يتم التحميل...

عقد التقدّم والعدالة: العوامل والمؤهلات

النهوض والتقدم

عقد التقدّم والعدالة: العوامل والمؤهلات

عدد الزوار: 161

من كلمة الإمام الخامنئي في الروضة الرضويّة الطاهرة الزمان:21-3-2009
عقد التقدّم والعدالة: العوامل والمؤهلات

عامنا هذا هو العام الأوّل من العقد الرابع للثورة، الذي سُمّي باسم «عقد التقدّم والعدالة»1. هنا وبهذه المناسبة، أذكر بعض النقاط والمسائل التي تتعلّق ببعض أهمّ قضايا بلادنا؛ وأشير كذلك، إلى بعض القضايا الدوليّة والخارجيّة المهمّة.

سمّينا هذا العقد «عقد التقدُّم والعدالة في البلاد وفي نظام الجمهوريّة الإسلاميّة»، والحال أنّ الشعب الإيراني- ومنذ مطلع الثورة- قد سار بحركته العظيمة، وبتأسيسه وتكريسه لنظام الجمهوريّة الإسلاميّة، نحو التقدّم والعدالة. فما هي خصوصيّة الأعوام العشرة القادمة، حتى أطلقنا عليها عنوان عقد التقدّم والعدالة؟

من وجهة نظرنا، إنّ الفرق بين السنوات العشر القادمة والعقود الثلاثة الماضية يكمن في الاستعدادات الواسعة والهائلة جدًّا، للتقدّم والعدالة، التي ظهرت في بلادنا العزيزة؛ وهي استعدادات تسمح لشعبنا الكبير ذي العزيمة العالية، بأن يقطع خطوةً وقفزةً متقدّمةً في هذا المجال. الشعب مستعدّ لتحرّك سريع وكبير، صوب التقدّم والعدالة، وهذا ما لم يكن متوفّرًا له، بهذا الحجم، في العقود المنصرمة.

أ ــ الطاقة الشبابية الموهوبة الواسعة
لو أردنا تحديد العوامل الأساسيّة والعناصر الرئيسة لهذا الاستعداد، فينبغي أن نقول: إنّ هناك عدّة عناصر كان لها تأثير كبير في هذا الجانب: أحد هذه العوامل هو حضور جيلنا الشابّ من الخرّيجين. واليوم، يحضر في ساحة العلم والبحث العلمي، والنشاطات الاجتماعيّة والسياسيّة- الملايين من الشباب المتوثّبين المحصّلين2. وإنّ وجود هذا العدد من الشباب العلماء، والخرّيجين، والموهوبين في بلادنا- ظاهرةٌ جدّ لافتة وكبيرة.

ب ــ التجربة المتراكمة لدى النخب عبر السنين
العامل الثاني هو عامل التجربة. لقد اكتسبت نُخب البلاد ومسؤولوها، في مواجهتهم للمشكلات المختلفة، طيلة الأعوام الماضية، تجارب قيّمة جدًّا. هذه التجارب موجودة اليوم أمام الشعب.

تنفيذ "سياسات المادة "44 وسياسة "توجيه الدعم" نموذجا
و لو أردنا الحديث عن نموذج من هذه التجارب لقلنا: إنّ من آثارها تنفيذ سياسات المادّة (44) من الدستور3. الاهتمام بهذه السياسات ناجم عن تجربة طويلة، استمرّت طوال العقود الماضية، وأوصلت نخبة بلادنا إلى هذه المحطّة.

و النموذج الآخر هو "توجيه الدعم"4؛ والناتج أيضًا عن تجارب طويلة، تراكمت لدى نخبة البلاد، وأوصلتهم طوال هذه الأعوام إلى أنّ الدعم الذي يخرج من بيت المال (أي من جيوب عموم الشعب) ويُخصَّص لعموم الشعب، يجب أن يوجَّه إلى الشرائح المحتاجة أكثر. أي، يجب أن تنال الشرائح الفقيرة والطبقات المتوسِّطة فما دون، في المجتمع، نصيبًا أوفر من بيت المال، ومن خزانة الشعب العامة، قياسًا إلى الطبقات المتمتّعة بدرجة عالية من الرفاه، والذين لا يحتاجون، في الحقيقة، إلى هذا الدعم. بلوغ هذه الحقيقة، والقرار، والعزيمة الراسخة لتنفيذها, من تجارب طويلة الأمد، تراكمت على مدى هذه الأعوام، وبلغت أخيرًا طور التنفيذ.

