إلى المجيء بالكثير من الشّواهد لتأكيد فضيلتها. فما يهمّنا في هذا البحث هو التعرّف على الأمانات المجهولة لنتعرّف على الأمين الحقيقيّ عند الله تعالى.

1- المادية وغير المادية
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "من المعلوم أنّ خيانة المؤمنين تعمّ الخيانة المالية والخيانات الأخرى التي هي أكبر من الخيانة الماليّة. فيجب على الإنسان في هذه الدّنيا أن يراقب النّفس الأمّارة كثيرًا، إذ ربّما تقوم بعمليّة التّعتيم للحقائق على الإنسان وتذليل الصّعوبات وتسهيلها، مع أنّها توجب الشّقاء الدّائم والخذلان الأبديّ. هذه هي حالة الخيانة لعباد الله، ويتبيّن من هنا أيضًا وضع الخائن لأمانة الحقّ المتعالي"3.

2- الولاية والصّلاة
ففي الحديث المرويّ عن الإمام عليّ عليه السلام: "كان إذا حضر وقت الصّلاة يتململ ويتزلزل ويتلوّن، فيُقال له: ما لك يا أمير المؤمنين؟ فيقول عليه السلام: جاء وقت الصّلاة وقت أمانة عرضها الله على السّموات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها"4... ويفسّر الإمام الخمينيّ قدس سره هذا الكلام النّورانيّ قائلًا: "ولعلّ الذّكر في الآية الشّريفة ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ بصيغة الجمع لما ذكرنا من النكتة في ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ لأنّ الأمانة بحسب الباطن هي حقيقة الولاية وبحسب الظّاهر هي الشّريعة أو دين الإسلام أو القرآن أو الصلاة"5.

3- التكاليف الإلهية
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "توجد في المقام نكتة لا بد من الإشارة إليها، وهي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أوصى بالورع فرّع عليه قائلًا: "وَلا تَجْتَرِىء عَلَى خِيانَةٍ أبَدَاً"6 مع أنّ الورع يكون عن كلّ المحرمات، أو يكون أعمّ من الخيانة، وعليه لا بدّ من تَفسير الخيانة بمعنًى أعمّ من المفهوم العرفيّ لها، حتى تتطابق مع الورع، بأن نقول إنّ مطلق المعصية أو اقتراف مطلق ما يمنع من السّير إلى الله، خيانة، لأنّ التكاليف الإلهيّة أمانات للحقّ سبحانه كما ورد في الآية الكريمة ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ7 الخ. حيث فسّر بعض المفسّرين الأمانة بالتّكاليف الإلهيّة.

4- الأعضاء الظاهرية والباطنية
بل إنّ جميع الأعضاء، والجوارح والقوى، أمانات للحقّ المتعالي، واستعمالها على خلاف رضا الحقّ سبحانه، خيانة، كما أنّ توجيه القلب إلى غير الحق يُعدّ من الخيانة. (بيت شعر: هذه الروح التي أعارها لي الصديق الحميم سأرجعها إليه في اليوم الذي أرى وجهه). أو أنّ المقصود من الخيانة نفس المعنى المتعارف، ويكون وجه التّخصيص بذكرها لأجل شدّة الاهتمام بالخيانة، فكأنّ الورع كلّ الورع هو في الابتعاد عن خيانة الأمانة"8.

وفي هذا الكلام تأكيدٌ واضحٌ على أهميّة صيانة القوى الظاهرية والباطنية للإنسان من الإنحراف عن جادة الصراط المستقيم. ويقول الإمام قدس سره: "ولا بدّ من معرفة أنّ الحقّ تبارك وتعالى، قد وهبنا كافّة القوى والأعضاء الظاهريّة والباطنيّة، وبسط لنا بساط الرّحمة والنّعمة في مملكتنا الظاهريّة والباطنيّة، ووضعها كلّها تحت قدرتنا لتسخيرها، وأئتمننا عليها بلطفه ورحمته، وهي ـ هذه العطايا ـ طاهرة ونظيفة من كلّ القذارات الصّوريّة والمعنويّة وكذلك ما أنزل علينا من عالم الغيب كان بعيدًا عن الشّوائب والعناصر الغريبة، فإذا أرجعنا هذه الأمانات لدى لقائنا بالذّات المقدّس، من دون أن تصير ممزوجة مع عالم المادّة، وقذارات المُلك والدّنيا، كُنَّا أُمناء على الأمانة التي أودعت عندنا، وإن لم نحافظ على طهارة هذه الأمانات، غدونا من الخائنين والخارجين عن الإسلام الحقيقيّ، وملّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"9.

