يتم التحميل...

عضُد المؤمن وتاج المكارم (الحلم - العفو)

الأخلاق والثقافة الإسلامية

رُوي عن الامام الرضا عليه السلام، قال لرجل من القمّيين: "اتّقوا الله، وعليكم بالصمت والصبر والحلم، فإنّه لا يكون الرجل عابداً حتى يكون حليماً".

عدد الزوار: 331

رُوي عن الامام الرضا عليه السلام، قال لرجل من القمّيين: "اتّقوا الله، وعليكم بالصمت والصبر والحلم، فإنّه لا يكون الرجل عابداً حتى يكون حليماً".

مدخل
الحلم من أشرف السّجايا وأعزّ الخصال الأخلاقية، ودليل على سموّ النفس، وكرم الأخلاق، وسبب للمودة والألفة بين الناس وفي المجتمع، لأنّ صاحب هذا الخلق يعيش السلام دائماً مع نفسه ومع الآخرين. والحلم هو اعتدال القوة الغضبية عند الإنسان وطمأنينة النفس بحيث لا يحرّكها الغضب بسهولة ودون مبرر، ولا يزعجها المكروه بسرعة. فالحليم إذا وقع في شيءٍ على خلاف ما تميل إليه نفسه، أو وصل إليه مكروهٌ أو أمر غير مناسب، فإنّه لا يخرج عن طوره، ولا يغضب، بل يكظم غيظه ويواجه الواقع بهدوء ورويّة وحكمة.

حقيقة الحلم
الحِلم هو عبارةٌ عن التأنِّي وكظم الغيظ وضبط النفس بحيث لا تحرِّك قوة الغضب الشخص بسهولة، ولاتؤدِّي به مكاره الدّهر إلى الاضطراب، وقيل: الحِلم هو ضبط النفس عند هيجان الغضب فيكسر شوكة الغضب من غير ذلّ، وهو صفة تحمل صاحبها على ترك الانتقام ممّن أغضبه مع قدرته على ذلك.

وكظم الغيظ هو عبارة عن إخفاء الغضب وحفظه. وكلاهما ـ الحِلم وكظم الغيظ ـ من الأخلاق الحسنة.

ويكفي الحِلم مدحاً أنّه ورد في معظم الأحاديث مقروناً بالعلم عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده، ما جمع شيءٌ إلى شيء أفضل من حلم إلى علم"1. وقيل: الحِلم مِلح الأخلاق، فكما أنّ كلّ طعام لا يُعرف طعمه إلا بالملح، كذلك لا يجمل الخُلق إلا بالحِلم. والحلم مقلوب الملح. والحلم هو نور جوهرهُ العقل، و تمام العقل، ونظام أمر المؤمن، وجمال الرجل.

فضيلة الحلم في الكتاب والسنة
مدح الله الحلماء والكاظمين الغيظ وأثنى عليهم في محكم كتابه الكريم، فقال عزّ وجلّ: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامً2.

وقال عزّ اسمه: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ3.

وقال عزّ وجلّ: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ4.

وعن الإمام الباقر عليه السلام، قال: "إنّ الله عزّ وجلّ يحبّ الحيِي الحليم"5.

عن الإمام الرضا عليه السلام، قال: "لا يكون الرجل عابداً حتى يكون حليماً، وإنّ الرجل كان إذا تعبّد في بني إسرائيل لم يعدّ عابداً حتى يصمت قبل ذلك عشر سنين"6.

عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "إذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان، فيقولان للسفيه منهما: قلت وقلت وأَنت أَهل لما قلت، ستُجزى بما قلت، ويقولان للحليم منهما: صبرت وحلمت سيغفر الله لك إن أَتممت ذلك"، قال: "فإن ردَّ الحليم عليه، ارتفع الملكان"7.

سأل أحدهم الإمام الحسن العسكري عليه السلام عن الحلم، فقال: "هو أَن تملك نفسك وتكظم غيظك، ولا يكون ذلك إلا مع القدرة"8.