ج ــ توفر البنى التحتيّة اللازمة
العامل الآخر هو البنى التحتيّة للبلاد. ليست بلادنا اليوم كما كانت عليه في العقد الأوّل أو العقد الثاني للثورة، حينما كانت تفتقر للبنى التحتيّة العلميّة التي تحتاجها. يستطيع شبابنا ومتخصّصونا وعلماؤنا اليوم، القيام بأعمال كبيرة في أيّ حقل يخوضون فيه. لذا فإنّ الأشياء اللازمة للتقدّم الواسع في مضمار الاتّصالات، والمواصلات، والبحث العلمي، والبناء، متوفّرة في بلادنا والحمد لله. إنّنا من حيث وجود الطرق المهمّة والدوليّة، ووجود المطارات، والاتّصالات السلكيّة واللاسلكيّة، وشبكات الاتّصال، وبناء السدود، لا نحتاج إلى الآخرين. ذات يوم، لم يكن يخطر ببال أحد، أن يتمكّن خبراؤنا ومتخصّصونا المحلُّيون من بناء سدّ، أو مخزن غلال ]صومعة[، أو طريق سريع، أو مطار، أو معمل فولاذ؛ كانت عيون شعبنا في كلّ هذه الأمور على الأجانب. وبعد ذلك، حينما قصرت أيدي الأجانب، كنّا نعاني فقرًا في هذه المجالات؛ لكنّنا نتمتّع اليوم بقدرات كبيرة في هذه الميادين؛ فشبابنا يصنعون المصانع المعقّدة، ويقومون بأعمال علميّة وتقنيّة معقّدة، ويسدّون احتياجات البلاد، ويساعدون البلدان الأخرى كمستشارين، وكجهات تزاول تجارة العلم والتقنية.

لقد اكتسبت البلاد واقعًا مميّزًا من هذه الناحية. وهذا التقدّم ليس بقليل. ذات يوم، لم يكن باستطاعة شبابنا حتّى رمي قذائف الـ (آر. بي. جي)، ولم يكونوا يعرفوا ما هي. واليوم، يطلق هؤلاء الشباب أنفسهم صاروخًا حاملًا للأقمار الصناعيّة، يشدّ إليه أنظار العلماء وكل العالم. ذات يوم، كنّا بحاجة إلى المتخصّصين، من أجل استخدام محطّات الطاقة الموجودة لدينا في البلاد، واليوم تقدّم شباب بلادنا في الصناعة، إلى حدّ أنّهم يصنعون بأنفسهم، وينتجون المصافي، ومحطات الطاقة، وإمكانات أخرى بأيديهم.

في يوم من الأيام كان البلد يعاني الفقر المطلق على صعيد علم الأحياء، واليوم يحقّق تطوّرًا في علوم الأحياء، بما في ذلك مجال الخلايا الأساسيّة، التي تعدّ مجالًا على مستوى عالٍ من الأهميّة في العالم. هذه إمكانيّات متوفّرة في البلاد اليوم. هذه كلّها بنى تحتيّة يتيسّر على أساسها التقدَّم المستقبلي.

أضف إلى ذلك - وكما ذكرنا - أنّ تجربة المدراء ]المسؤولين[ باتت اليوم تجربة عميقة جدًّا وواسعة. البلاد اليوم أمام أنظار المسؤولين والنخبة، هي أشبه بمشهد، يمكنهم البرمجة من أجل تطوّره. وإنّ زيارات المسؤولين لأنحاء البلاد المختلفة، والمناطق المحرومة، والمحافظات البعيدة، وزيارة المدن المختلفة في المحافظات، والاتّصال بالجماهير، ومشاهدة الأوضاع عن كثب، والاطّلاع على المشاكل بأمّ العين- قد أكسبتهم تجربة قيّمة وعظيمة. وتشكّل هذه أرضيّة لطفرة تؤهل البلاد لأن تستطيع- إن شاء الله- السير في طريق التقدّم والعدالة. وهذا ما يستدعي أن يكون العقد المقبل ــ أي العقد الذي يبتدئ من هذه السنة ــ عقد التقدّم والعدالة لبلادنا، ولنظام الجمهوريّة الإسلاميّة، وعلى الجميع العمل والجد من أجل ذلك.