5- ولاية أهل البيت ومودتهم
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "في الحديث المشهور: "إنّ قَلْبَ المُؤمن عَرْشُ الرحْمن"10، وفي الحديث القدسيّ المعروف "لا يَسعُنِي أَرْضِي وَلا سَمَائِي وَلكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْديَ المُؤْمِنِ"11. فإنّ قلب المؤمن عرش الحقّ المتعالي، وسرير سلطنته وسكنى ذاته المقدّس، وإنّه سبحانه صاحب هذا البيت، فالالتفات إلى غير الحقّ خيانة للحقّ، والحبّ لغير ذاته الأقدس ولغير أوليائه الذين يعتبر حبّهم حبّه سبحانه، خيانة لدى العرفاء. وإنّ ولاية أهل بيت العصمة والطّهارة، ومودّتهم، ومعرفة مرتبتهم المقدّسة، أمانة من الحقّ سبحانه. كما ورد في الأحاديث الشّريفة في تفسير الأمانة في الآية ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بولاية أمير المؤمنين عليه السلام. كما أنّ غصب خلافته وولايته، خيانة لتلك الأمانة وأنّ رفض المتابعة للإمام علي عليه السلام مرتبة من مراتب الخيانة"12.

آثار الأمانة ونتائجها
ذُكر الكثير من النّتائج والآثار العظيمة للأمانة على صعيد الدّنيا والآخرة، ونكتفي ها هنا بذكر ثلاثة منها كما جاء في كلمات الإمام الخمينيّ قدس سره.

1- حفظ نظام المجتمع
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ومن يرجع إلى أخبار المعصومين عليهم السلام المأثورة في ردّ الأمانة والابتعاد عن الخيانة، لأدرك حجم اهتمام الشّارع المقدّس بهذا الموضوع. ويُضاف إلى ذلك هو أنّ قبحها الذّاتيّ لا يخفى على أحد. وأنّه يجب إخراج الإنسان الخائن من المجتمع البشريّ، وإلحاقه بأرذل الشّياطين. ومن المعلوم أنّ الإنسان الذي يشتهر بين النّاس بالخيانة، تضيق عليه الحياة وتصعب، حتى في هذا العالم أيضًا. إنّ البشر بصورة عامّة يعيشون مع بعضهم البعض في ظلّ التّعاون والتّعاضد حياةً سعيدة، ولا يمكن لأحد، الحياة بصورة منفردة، إلاّ إذا غادر المجتمع البشريّ والتحق بالحيوانات الوحشيّة. ثمّ إنّ العجلة الكبيرة التي تدور لتحريك الحياة الاجتماعيّة، هي اعتماد الناس بعضهم على بعض، فإذا زال الاعتماد وتلاشت الثقة، لما تمكّن الإنسان أن يعيش هنيئًا رغيدًا. إنّ الرّكيزة الأساسيّة للاعتماد المتبادل بين الناس قائمة على الأمانة وترك الخيانة، فلا يحظى الخائن، بالاطمئنان لدى النّاس ويُعدّ مارقًا على المدينة وخارجاً عن العضويّة للمجتمع البشريّ وتكون عضويّته مرفوضة لدى أصحاب المدينة الفاضلة. ومن الواضح أنّ مثل هذا الإنسان يعيش حياة ضنك وفي صعوبة بالغة"13.

