نداء ولي أمر المسلمين إلى حجاج بيت الله الحرام
نداء القائد
نداء ولي أمر المسلمين إلى حجاج بيت الله الحرام
عدد الزوار: 163نداء ولي أمر المسلمين إلى حجاج بيت الله الحرام، 1428 27-1-2014
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة
والسلام على سيدنا محمد المصطفى وعلى آله الأطيبين وصحبه المنتجبين.
السلام على حجاج بيت الله، ضيوف بيت الحبيب، والملبين لدعوته. وتحيات عطرة إلى
القلوب الطرية النضرة بذکر الله المفتوحة أبوابها على فيضه العميم ورحمته السابغة.
فخلال هذه الأيام والليالي والساعات الإکسيرية، ما أکثر أولئك الذين قدّروا الموقف
حق تقديره فسلّموا أنفسهم إلى أجواء الانجذاب الروحي، لينوّروا صحائف قلوبهم
وأرواحهم بالإنابة والتوبة؛ ويزيلوا صدأ الذنوب والشرك من وجودهم بالغوص في أمواج
الرحمة الإلهية التي ما انفکت تتواصل في هذا الوادي المقدس. فسلام الله على هذه
القلوب النبيهة وأصحابها الأطياب.
يجدر بجميع الإخوة والأخوات أن يفکروا في مثل هذا المکسب، وأن يغتنموا هذه الفرصة
الثمينة. فلا يسمحوا لعلائق الحياة المادية ـ التي تشکل همّنا المستمرـ أن تشغل
وتُلهي القلوب، وأن يطيروا بقلوبهم المتشوقة في فضاء التوحيد والقيم الروحية
الأصيلة، مستعينين بذکر الله وبالإنابة والتضرع إليه، وبالعزيمة الراسخة على الصدق
والاستقامة في العمل والتفکير، ليتزوّدوا بذلك، من أجل الصمود والمثابرة في سبيل
الله والصراط المستقيم.
هنا مثابة التوحيد الحقيقي الخالص. هذا هو المکان الذي جاء فيه إبراهيم الخليل(عليه
السلام) بفلذة کبده إلى المذبح، کي يسجّل لجميع الموحّدين على مرّ تاريخ العالم
رمزاً للتوحيد، يتمثل في الغلبة على النفس والتسليم التام لأمر الله. وهنا المکان
الذي رفع فيه سيدنا محمد المصطفى(صلّى الله عليه وآله) رآية التوحيد أمام
المستکبرين وأصحاب المال والسلطة من أهل زمانه؛ واعتبر البراءة من الطاغوت ـ بجانب
الإيمان بالله ـ شرطاً للنجاة والفلاح؛ (فَمَنْ يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ)1.
إن الحج هو إعادة قراءة هذه الدروس العظيمة وتعلّمها. إن البراءة من المشرکين ومن
الأصنام وصنّاعها، تشکل الروح المسيطر على حج المؤمنين. إن الحج بکلّ مواقفه
ومواقعه، يجسد حقيقة الخضوع لله والعمل في سبيله، والبراءة من الشيطان ورميه ورفضه
والتصدي له. کما أن الحج بکلّ تفاصيله، يشکل رمز الوحدة والتلاحم بين أهل القبلة،
وانتفاء فوارقهم الطبيعية والاعتبارية، وتبلور وحدتهم الحقيقية وأخوتهم الإيمانية.
إنها دروس، علينا ـ معشر المسلمين في کل أرجاء العالم ـ أن نتعلمها ونبرمج حياتنا
ومستقبلنا على أساسها.
لقد أکد القرآن الکريم على الوقوف بقوة واقتدارأمام الأعداء، والتعامل بالعطف
والمحبة بين المؤمنين، والعبودية والخشوع أمام الله، وذلك کمؤشرات ثلاثة للمجتمع
الإسلامي: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً
سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)2
فهذه الأرکان الرئيسية الثلاثة هي من أجل بناء کيان الأمة الإسلامية المرتکز على
العزّ والمجد.
على ضوء هذه الحقيقة، يمکن للمسلمين بجميع أفرادهم، أن يتعرفوا جيداً على ما يعانيه
العالم الإسلامي وما يعتريه من مشاکل في الوقت الراهن.