مرادنا من التقدّم؛ التقدم الشامل في مختلف نواحي الحياة
أذكر نقطة مقتضبة عن مفهوم التقدّم، ونقطة مقتضبة أخرى عن مفهوم العدالة. وتفصيل هذا المجمل ممّا ينبغي على المسؤولين والمتحدّثين، ومن هم على اتصال بالجماهير والرأي العام- التحدّث فيه؛ عليهم البحث والتحقيق في هذا المجال، واطّلاع الشعب على نتائج ذلك.

ما هو مرادنا من التقدّم؟ ليس المقصود التقدّم في اتّجاه معين بحدّ ذاته، بل نبتغي التقدّم الشامل في كلّ المجالات.

شعبنا جدير بالتقدّم على كافّة الأصعدة: التقدّم في إنتاج الثروة الوطنيّة، والتقدّم في العلم والتقنيّة، والتقدّم في الاقتدار الوطني والعزّة الدوليّة، والتقدّم في الأخلاق والمعنويّة، والتقدّم في أمن البلاد - سواء الأمن الاجتماعي، أم الأمن الأخلاقي للشعب– والتقدّم في تحسين الانتاجيّة وارتقائها. وإنّ معنى تحسين مستوى الإنتاجيّة أن نستخدم ما عندنا على أحسن وجه: استخدام النفط، والغاز، والمعامل، والطرق، وكلّ ما يوجد لدينا، على أحسن وجه وبأكبر قدر. وكذلك التقدّم في الالتزام بالقانون والانضباط الاجتماعيّ. فلو ابتلي شعب بانعدام القانون، وطغت حالة خرق القانون على أفكار الناس وممارساتهم، فلن يكتب له أيّ تقدّم معقول وصحيح. والتقدّم على صعيد الوحدة والانسجام الوطني، وهو الشيء الذي حاول الأعداء إفساده منذ بداية الثورة، لكنّ شعبنا حافظ ولحسن الحظّ على اتحادّه وانسجامه، رغم كلّ الظروف التي كان بالإمكان انتهازها لبثّ الفرقة.

علينا التقدّم إلى الأمام ورفع مستوانا في كلّ هذه المجالات. وهناك التقدّم في مجال الرفاه العامّ؛ حتّى تستطيع كافّة الطبقات التمتّع بالرفاه. والتقدّم في التنمية والنضج السياسيّ. إذ إنّ الوعي السياسي والرشد السياسي، والقدرة على التحليل السياسي ــ بالنسبة إلى منظومة عملاقة مثل شعبنا- أشبه بسور فولاذيّ يصدّ نوايا الأعداء الشريرة. لذلك علينا رفع مستوى نضجنا السياسي. فشعبنا اليوم يتقدّم على كثير من الشعوب من حيث الرشد السياسي، لكنّنا يجب أن نتقدّم أكثر من هذا. كذلك فيما يتعلّق بتحمّل المسؤوليّة والعزيمة والإرادة الوطنيّة، ينبغي تحقيق التقدّم في كلّ هذه المجالات. طبعًا، هذا الشيء لا يتحقّق بالكلام والألفاظ والكتابة على الورق. لا بدّ من الحركة والبرمجة وسأشير إلى هذا الجانب فيما بعد.