2- بلوغ أعلى مراتب الكمال
يقول الإمام الخمينيقدس سره: "ففي الحديث عن أبي كهمس قال: "قُلْتُ لأبِي عَبْدُاللهِ عليه السلام: عبَدْاللهُ بْنُ أبِي يَعْفورٍ يُقْرئُكَ السَّلاَمَ. قالَ: عَلَيْكَ وَعَلَيْهِ السَّلامُ، إذا أَتَيْتَ عَبْدَاللهِ فَأَقْرِئُهُ السَّلامَ وَقُلْ لَهُ: إِنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ لَكَ، انْظُرْ مَا بَلَغَ بِهِ عَلِيٌّ عِنْدَ رَسولِ اللِه صلى الله عليه وآله وسلمفَالْزَمْهُ، فَإِنَّ عَلِياً عليه السلام إِنَّما بَلَغَ ما بلغ بِهِ عِنْدَ رَسولِ اللهِ بِصِدْق الحَديثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ"14. فيا عزيزي: تدبّر في هذا الحديث الشّريف، وانظر إلى أنّ مقام صدق الحديث وأداء الأمانة دفعا بعليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى بلوغ ذلك المقام الرفيع. ويُفهم من هذا الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحبّ هاتين الخصلتين أكثر من غيرهما، لأنّ هاتين الصّفتين من الصّفات الكماليّة لمولانا عليّ بن أبي طالب عليه السلام قد بلغتا به ذلك المقام الرّفيع، وإنّ الإمام الصادق عليه السلام قد أبدى اهتمامًا بهاتين الصّفتين أكثر من كلّ الأفعال والأوصاف، وذكّر عليه السلام ابن أبي يعفور الذي هو من المخلصين والمقرّبين له عليه السلام بهما خاصة"15.

3- الشّفاعة يوم الحشر
فإنّ أهمّ معاني الشّفاعة المصاحبة والملازمة. وإذا كان الشّفيع قويًّا ووجيهًا، فإنّ صحبته تكون أنفع ما يكون في المهمّات والشّدائد. وكفى بيوم القيامة صعوبةً وشدّةً، وكفى بالصّراط خطورةً وهولًا. وهنا نجد الأمانة في أفضل نجداتها.

ففي الحديث الذي يرويه الإمام الخمينيّ قدس سره عن الإمام الباقر عليه السلام: "قالَ أبو ذَرٍّ رَضي اللهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: حافَّتا الصِّراط يَوْمَ القِيَامَةِ الرَّحِمُ والأمانَةُ، فَإِذَا مَرَّ الوَصولُ لِلرَّحِمِ المُؤَدِّي لِلأَمَانَةِ نَفَذَ إلَى الجَنَّةِ، وَإِذَا مَرَّ الخَائِنُ لِلأَمَانَةِ القَطُوعُ لِلرَّحِمِ لَمْ يَنْفَعْهُ مَعَهُمَا عَمَلٌ وَتَكْفَأُ بِهِ الصِّراطُ فِي النّار"16. فعُلم بأنّ صورتي الرّحم والأمانة في ذلك العالم تقفان على طرفي الطّريق، وتعينان من يصل رحمه ويؤدّي أمانته، ومع تركهما لا يفيدنا أيّ عملٍ آخر وإنّما بتركها يهوي الإنسان في النار"17.

موانع الأمانة
احتوت كلمات الإمام الخمينيّ قدس سره على مجموعة من الملاحظات المهمّة في باب الأمانة وأسباب الخيانة. ونحن نذكر ثلاثة أسباب أساسيّة تؤدّي إلى الخيانة وتحول دون رسوخ ملكة الأمانة في النّفس منها:
1- حبّ الدّنيا
فعن الإمام الخمينيّ قدس سره، قال: "المحتجبون بحجاب الطبيعة، لا همَّ لهم سوى الآمال النفسانية والمطلوبات الطبيعية، لذلك فهم يتكالبون على جيفة الطبيعة، ويستهلكون قوّتهم الغضبيّة في هذا السّبيل، فيسقطون في مستنقع الدّنيا والطّبيعة وشباكها بالوسائل نفسها التي وهبها الله لهم للتخلّص من هذه الشّباك، فيخونون النّعم والأمانات الإلهيّة ويسلّطون عليها الأيدي الملوّثة للنّفس الأمّارة بالسّوء"18.

2- الغضب
يقول الإمامقدس سره: "فليفكّر في أنّ هذه الغريزة (الغضب) التي وهبها الله تعالى إيّاه لحفظ نظام الظّاهر والباطن وعالم الغيب والشّهادة، إذا استخدمها لغير تلك الأهداف وبخلاف ما يريد الله سبحانه وضدّ المقاصد الإِلهيّة، فما مدى خيانته؟ وما هي العقوبات التي يستحقّها؟ وكم هو ظلومٌ جهول؟ لأنّه لم يَصُنْ أمانة الحقّ تعالى، بل استعملها في العداوات والمخاصمات. إنّ امرءًا هذا شأنه لا يمكن أن يأمن الغضب الإلهيّ"19.

