يتم التحميل...

الثبات على الأهداف: الرسول الأكرم والذين معه النموذج الأكمل

ثقافة إسلامية

الثبات على الأهداف: الرسول الأكرم والذين معه النموذج الأكمل

عدد الزوار: 93

كلمة الإمام الخامنئي بمناسبة المبعث النبوي 30/07/2008
الثبات على الأهداف: الرسول الأكرم والذين معه النموذج الأكمل


ما ضمن هذه النجاحات هو طبعاً عناصر متظافرة كثيرة، لكن على رأسها هو ذلك العنصر المحكم الراسخ الطافح بالمعنوية والنقاء ومعرفة الخالق والاتكال عليه، أي وجود الرسول نفسه. كان الرسول الأكرم أعلم أهل مكة وأعقلهم. كان قبل أن يبعث نبياً أكرم الناس في تلك المنطقة وأشرفهم وأحسنهم أخلاقاً.

وشمل اللطف الإلهي هذا الإنسان المميّز بين أولئك الناس وألقيت تلك الأعباء على عاتقه، فقد اختبره الله، وكان الله يعرف عبده ويعلم على عاتق من يضع هذا العبء، ووقف الرسول وصمد. هذا الوقوف وهذه الاستقامة مع المعرفة العميقة بالهدف الذي يتحرك نحوه والطريق الذي يسلكه أضحى رصيداً لكل الخطوات التقدمية التي قطعها الرسول ولازدهار هذه الحركة العظيمة. نعم، الحق منتصر ولكن بشروط. شرط انتصار الحق هو الدفاع عن طريق الحق.

في الطور الأول من البعثة، وبعد مضي ثلاث سنوات أو أكثر - حيث كانت الدعوة خفية سرية - استطاع الرسول أن يكسب للإسلام ثلاثين أو أربعين شخصاً. وبعد ذلك جاء الأمر الإلهي: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزئين". أعلن دعوتك وانزل إلى الساحة وارفع الراية واجعل عملك علناً. نزل الرسول إلى الساحة وحدث ما تعرفونه حيث فزع أكابر قريش وصناديدها وأثرياء ذلك المجتمع وأقوياؤه. الشيء الأول الذي فعلوه هو تطميع الرسول الأكرم. جاءوا لسيدنا أبي طالب وقالوا له إذا كان ابن أخيك يريد الزعامة جعلناه زعيماً مطلقاً، وإذا أراد الثروة أعطيناه منها ما يجعله أكثرنا ثراء، وإذا أراد أن يكون ملكاً اخترناه ملكاً علينا، ولكن قل له يقلع عن كلامه هذا. وكان أبوطالب يخاف على حياة الرسول ومؤامراتهم ضده، فجاء إلى الرسول وروى له رسالة أكابر مكة، وربما نصحه وأوصاه بأن يتنازل بعض الشيء؛ لماذا الصمود والإصرار إلى هذه الدرجة؛ هذا غير ضروري. فقال الرسول: يا عم، " والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي لأعرض عن هذا الأمر لا أفعله حتى أظهره الله أو يذهب بما فيه".

وجاء في الرواية أيضاً: " ثم أغرورقت عيناه من الدمع".. فاضت العيون المباركة للرسول بالدمع ونهض من مجلسه. وحين شاهد أبو طالب هذا الإيمان والثبات تغيّرت حاله بشدة وقال: " يا بن أخي اذهب وقل ما أحببت".. سر وراء هدفك وغايتك. " والله لا أسلمنّك بشيء". هذا الصمود يصنع صموداً. وهذه الاستقامة من الرسول كرّست جذور الاستقامة لدى أبي طالب. وهذا الالتزام بالهدف وعدم تهيّب العدو، وعدم الطمع في أيدي الأعداء، وعلى الانشداد للامتيازات التي يريد أن يمنحها الأعداء مقابل إيقاف هذه الحركة تخلق صموداً وسكينة وثقة بالطريق والهدف والإله الذي يختص به هذا الهدف. لذلك استطاع المسلمون وهم يومئذ ليسوا أكثر من ثلاثين أو أربعين شخصاً أن يثبتوا مقابل كل تلك المشكلات والصعاب ويزداد عددهم يوماً بعد يوم. كانوا يشاهدون في مكة ما يصنع المشركون بعمار وبلال وكيف يعاملون سمية وياسر ويعذبونهم ويقتلونهم. كانوا يرون كل هذا ومع ذلك يؤمنون. هكذا هو تقدم الحق. الحق لا يتقدم بمجرد الدعة والأمن والأمان ورفع رايته والمناداة به في الظروف الطيبة. يتقدم الحق حينما يبدي صاحب الحق وتابعه عن نفسه صموداً وثباتاً في طريق تقدم الحق.