العدالة: تكافؤ الإمكانات والفرص بين مختلف المناطق والطبقات
أمّا بخصوص العدالة؛ فيجب أن يُقال: إنّ التقدم إذا لم يكن مصحوبًا بالعدالة، فهو ليس التقدّم الذي يبتغيه الإسلام؛ فأن نرفع الناتج الإجمالي الوطني والدخل العام للبلاد إلى مستوى، مع وجود تمييز وعدم مساواة في داخل البلاد، ومع وجود الأثرياء5؛ بينما يعيش بعضهم الآخر الفقر والحرمان؛ هذا ليس ما يريده الإسلام؛.وليس هذا هو التقدّم الذي يبتغيه الإسلام. ينبغي تأمين العدالة. والعدالة مفردة عميقة جدًّا وواسعة، يجب البحث عن خطوطها الرئيسة والعثور عليها.

نعتقد أنّ العدالة هي خفض الفواصل الطبقيّة والجغرافيّة. فإذا كانت المحافظة أو المدينة أو القرية، بعيدة عن العاصمة، وتقع في منطقة نائية جغرافيًّا، فيجب أن لا تعاني الحرمان بسبب بعدها هذا، بينما تتمتّع المناطق القريبة بالخيرات؛ هذه ليست عدالة. ينبغي رفع الفواصل الطبقية، ويجب أيضًا ردم الفواصل الجغرافيّة، وتوفير المساواة في الاستفادة من الإمكانيّات والفرص. يجب أن يكون بمقدور جميع أبناء البلاد - ممّن لهم القابليّة والاستعداد والقدرة - الانتفاع من الإمكانيّات العامّة للبلاد. يجب أن لا يجري تقديم المحظّيين، وأن لا يوضع المخادعون والغشّاشون في المقدّمة. لنعمل ما من شأنه أن يُمكّن أبناء البلد [بمختلف مناطقهم وطبقاتهم] من التمتّع بفرص متساوية، أمام إمكانيّات البلاد وخيراتها. هذه طبعًا طموحات كبيرة، لكنّها ممكنة وليست مستحيلة. وبوسعنا الوصول إليها إذا سعينا وعملنا. العمليّة هنا صعبة لكنّها ممكنة.

مصاديق العدالة:
أ ــ مكافحة الفساد المالي
من مصاديق العدالة: مكافحة الفساد المالي والاقتصادي، وهو ما يجب أخذه مأخذ الجدّ. لقد ذكرتُ هذه النقطة قبل سنوات، وأكّدتُ عليها عدّة مرات، وبُذلت من أجلها مساعٍ جيّدة ولا تزال تبذل؛ بيد أنّ مكافحة الفساد عمليّة صعبة، تخلق للإنسان معارضين يبثّون الإشاعات ويكذبون، ويكون الشخص الذي يتقدّم الآخرين في هذا الميدان، عرضةً للهجوم أكثر من غيره. وهذا الكفاح بدوره ضروري ولا بدّ أن يتمّ. أمّا الذين يريدون النهوض بهذه المشاريع الكبرى- إنْ على صعيد التقدّم وإنْ على مستوى العدالة- فيجب أن يكونوا مدراء ]مسؤولين] مؤمنين بهذه الأمور. يجب أن يؤمنوا حقًا بقيامة العدالة ومكافحة الفساد. بإمكان المدراء المؤمنين بهذه الركائز، ومن لديهم الشجاعة والإخلاص والتدبير والعزم الراسخ، تحقيق هذه المقاصد وهذه الأهداف الإلهيّة العالية قطعًا. هذه هي النقطة الأولى التي كان يجب عليَّ ذكرها.