3- العصبيّة
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ومن ناحية أخرى في قباحة هذه السجيّة (العصبية) لدى أهل العلم هو جانب العلم نفسه، إذ إنّ هذه العصبيّة خيانة للعلم وتجاهل لحقّه، فمن يتحمّل عبء هذه الأمانة ويلبس لبوسها، عليه أن يرعى حرمتها واحترامها، وأن يعيدها إلى صاحبها صحيحة سليمة. فإذا ما تعصّب، تعصّب الجاهلية يكون قد خان الأمانة وارتكب الظّلم والعدوان، وهذه بذاتها خطيئة كبرى"20.

كيفيّة حفظ الأمانة
وبالحديث عن كيفيّة حفظ الأمانة وردّها يتمّ البحث حول الأمانة وفق الرّؤية الأخلاقيّة الإلهيّة. ونستعين بكلمات إمامنا الخمينيّ قدس سره في بيان المسؤوليّة المعنويّة والعمليّة تجاه تلك الأمانات العظيمة.

1- التمسّك بوليّ الله
ففي مورد قوى النّفس الظّاهرة والباطنيّة، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وليُعلم أنّ جميع القوى الظاهريّة والباطنيّة التي أعطانا الله إيّاها وأنزلها من عالم الغيب، هي أمانات إلهية كانت طاهرة من جميع القذارات، وكانت طاهرة مطهّرة، بل كانت متنوّرة بنور الفطرة الإلهيّة وبعيدة عن ظلمة تصرّف إبليس وكدورته. فلمّا نزلت إلى ظلمات عالم الطّبيعة وامتدّت يد تصرّف شيطان الواهمة ويد الخيانة الإبليسيّة إليها، خرجت عن الطّهارة الأصليّة والفطرة الأوّليّة، وتلوّثت بأنواع القذارات والأرجاس الشّيطانيّة. فالسّالك إلى الله إذا أبعد يد الشّيطان بالتّمسّك بذيل عناية ولّي الله، وطهّر المملكة الظاهريّة وردّ الأمانات الإلهيّة كما أخذها فهو ما خان الأمانة حينئذٍ. وإن صدرت منه خيانة فهو مورد للغفران والستّاريّة، فيستريح خاطره من ناحية الظّاهر"21.

2- الصّلاة
أمّا في مورد الصّلاة فهو قدس سره أفضل من تحدّث عن كيفيّة أدائها. وممّا قاله في هذا المجال: "اعلم أنّ الصّلاة هي مقام العروج إلى مقام القرب والحضور في محضر الأنس، ويلزم للسّالك مراعاة آداب الحضور في محضر ملك الملوك المقدّس. وحيث أنّ أدنى المراتب والمراحل لظهور النّفس التي هي قشر القشر والبدن الصّوريّ الملكيّ، إلى أعلى مقاماتها وحقائقها التي هي لبّ اللباب ومقام سرّ القلب، حاضرة في المحضر المقدّس للحقّ، فعلى السّالك أيضًا أن يستحضر ويعرض جميع الجنود الباطنة والظّاهرة لممالك السرّ والعلن على محضر الحقّ جلّ وعلا، ويقدم إلى محضره المقدّس جميع الأمانات التي وهبها الله سبحانه بيد قدرة الجمال والجلال، وقد كانت في كمال الطّهارة والصّفاء ومن دون تصرف أحد من الموجودات، ويردّها إليه كما أعطاه سبحانه إياها"22.

3- الإيمان
وحول الإيمان يقول الإمام قدس سره: "...نعوذ بالله من زوال هذا الإيمان الذي ليس له لُبُّ وجوهر ولا هيمنة له في مُلك الجسم، ومن انتقال الإنسان من هذه الدّنيا على النّفاق، وحشره مع المنافقين. وهذا من الأمور الهامّة التي لا بدّ أن تذعن لها نفوسنا الضّعيفة، ونهتم بها ونكون حريصين على تعميق الإيمان في الظّاهر والباطن والسّر والعلن، وكما ندّعي الإيمان في قلوبنا نجهد أنفسنا على هيمنة الإيمان على الظّاهر أيضًا، حتى يتجذّر الإيمان في القلب ولا يزول أمام عائق ومانع أو أيّ تغيير وتبديل، إلى أن يتمّ تسليم هذه الأمانة الإلهيّة، والقلب الطّاهر الملكوتيّ الذي تخمّر بالفطرة الإلهيّة إلى الذّات المقدّس من دون أن تمتد إليه يد الشّيطان والخيانة والحمد لله أولاً وآخراً"23.