إن عدو الأمة الإسلامية الغادر، يتمثل اليوم في الرؤوس المديرة للمراکز الاستکبارية
والقوى ذات النزعة التوسعية والعدوانية، ممن يعتبرون الصحوة الإسلامية تهديداً
کبيراً لمصالحهم اللامشروعة وسيطرتهم الغاشمة على العالم الإسلامي. إنه على جميع
الشعوب المسلمة ـ وفي مقدمتهم السياسيون وعلماء الدين والمثقفون والقادة الوطنيون
في کل دولة ـ أن يشکّلوا الصف الإسلامى الموحد بالمزيد من القوة والصلابة أمام هذا
العدو المعتدي. عليهم أن يجمعوا في أنفسهم کل عناصر القوة وأن يجعلوا الأمة
الإسلامية قوية فعلاً. إن التحلي بالعلم والمعرفة، والحکمة والتدبير واليقظة،
والشعور بالمسؤولية والالتزام بها، والاتکال على الله والأمل في الوعد الإلهي، وغض
الطرف عن المطالب التافهة الحقيرة أمام نيل رضا الله والعمل بالواجب، کل ذلك يعتبر
العناصر الرئيسية لقوة الأمة الإسلامية واقتدارها، مما يحقق للأمة ما تصبو إليه من
عزّ واستقلال وتقدم في المجالين المادي والمعنوي، ويفشل العدو في محاولاته التوسعية
وتطاوله على الدول الإسلامية.
إن عنصرالعطف والرأفة بين المؤمنين، يشکل الرکن الثاني ويعتبر مؤشرا آخر للحالة
المنشودة للأمة الإسلامية. فإن نشوب الفرقة والصراع بين صفوف الأمة، يعتبر مرضا
ًخطراً يجب العمل على علاجه بکل ما هو متوفر من قوة. لقد بذل أعداؤنا ـ ومنذ أمد
بعيد ـ جهودا کبيرة وحثيثة في هذا المجال. وإنهم قد زادوا من جهودهم اليوم، بعد أن
أخافتهم الصحوة الإسلامية. کل ما يقوله المشفقون هو أنه يجب ألا تتحول الفوارق إلى
تناقضات، ولا التعددية إلى صراع.
لقد سمّى الشعب الإيراني هذا العام عام الانسجام الإسلامي . وجاءت هذه التسمية بسبب
وعيه بمؤامرات الأعداء المتصاعدة لبثّ الخلاف بين الإخوة والأشقاء. هذه المؤامرات
باتت فاعلة في کل من فلسطين ولبنان والعراق وباکستان وأفغانستان؛ حيث شهدنا أن بعض
أبناء دولة مسلمة دخلوا في حرب وصراع ضد بعضهم الآخر، ويريقون دماء بعضهم . في جميع
هذه الأحداث المُرّة المأساوية، کانت علائم المؤامرة واضحة، ولم تبق يد العدو خافية
من العيون الدقيقة والأبصار الحادة.
إن معنى الأمر القرآني المتمثل في «رحماء بينهم» هو اجتثاث جذور هذه الصراعات. إنکم
في هذه الأيام المبارکة وخلال جميع مناسك الحج، تشاهدون المسلمين ـ من کل مکان ومن
مذاهب مختلفة ـ وهم يطوفون حول بيت واحد، ويصلّون باتجاه کعبة واحدة؛ ويرجمون ـ
جنبا إلى جنب بعضهم ـ رمز الشيطان الرجيم؛ ويتصرفون بنمط واحد عند ذبح الأضاحى کرمز
للتضحية بالأماني والأهواء النفسانية؛ ويبتهلون إلى الله جنباً إلى جنب سواء في
عرفات أو في المزدلفة... إن المذاهب الإسلامية متقاربة إلى بعضها بنفس الدرجة في
معظم الفرائض والأحکام والعقائد الرئيسية وأهمّها. وطالما الأمر کذلك، فلماذا تأتي
العصبيات والأحکام الصادرة مسبقاً لتؤجج نارالفتنة بينهم، وتأتي أيدي العدو الآثمة
لتصب الزيت على هذه النار التي تقضي على الأخضر واليابس؟
اليوم، هناك من يتذرع بحجج واهية، وبدافع من الجهل وقصر النظر، ليرمي جماعة کبيرة
من المسلمين بالشرك ويبيح دماءهم. إن هؤلاء يخدمون الشرك والکفر والاستکبار سواء
أکان ذلك عن وعي أو من دون وعي. فکم شهدنا الذين اعتبروا احترام روضة النبي
الأعظم(صلّى الله عليه وآله) ومشاهد الأولياء وأئمة الدين(عليهم السلام) شرکاً
وکفراً، رغم کون ذلك تعظيماً لأمر الدين والتدين؛ لکنهم بدورهم انخرطوا في خدمة
الکفرة والظالمين وساعدوهم على تحقيق أهدافهم الخبيثة.