ب ــ مكافحة الإسراف
من الأعمال والإجراءات الأساسيّة في مجال التقدّم والعدالة، ما ذكرته في نداء النوروز وخاطبت به الشعب الإيراني العزيز. ألا وهي مكافحة الإسراف، والسير نحو إصلاح نمط الاستهلاك، والحؤول دون البذخ، وتضييع أموال المجتمع؛ هذه قضيّة على جانب كبير من الأهميّة. طبعًا، هذه ليست المرة الأولى التي نطرح فيها هذه الفكرة. إنّني في لقائي بالجماهير بداية السنة وفي مرّات عدة، خاطبت شعبنا العزيز، وذكرت بعض النقاط حول الإسراف، والتبذير، وإتلاف الأموال، وضرورة الاقتصاد، بيد أنّ هذه المسألة لم تنتهِ، ولم يتحقّق هذا الهدف كما يجب. من الضروري أن نطبّق مسألة "الاقتصاد"6، كسياسة، في الخطوط العريضة لخططنا على شتّى المستويات. ليتنبّه شعبنا العزيز إلى أنّ الاقتصاد لا يعني عدم الاستهلاك؛ بل يعني الاستهلاك بنحوٍ صحيح ومناسب، وعدم تبذير الأموال، وجعل الاستهلاك مثمرًا ومفيدًا. فالإسراف في الأموال وفي الاقتصاد هو أن يستهلك الإنسان المال، من دون أن يكون لهذا الاستهلاك تأثيرٌ وفاعليّة. الاستهلاك العبثيّ والتبذير هو في الحقيقة إهدارٌ للمال.

على مجتمعنا أن يجعل هذا الأمر شعاره الدائم نصب عينيه، ذلك أنّ واقع مجتمعنا من حيث الاستهلاك ليس واقعًا جيّدًا. هذا ما أقوله ويجب أن نعترف به. فإنّ عاداتنا وتقاليدنا وأساليبنا الخاطئة التي تعلّمناها من ذا وذاك، تقودنا إلى التمادي في الاستهلاك إلى درجة الإسراف.

1 ــ ضرورة الموائمة بين الإنتاج والاستهلاك
لا بدّ أن يكون هناك في المجتمع تلاؤم ما بين الإنتاج والاستهلاك. لا بدّ أن تكون العلاقة لصالح الإنتاج، بمعنى أن يكون إنتاج المجتمع- دائمًا- أكثر من استهلاكه؛ وينبغي أن يكون استهلاك المجتمع من الإنتاج المحلّي، ويُخصّص الفائض منه لرقيّ البلاد. واليوم ليس الوضع بهذا الشكل في بلادنا؛ فاستهلاكنا أكثر من إنتاجنا نسبيًّا؛ وهذا ما يتسبّب في تأخّر البلاد ويكبّدنا خسائر اقتصاديّة مهمّة، ويخلق للمجتمع مشكلات اقتصاديّة. أكّدت الآيات القرآنيّة مرارًا، على اجتناب الإسراف في الشؤون الاقتصاديّة، والسبب هو أنّ الإسراف يوجّه ضربةً اقتصاديّةً وضربةً ثقافيّةً أيضًا. حينما يُصاب مجتمعٌ بداء الإسراف، فسيترك هذا تأثيراته السلبيّة عليه، من الناحية الثقافيّة أيضًا. إذًا، قضيّة الاقتصاد واجتناب الإسراف ليست قضيّة اقتصاديّة صرفة؛ بل هي قضيّة اقتصاديّة، واجتماعيّة، وثقافيّة في نفس الوقت، والإسراف يهدّد مستقبل البلاد.

2 ــ إحصاءات مهولة متعلقة بالإسراف
1- الإسراف في الخبز
أذكر ها هنا بعض الإحصاءات المهولة، المتعلّقة بالإسراف في المواد الاستهلاكيّة المهمّة في البلاد؛ ومن ذلك: الإسراف في الخبز. بحسب دراسات ميدانيّة أجريت في طهران، وبعض مراكز المحافظات، يقال إنّ 33 بالمئة من الخبز يذهب هدرًا؛ ثلث مجموع الخبز الذي يُنتج في هذه المدن يرمى بعيدًا ولا يؤكل. تصوّروا الأمر: ثلث الخبز! بينما الفلاح عندنا ينتج القمح بكلّ مشقّة، وإذا كانت الأمطار شحيحة في عام من الأعوام - كالعام الماضي حيث انخفض إنتاج القمح في البلاد - تنفق الحكومة المال العام ومن ميزانيّة الشعب؛ لتستورد القمح من الخارج، وتحوّله إلى دقيق ثم عجين؛ ثم يكون خبزًا؛ وبعد ذلك، تُرمى ثلث هذه الثروة بعيدًا! كم هو مؤسف هذا الوضع! هذا - للأسف- واقع موجود.