موعظة
وننهي الحديث عن الأمانة ـ وهو لا ينتهي ـ بموعظة للإمام الخمينيّ قدس سره: "أيها العزيز! استيقظ وابعد عنك الغفلة والسّكرة وزن أعمالك بميزان العقل قبل أن توزن في ذلك العالم، وحاسب نفسك قبل أن تُحاسب، واجلُ مرآة القلب من الشّرك والنّفاق والتلوّن، ولا تدع صدأ الشّرك والكفر يحيط به بمستوىً لا يمكن جلاؤه حتى بنيران ذلك العالم، لا تدع نور الفطرة يتبدّل بظلمة الكفر، لا تدع هذه الآية ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا24.. أن تضيع، لا تخنْ هذه الأمانة الإلهيّة بهذا النحو، نظّف مرآة قلبك لكي يتجلّى فيها نور جمال الحقّ فيغنيك عن العالم وكلّ ما فيه، ولكي تتوهّج نار الحبّ ـ العشق ـ الإلهيّ في قلبك، فتحرق الأنواع الأخرى من الحبّ، ولا تستبدل حينذاك جميع هذا العالم بلحظة واحدة من الحبّ الإلهيّ، ولكن تحصل على لذّة في مناجاة الله وذكره، تعتبر غيرها من جميع اللذات الحيوانيّة، لعبًا ولهوًا"25.

وبإسناده عن الصّادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في حديثِ المَناهي، أَنَّهُ نَهَى عَنِ الخِيَانَةِ وَقالَ: "مَنْ خَانَ أَمَانَةً فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَرُدَّهَا إِلَى أَهْلِهَا ثُمَّ أَدْرَكَهُ المَوْتُ مَاتَ عَلَى غَيْرِ مِلَّتِي وَيَلْقَى اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ وَمِنَ اشْتَرَى خِيَانَةً وَهُوَ يَعْلَمُ فَهُوَ كَالَّذِي خَانَهَا"26... ويعرف الجميع مضاعفات سخط الذّات المقدّس الحقّ وغضبه على البعد. كما أنّه من المعلوم أنّ الشّفعاء، لا يشفعون لمن هو مغضوبٌ عليه لدى الحقّ سبحانه. وخاصّة أنّ الخائن يكون خارجًا أيضًا عن أمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ففي حديث آخر "لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَانَ مُؤمِناً"27، وفي حديثٍ ثالثٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ خَانَ أَمَانَة فِي الدُّنيَا وَلَمْ يَرُدّها عَلَى أَهْلِهَا مَاتَ عَلَى غَيْرِ دِينِ الإسلامِ وَلَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ فَيَهَوى بِهِ فِي شَفِير جَهَنَّم أَبَد الآبِدين أعوذ بالله من هذه الخطيئة"28"29.

* دراسات أخلاقية - الأخلاق المحمودة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- الكافي، ج1، ص22.
2- مصباح الشريعة، ص 191.
3- الأربعون حديثًا، ص 510.
4- عوالي اللآلي، ج1، ص 324.
5- معراج السالكين، ص 320.
6- الكافي، ج8، ص 79.
7- سورة الأحزاب، الآية 72.
8- الأربعون حديثًا، ص 507.
9- (م.ن)، ص 511.
10- بحار الأنوار، ج55، ص 39.
11- عوالي اللآلي، ج4، ص 7.
12- الأربعون حديثًا، ص 511.
13- الأربعون حديثًا، ص 508.
14- الكافي، ج2، ص 104.
15- الأربعون حديثًا، ص 508-509.
16- الكافي، ج2، ص152.
17- الأربعون حديثًا، ص 509.
18- جنود العقل والجهل، ص 377.
19- الأربعون حديثًا، ص 164.
20- الأربعون حديثًا، ص 180.
21- معراج السالكين، ص 67.
22- معراج السالكين، ص 101 - 102.
23- الأربعون حديثًا، ص 564.
24- سورة الرّوم، الآية 30.
25- الأربعون حديثًا، ص 62.
26- من لا يحضره الفقيه، ج4، ص 15.
27- وسائل الشّيعة، ج19، ص 77.
28- (م.ن)، ص 78.
29- الأربعون حديثًا، ص 510.

2017-08-07