مخاطر ترك الحلم
ما دام الإنسان يعيش في هذه الدنيا فإنّ الأحداث المستجدّة والأمور المفاجئة والمواقف غير المتوقّعة قد تطلّ برأسها في كلّ لحظة لتعكّر صفوه وتنغّص عيشه، فإذا لم يكن ذا حلم وسعة صدر في تحمّل الصعاب ومواجهة المشاكل، فسرعان ما قد تشتعل نار قوة الغضب في صدره، والتي إذا ما خرجت عن حدّ اعتدالها ومالت إلى حد الإفراط ربما أدّت بصاحبها إلى هلاك نفسه، أو فساد دينه وخراب دنياه، حيث يمكن أن توقعه والعياذ بالله في الطغيان والظلم، وهتك النواميس، وقتل النفوس المحترمة، فعن الإمام الباقر عليه السلام، قال: "أيّ شي‏ء أشدّ من الغضب؟ إنّ الرجل يغضب فيقتل النفس التي حرّم الله ويقذف المحصنة"9. كما يمكن أن تؤدّي إلى ضياع العقل، كما قال الإمام الصادق عليه السلام: "من لم يملك غضبه لم يملك عقله"10، وإلى إطفاء نور الإيمان، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخلّ العسل"11. فقوّة الغضب تفوق سائر القوى خطراً، لأنّها قد تؤدّي في لحظات قليلة إلى الكثير من المفاسد والشرور، وقد تخرج الإنسان في دقائق معدودة من هذا الوجود كلّه، وتحرمه من سعادة الدنيا والآخرة. لذا، على الإنسان المؤمن الحريص على دنياه وآخرته أن يتحلّى بملكة الحلم لكي لا يصبح أسيراً لآفة الغضب المهلكة، ولكي يتمكّن من مواجهة مخاطرها المحدقة. فإذا سعى الإنسان في حركاته وسكناته إلى العمل بهدوء وسكينة، وضبط نفسه وكظم غيظه مدّة وتكلّف الحلم وحمل نفسه على التصرّف كذوي الحلم، فإنّ ذلك يفضي به لا محالة إلى الحلم. وإذا واظب على هذا الأمر مواظبة كاملة لمدّة معيّنة وراقب نفسه مراقبة صحيحة، فسيتحوّل هذا الذي يتكلّفه إلى أمرٍ عادي بالنسبة إلى النفس وسيحصل على النتيجة المطلوبة، كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "إن لم تكن حليماً فتحلَّمْ، فإنّه قلّ من تشبّهَ بقوم إلا أوشك أن يكون منهم"12. وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "إذا لم تكن حليماً فتحلّم"13.

العفو تاج المكارم
من أعظم الكمالات الإنسانية والفضائل الأخلاقية أن يتجاوز الإنسان عن الأشخاص الذين أساؤوا إليه. فصفة العفو من الصفات الجمالية للحقّ تعالى والاتّصاف بها تشبّهٌ بالحقّ عزّ وجلّ. والإسلام أكّد كثيراً على هذه الفضيلة، لأنها سببٌ رئيسيٌّ في بناء الفرد المعنوي وتكامله الإيماني، وعاملٌ رئيسي في استقرار المجتمع وثباته، وركنٌ من أركان الإصلاح وحسن التعايش بين الناس، وذهاب الضغينة والحقد فيما بينهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تعافوا تسقط الضغائن بينكم"14. لذا، صار تاج المكارم كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "العفو تاج المكارم"15، لأنّ جذور الصّفح والعفو إنّما ترتوي من ترك حبّ الدنيا والنفس، كما إنّ جذور الانتقام والغضب ترتوي من حبّ الدنيا والنفس والتعلّق بالشهوات والمآرب الدنيوية، التي هي أسس كلّ المفاسد والشرور. إذاً، العفو من أهمّ صفات أهل الآخرة الذين طلّقوا الدنيا والتي لم تعد تعني لهم سوى فرصةٍ للتزوّد، وساحةٍ للطاعة والعبودية. لذا، تجدهم يتمسّكون بالعفو فكراً وعملاً، لأنّ فيه رضا محبوبهم الأوحد، ولأنّهم يعرفون أن حقيقة العفو هي العزّة في الدنيا والآخرة كما في الحديث: "من عفا عن مظلمة، أبدله الله بها عزّاً في الدنيا والآخرة"16.