3 ــ الإسراف في المياه
وحول المياه، تقول الدراسات التي أجريت: إنّ إهدار المياه في الاستهلاك المنـزلي يصل إلى نحو 22%. بلدنا ليس بلدًا غنيًّا بالمياه، وعلى شعبنا الاقتصاد في استهلاك المياه إلى أقصى درجة. ثم إنّ هذا الماء الذي يتمّ إنتاجه بكلّ هذه الجهود والمشاقّ، ويُجَرّ عبر طرق ومسافات بعيدة؛ وتبنى السدود بتكاليف عالية، وتستخدم كلّ هذه العلوم والتجارب والجهود؛ لكي يصل الماء إلى بيوتنا، وإذا بـ 22% من هذا الماء يُهدر! هذا بالنسبة إلى الاستهلاك المنـزلي فقط، وأمّا الاستهلاك الخاص بالزراعة والصناعة، فيشهد، أيضًا، تبذيرًا من نوع آخر.

4 ــ الإسراف في الطاقة
فالإحصاءات التي أفادتنا بها الدراسات، تقول أنّنا نستهلك من الطاقة أكثر من ضعفيْ متوسّط استهلاك الطاقة في العالم، سواء بالنسبة إلى الكهرباء أو حوامل الطاقة، أي: النفط، والغاز، والغازؤيل، والبنـزين.

استهلاك هذه المواد في بلادنا أكثر من ضعفي متوسط الاستهلاك العالمي؛ هذا إسراف.. أليس إسرافًا؟!

ثمّة مؤشّر يسمّى مؤشّر "شدة الطاقة"، أي: نسبة الطاقة المستهلكة إلى البضائع المنتجة. وكلّما كان استهلاك الطاقة أقلّ، كان ذلك أنفع للبلد. في هذا المجال، تصل شدّة الطاقة عندنا أحيانًا إلى أكثر من ثمانية أضعاف شدّة الطاقة، لدى بعض البلدان المتقدّمة! هذه نماذج للإسراف الموجود في المجتمع.

5 ــ الإسراف في الاستهلاك الشخصي
و يحصل الإسراف الفردي أيضًا، في الاستهلاك الشخصي والعائلي المتنوع ؛ نزعة البذخ، والتنافس مع الآخرين، وأهواء أفراد العائلة: ربّ العائلة، أو ربّة العائلة، وشباب العائلة، وشراؤهم أشياء غير ضروريّة. هذه كلّها من نماذج الإسراف؛ فأدوات الزينة والترف وأدوات وأثاث المنـزل، والزينة والزخارف داخل البيت؛ هذه أشياء ننفق الأموال لأجلها؛ هذه الأموال التي يمكن إنفاقها على الإنتاج والاستثمار، فتساعد على تطوير البلاد، ومساعدة الفقراء، وزيادة الثروة العامة للوطن؛ نستهلكها على هذه الأمور المنبعثة من الأهواء، والتنافس، والحفاظ الوهمي على السمعة. يسافرون ويرجعون، فيقيمون الولائم والضيافات؛ وأحيانًا، تكون تكاليف تلك الضيافة أضخم من تكاليف السفر إلى مكّة! يقيمون عرسًا أو عزاءً فينفقون على الضيوف أموالًا طائلة، ويقدّمون شتّى صنوف الطعام. لماذا؟! ما الداعي لذلك؟! لا يزال في بلادنا من هم محرومون من ضروريّات العيش. يجب أن نساعد على تقدّم البلاد. لا نقول: انفقوا الأموال بالضرورة على الفقراء- وطبعًا أفضل الأعمال أن ينفق الإنسان في سبيل الله – ولكن، حتى لو لم ينفقوا، فليستثمروا هذه الأموال التي يبذلونها على الترف ]والكماليات[، في الإنتاج من أجل أنفسهم، وليساهموا في المصانع والمعامل والإنتاج؛ وسيكون ذلك نافعًا للبلاد. لكنّنا بدل هذه الأعمال نقيم الولائم، والمجالس، والمآتم، واصطناع العادات، والمراسم، لماذا؟! ما الضرورة لذلك؟! عقلاء العالم لا يفعلون هذا! هذا ليس رأي الدين فقط. يقول القرآن الكريم: ?ولا تسرفوا إنّه لا يحب المسرفين?7، ?كلوا واشربوا ولا تسرفوا?8. ويقول في آية شريفة أخرى: ?كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقّه يوم حصاده، ولا تسرفوا إنّه لا يحبّ المسرفين?9. نحن عباد الله، وهذا كلام الدين، وثمّة الكثير من الأحاديث في هذا المضمار. جاء في إحدى الروايات أنّ شخصًا أكل فاكهة، وبقي نصفها فرماه، فنهره الإمام (عليه السلام) وقال له: لقد أسرفت. لِمَ رميته؟ ولدينا في الروايات أوامر بالاستفادة حتى من نواة التمر. القضية جدّية إلى هذا الحد. استهلكوا كِسَر الخبز المتفرّقة. يقدّمون الطعام في الفنادق لعدد من الناس، ثم يرمون كلّ ما يتبقّى من الطعام في صناديق النفايات، بحجّة أنّه غير صحّي. هل هذا ممّا يناسب مجتمعًا إسلاميًّا؟ هل يمكن بلوغ العدالة بهذه الطريقة؟