على العلماء الحقيقيين والمثقفين الملتزمين والقادة المخلصين أن يقوموا بمکافحة هذه
الظواهر الخطرة.
إن أمر الوحدة والتلاحم في الصف الإسلامي يشکل اليوم فريضة حتمية يمکن انتهاج الطرق
العملية المؤدية إليها بفضل تعاون العقلاء والمشفقين.
إن هذين الرکنين الذين تقوم العزة عليهما ـ أي تحديد المواقع واتخاذ الموقف القوي
الحاسم أمام الاستکبار من جهة، والتراحم والتقارب والتآخي بين المسلمين من جهة أخرى
ـ عندما يقترنان بالرکن الثالث، وهو الخشوع والتعبد أمام الربّ جلّ وعلا، فعندئذ
ستتقدم الأمّة الإسلامية مرحلة تلو الأخرى في نفس الطريق التي أدّت بمسلمي العهد
الإسلامي الأول إلى ذروة العزّ والعظمة، وستتخلص الشعوب المسلمة من التخلف المُزري
الذي فُرض عليها خلال القرون الأخيرة. لقد بدأت تباشير هذه الحرکة العظيمة في
الظهور، وتحرکت تيارات الصحوة بشکل أو بآخر في کل أرجاء العالم الإسلامي. وتحاول
وسائل إعلام العدو وعملاؤه الإيحاء بأن أي حرکة تحررية أو مطالبة بالعدالة في أي
بقعة من العالم الإسلامي مرتبطة بإيران أو بالتشيع؛ کما يحاولون أن يحمّلوا إيران
الإسلامية الرائدة في حمل راية الصحوة الإسلامية بنجاح، مسؤولية الضربات التي
يتلقونها في الساحة السياسية أو الثقافية من قبل غيارى الأقطار الإسلامية. إنهم
يوجهون تهماً من قبيل الانتماء لإيران أو التشيع إلى الملحمة البطولية التي سطرها
حزب الله بما ينقطع نظيره خلال حرب الـ33 يوماً؛ وإلى صمود الشعب العراقي المصحوب
بالتدبير والحکمة والذي أدى إلى تشکيل مجلس وحکومة لم يکن المحتلون يريدونهما بهذه
الشاکلة؛ وإلى ما أبدته الحکومة الشرعية في فلسطين والشعب الفلسطيني المضحّي من صبر
وصمود يبعثان على الإعجاب؛ وإلى کثير من الحالات التي تمثل إرهاصات تجديد حياة
الإسلام في الدول الإسلامية. إنهم يوجهون هذه الاتهامات لإرباك العالم الإسلامي
ومنعه من اتخاذ موقف مؤازر موحّد. إلا أن هذا الخداع لن ينجح في مواجهة السنة
الإلهية القاضية بانتصار المجاهدين في سبيل الله وأنصار دينه.
إن المستقبل للأمّة الإسلامية، وإن کل واحد منا ـ حسب مقدراته وطاقاته ومسؤوليته ـ
يستطيع بدوره أن يساهم في تقريب أجل هذا المستقبل.
إن مناسك الحج، بالنسبة لکم أيها الحجاج السعداء، يمثل فرصة کبيرة لتستعدّوا أکثر
من ذي قبل لأداء هذا الدين.
آملاً أن يحالفکم التوفيق الإلهي وتشملکم دعوات سيدنا المهدي الموعود(عجل الله له
الفرج) في تحقيق هذا الهدف العظيم.
والسلام عليکم
ورحمة الله وبرکاته
السيد علي الحسيني الخامنئي
4 ذي الحجة لعام 1428 للهجرة
1. سورة البقرة، الآية 271
2. سورة الفتح، الآية 29