فضيلة العفو في الكتاب والسنّة
قال تعالى: ﴿وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ17.

﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ18.

﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ19.

وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته: أَلا أخبركم بخير خلائقِ الدنيا والآخرة؟ العفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك"20.

وعن الإمام الباقر عليه السلام، قال: "الندامة على العفو أَفضل وأَيسر من الندامة على العقوبة"21.

وعن أَمير المؤمنين عليه السلام أَنّه قال: "إذا قدرت على عدوّك، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه"22.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّا أَهل بيت، مروءتنا العفو عمّن ظلمنا"23.

العفو الجميل وموارده
صحيحٌ أنّ العفو جميل، ولكن ليس في كلّ الموارد والشؤون، بل هناك حالات يكون العفو فيها قبيحاً ولا يُعدّ من الفضائل. فالعفو إذا كان عنصراً مساعداً على الإصلاح والبناء، ومعيناً على خطّ الاستقامة ولا يلزم منه الضرر فهو مطلوبٌ ومرغوب. وأمّا إذا كان يشكّل عنصراً مساعداً على الانحراف وتشجيعاً على تكرار الاعتداء وانتهاك الحقوق ويؤدّي إلى الضرر، فهو في مثل هذه المواطن قبيحٌ وغير مرغوب. فقد رُوي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "جازِ بالحسنة وتجاوز عن السيئة ما لم يكن ثلماً في الدين أو وهناً في سلطان الإسلام"24، وعن الإمام السجاد عليه السلام: "حقّ من أساءك أن تعفو عنه، وإن علمت أنّ العفو عنه يضرّ انتصرت، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ25"26.. والعفو الجميل والممدوح هو العفو مع القدرة، أي حينما يكون بمقدور الإنسان أن يأخذ حقّه من المعتدي بحيث كانت الظروف ملائمة والشروط متوفّرة لكنّه آثر أن يعفو عنه رجاء عفو الله عنه ورغبةً في ثوابه والنجاة من عقابه. وقد حثّت الروايات عليه كثيراً، حيث رُوي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "أحسن العفو ما كان عن قدرة"27، وقال عليه السلام أيضاً: "العفو مع القدرة جُنّة من عذاب الله سبحانه"28.

* كتاب أنوار الحياة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.



1- الطبرسي، مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، ص218.
2- سورة الفرقان، الآية 63.
3- سورة فصّلت، الآية 34.
4- سورة آل عمران، الآية 134.
5- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 112.
6- م.ن، ج 2، ص 111.
7- م.ن، ج 2، ص 112.
8- الميرزا النوري، مستدرك‏ الوسائل، ج 11، ص 291.
9- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 70، ص 274.
10- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 305.
11- م.ن، ج 2، ص 302.
12- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 506.
13- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 112.
14- الهيثمي، مجمع الزوائد، بيروت - لبنان، دار الكتب العلمية، 1408هـ - 1988م، لا.ط، ج 8، ص 82.
15- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 19.
16- الشيخ الطوسي، الأمالي، ص 182.
17- سورة البقرة، الآية 237.
18- سورة النور، الآية 22.
19- سورة الشورى، الآية 40.
20- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 107.
21- م.ن، ج2، ص 108.
22- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 470.
23- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 12، ص 174.
24- التميمي الآمدي، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، ص 245.
25- سورة الشورى، الآية 41.
26- الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، ‏الخصال‏، تحقيق وتصحيح علي أكبر غفاري، قم‏، إيران، نشر جماعة المدرسين‏، 1403هـ.، ط 1، ج2، ص 570.
27- التميمي الآمدي، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، ص 246.
28- م.ن، ص 342.

2017-02-23