وجوب إصلاح نمط الاستهلاك
علينا إصلاح أنفسنا. يجب إصلاح نموذج الاستهلاك في المجتمع والبلاد. نموذجنا للاستهلاك نموذج خاطئ. كيف نأكل؟ وماذا نأكل؟ وماذا نلبس؟ نضع في جيوبنا هاتفًا جوالًا، وبمجرّد أن ينـزل للأسواق طراز أحدث نرمي جهازنا جانبًا، ونشتري النسخة الأحدث، لماذا؟! أيّة نزوة هذه التي أُصبنا بها؟!

6 ــ إسراف يتعلق بمسؤولي البلاد
ليس الإسراف في المجالات الفرديّة فقط، فهناك إسراف على المستوى الوطني. فيما يخصّ الكهرباء والطاقة التي قلنا أنّهما يُبذران؛ هناك شطر كبير من هذا التبذير لا يتعلّق بالناس، وإنّما بمسؤولي البلاد. حينما تهترئ شبكات الاتصالات، وشبكات نقل الكهرباء، وأسلاك الكهرباء فسوف تُهدر الكهرباء. ننتج الكهرباء ثم نهدر قسمًا كبيرًا منه في هذه الشبكة القديمة التالفة. وشبكات نقل المياه كذلك، إذا تهرّأت فسوف تهدر المياه. هذه نماذج للإسراف الوطني وعلى المستوى الوطني، والمسؤولون عنه هم مدراء البلاد. وقد يحصل الإسراف على مستوى المؤسسات. مدراء المؤسسات المختلفة لا يستهلكون استهلاكًا شخصيًّا، ولكن يحصل استهلاك منفلت وغير منضبط في مؤسساتهم؛ الترف والفخفخة في الإدارة، وغرف العمل، والزينة، والأسفار والزيارات غير الضرورية، وأنواع الأثاث.. ينبغي الحيلولة دون هذه الظواهر عبر المراقبة والإشراف. ينبغي النظر إلى الإسراف على أنّه عيب10، سواء كان على مستوى الدولة أم على مستوى أبناء الشعب، أم على مستوى المؤسسات. وكما ذكرنا، فإنّ هذه الأمور لا تتحقّق بمجرّد الكلام، بل ينبغي البرمجة لها. والسلطتان التشريعيّة والتنفيذيّة مكلّفتان بمتابعة الأمر. يجب عليهما البرمجة والتقنين لذلك، ويجب تنفيذ القانون بكلّ حسم، وإنّ التقدّم الذي سنحرزه خلال الأعوام العشرة القادمة، يرتبط جزءٌ كبيرٌ منه بهذه القضيّة.