تقول الآية القرآنية: " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم". ليس معنى أشداء على الكفار أن يكونوا في حالة حرب دائمة مع الكفار. الشدة هنا بمعنى المتانة والصمود وعدم الانهيار. ثمة معدن يصدأ ويتآكل وينخر ويتلف. وثمة معدن لا يتآكل ولا يصدأ ولا يتهرأ ولا ينخر رغم تقادم القرون عليه. هذا هو معنى أشداء. الشدة معناها القوة والمتانة. القوة قد تكون تارة في ساحة الحرب فتبرز بشكل معين. وقد تكون في ساحة الحوار مع العدو فتبرز بشكل آخر. لاحظوا كيف كان الرسول يتحدث مع عدوه في الحروب حينما كان يجب عليه أن يتحدث. موقف النبي عندها كان زاخراً بالصلابة والثبات وعدم التضعضع على الإطلاق. في حرب الأحزاب دخل النبي في حوار مع الجانب الآخر، ولكن أي حوار؟ اقرأوا التاريخ. إذا كانت ثمة حرب فهي بشدة وإذا كان ثمة حوار فهو بشدة. وإذا كان ثمة تعامل كان بشدة وصلابة. هذا هو معنى أشداء على الكفار.

" رحماء بينهم " أي إذا كانوا فيما بينهم كانوا مرنين أودّاء بعيداً عن تلك الشدة والصلابة. هنا ينبغي التعاطف وبذل القلوب وكسبها. هنا ينبغي التعامل مع البعض بالتعاطف والرحمة.

الصمود في بداية البعثة كان من شأنه الاستقامة العجيبة ثلاث سنوات في شعب أبي طالب. ليس هذا مزاحاً. ثلاث سنوات في وادٍ بجوار مكة بلا ماء ولا نبات وتحت الشمس المحرقة. الرسول وأبو طالب والسيدة خديجة، وكل المسلمين وعوائلهم عاشوا في هذا الشعب بين الجبلين. وقد أغلق الطريق كي لا يصلهم طعام. أحياناً كان بوسعهم أن يدخلوا المدينة في أيام الموسم - والتي كانت أياماً حرة لا حرب فيها- لكن بمجرد أن يريدوا شراء شيء من حانوت كان أبوجهل وأبو لهب وسائر زعماء مكة يوصون خدمهم وأبناءهم بأن يدفعوا ضعف الثمن للشيء الذي يريد المسلمون شراءه كي لا يسمحوا لهم بشرائه. أمضوا مثل هذا الواقع الصعب لمدة ثلاث سنوات. ليس هذا بالهزل.

إنها الاستقامة الأولى. وذلك العمود الصلب للخيمة، والقلب المتوكل على الله الذي أوجد مثل تلك الصلابة في الأجواء وأهّل الجميع للصبر والصمود؟ كان الأطفال يبكون من الليل إلى الصباح وكانت أصوات بكائهم تصل أسماع كفار قريش من شعب أبي طالب وترق قلوب الضعفاء منهم لكنهم لا يجرأون على مساعدتهم خوفاً من الأقوياء. لكن المسلمين الذين شاهدوا أبناءهم يتلوّون أمامهم - وكم ماتوا في الشعب، وكم مرضوا، وكم عانوا الجوع - لم يتزلزلوا أبداً. يقول الإمام علي لابنه العزيز محمد بن الحنفية: " تزول الجبال ولا تزل". إنها نصيحة الرسول ووصيته. وهذا هو سبيل نهضة الأمة الإسلامية وبعثتها. إنه درس الرسول لنا. هذا ما تُعلمناه البعثة.
 

2017-03-16