الاقتصاد المطلوب
هذا هو الاقتصاد المطلوب واللازم؛ ابتداءً من الإنتاج، إلى الاستهلاك، وإلى إعادة الاستهلاك. لنقتصد في الماء، أي، نصون سدودنا، ونصلح شبكات نقل المياه، ونؤهِّل الفلاحين لإتقان الأساليب الاقتصاديّة في الرّي، وكيفيّة سقاية الأراضي. طبعًا، تمّ إنجاز هذه الأعمال بنسبة كبيرة خلال الأعوام الماضية لحسن الحظ، لكن هذا لا يكفي ويجب توسعته. لنمهّد الأرضيّة لخفض معدّلات استهلاك المياه في المنازل. أن يقال: يجب استيفاء ضرائب أكبر، وتقديم دعم أقلّ لأصحاب الاستهلاك العالي، فهذا كلام معقول وجيّد. وأن يتمتّع أصحاب الاستهلاك القليل بمساعدات الحكومة والمساعدات العامة. البعض يستهلك الماء بنسبة قليلة جدًّا، بحيث لو لم تقبض الحكومة منهم رسوم الماء، لما كان في ذلك أيّ ضير. والبعض يستهلك عشرة أضعاف أو عشرين ضعفًا ممّا يستهلك هؤلاء، ولا بدّ أن يسدّد هؤلاء فواتير أكبر.

أمّا بخصوص الخبز، فمن الضروري إنتاج القمح الجيّد، والدقيق الجيّد، وحفظه بطريقة جيّدة، وطحنه بطريقة جيّدة، ومن ثمّ استهلاكه بطريقة صحيحة.

كان هذا ما يتعلّق بقضيّة الإسراف والاقتصاد التي كان ينبغي الحديث عنها.
 


1- عقد التقدم والعدالة: منظومة مشاريع وقوانين وبرامج: اقتصادية، وعلمية، واجتماعية، سيتم العمل عليها مدة عشر سنوات. تقوم الحكومة –بالتعاون والمواكبة التشريعية القانونية من المجلس (التشريعي)- بإعداد هذه الخطط والعمل على تطبيقها في مختلف ساحات عمل مؤسسات النظام والدولة. تراعي بالدرجة الأولى: البناء العلمي (تقوية القدرات العلميّة والابتكارات التقنيّة وما يتعلّق بالصناعة والعلوم المنتجة للعناصر الصناعية والتقنية) وحسن توزيع الفرص والإمكانات (رعاية العدالة في تهيئة فرص العلم والعمل والاستفادة من الإنتاج وتوزيع الثروات و.. سواء على المستوى المناطقي أم على المستوى الاجتماعي).
والعقد الرابع هو العشر سنوات الرابعة من عمر الثورة والنظام الاسلامي في ايران. وقد جُعلت مقولة "التقدّم والعدالة" عنوانًا عريضًا لمختلف نشاطات الدولة ومؤسساتها، وخاصة على المستوى العلمي والتربوي والاجتماعي والاقتصادي..
2- الجادّين في طلب العلم.
3- المادة 44: فقرة في دستور الجمهوريّة الإسلاميّة تحدّد السياسات الاقتصاديّة؛ وقد طلب الإمام الخامنئي قبل سنتين العمل على هذه المادّة وتحديد هذه السياسات وشرحها والعمل على وضع المشاريع والخطط وفقًا لها؛ وهذا ما تمّ، حيث وضعت البرامج والمشاريع وهي في طور التنفيذ.
4- توجيه الدعم: وهو برنامج بدأت حكومة الرئيس أحمدي نجاد تطبيقه؛ قوامه رفع الدعم الحكومي عن السلع والخدمات الأساسيّة واستثماره في برامج ومشاريع تعود بالفائدة على عموم الناس وخاصّة على الطبقات المحتاجة والفقيرة.
5- بتعبير القائد: وحيازة بعضهم على آلاف الألوف.
6- المقصود بالاقتصاد هنا (تدبير استهلاكي) أي ما يتعلّق بكيفيّة الاستهلاك وشؤونه لجهة الحدّ من التبذير والإسراف والأعمال غير المنتجة.. حسب سياق الحديث.
7- سورة الأعراف، الآية 31
8- الآية نفسها.
9- سورة الأنعام، الآية 41.
10- أي بنحو سلبي ومستقبح

2017-02-24