يتم التحميل...

كلمة الإمام الخامنئي في طلبة جامعة فردوسي

2007

نموذجنا للتقدم: يوفر أسباب الحياة الطيبة للإنسان دون أن يفقده هويته الإنسانية

عدد الزوار: 244

كلمة الإمام الخامنئي في طلبة جامعة فردوسي بمناسبة زيارته مدينة مشهد المقدسة.الزمان: 25/2/1386هـ. ش ـ 27/4/1428هـ.ق ـ 15/5/2007م.
نموذجنا للتقدم: يوفر أسباب الحياة الطيبة للإنسان دون أن يفقده هويته الإنسانية

بسم الله الرحمن الرحيم

حوارات حارة ومثيرة مع طلبة جامعة فردوسي في الخمسينيات
إنها لمشاعر جيّاشة بالغبطة والجاذبية أن أكون وسط هذا التجمّع من الطلبة في هذه المدينة وفي جامعة فردوسي, حيث أستعيد ذكريات تلك السنوات البعيدة واللقاءات الحارّة والمثيرة والخطيرة مع طلبة نفس هذه الجامعة.

إنّ خمسة وثلاثين عاماً تفصل بين طلبة هذه الجامعة في الوقت الحاضر وطلبتها في مستهل الخمسينيات من هذا القرن الهجري الشمسي ـ وهو ما سوف أشير اليه ـ لكنّ التيار الطلابي يظل دائماً أشبه بالساحل العذب وأشبه بالنهر.

إنّ الوسائل التي تقطع النهر قد تختلف من لحظة إلى أخرى, إلاّ أنّ التيار يبقى نفس التيار. فعندما تقفون أمام نهر (كارون) أو نهر (زاينده رود) فإنكم تشعرون أنّ النهر هو نفس النهر الذي شاهدتموه في العام السابق.

وإنني عندما أنظر في وجوهكم ـ أيها الطلبة الشباب الأعزاء ـ فإنني أتذكّر مسجد (كرامت) ومسجد (الإمام الحسن المجتبى) وكأنكم مازلتم تجلسون هناك قبل خمسة وثلاثين عاماً تتلقّون دروس التفسير والقرآن وشرح نهج البلاغة ومبادئ النهضة الإسلامية وتتدارسون العلم.

لقد كنّا معاً عُرضة للعواقب وتلقّي الضربات, فالسلطة الطاغوتية المتجبرة لم تكن تتحمل آنذاك أن يجلس طالب حوزوي بين جمع من الطلبة الجامعيين ويتحدّث معهم حول الدين في تجمّع حاشد ينبض بالدفء والحرارة .

إنّ هذه التجمعات الحاشدة التي تشاهدونها الآن لم يكن لها حظٌ من الظهور قبل الثورة في أي مكان وبأي شكل من الأشكال, إلاّ أنّ ذلك الحشد المتدفّق على مسجد (الإمام الحسن) أو مسجد (كرامت) حيث كنتُ ألقي هناك دروساً في التفسير لم يكن له نظير إذ ما قورن بما كان يُعقد من لقاءات واجتماعات في تلك الأيام. وها أنتم الآن تجسّدون أمامي تلكم الذكريات.

ولكنّي في البداية أريد التحدّث قليلاً حول ما تفضّل به هؤلاء الطلبة الأعزاء من مواضيع: إنني أوافق على كل ما قالوه بنحوٍ من الأنحاء, بما في ذلك ما أثاروه من اقتراحات وأفكار جديدة, فإن ما يقدح من ومضات في أذهان شبابنا الجامعيين يمثّل قيمة كبرى بالنسبة لنا.

لقد تمّ تسجيل أحاديثهم, وسنعكف على دراستها إن شاء الله.

إننا سوف ننفّذ كل ما يتعلّق بنا وسنُولِيه العناية الفائقة بشكل مباشر, وأما ما يتعلق بالأجهزة المعنية فسوف يكون مشفوعاً بالتوصية والاهتمام.

إنّ أعزاءنا الجامعيين ينظّرون دائماً لأفكارهم, فَهُم يطرحون علينا ما لديهم من أفكار جديدة ونيّرة, وإن كانت عادةً مصحوبة ببعض اللوم والشكوى والعتاب, ولا غضاضة في ذلك, فقلوب الشباب الرقيقة لا تتميّز بالقوة والصلابة إزاء العيوب والنواقص كقلوبنا نحن الكبار, وسرعان ما يشعرون بالتأثّر. وكما قال الشاعر:

إنّ قلبي يرتجف من لا شيء كقلب الحبيب
وصبري متعلق بشعرة كما النغمة بالوتر

إتجاهان خاطئان حول مفهوم التطور
إنّ حديثي اليوم يدور حول ضرورة إعادة التعرّف على نموذج التنمية والتطور. إننا نريد أن نتقدم, فما هو النموذج؟ إنه لابدّ من التفكير من جديد في هذا النموذج.

لقد تحدّثت حول التحوّل في لقائي الأخير مع طلبة جامعة سمنان منذ بضعة شهور, فقلت: إنّ التحوّل سُنّة إلهية في حياة البشر, فلا داعي لمواجهته, بل علينا أن نُرحّب به ونُديره إدارة جيدة؛ حتى يحدث التطور, ومن ثم يتقدم المجتمع.

كما قلت في ذلك اللقاء: إنّ على الجامعيين والحوزويين من أساتذة وطلاب أن يسيروا على هذا النهج الفكري, ولكني سأعطي الآن المزيد من التوضيحات حتى نخلص إلى النتيجة.

إنّ الانجازات الكبرى تبدأ من الفكر الخلاّق, وهذا الفكر ليس بالعمل الذي يتمّ خلف الأبواب المغلقة أو ينجم عن فراغ, بل لابد أن تتلاقح الأفكار على اختلاف مشاربها؛ حتى ينتج عنها إنجاز عملي ومنطقي, إذاً فلبّ الكلام فيما أريد أن أحدّثكم به اليوم هو: أن نعيد التعرّف من جديد على معنى التنمية والتطور في بلدنا ومجتمعنا وأن نحدد ما هو نموذج التطور.

أ ــ إتجاه يتخذ من شعار التطور قناعا لاستبداده وطغيانه
1ــ الطاغوت والتطور: خراب وفساد تحت شعار التقدم
إنّ ثمة اتّجاهين خاطئين دائماً حول مفهوم التطور وحول التحوّل الذي يؤدي إلى التطور, فالاتجاه الأول: يتمثلّ فيما ارتكب من خيانات تحت شعار التقدم والتحوّل, وتلك اللطمات التي لحقت بشعبنا باسم الخدمة وتحت لواء الإصلاح.

إنّ العديد من أفراد السلطة والبلاط القاجاري والأمراء القاجاريين كانوا وراء ارتباط بلادنا وثقافتنا بالغرب عن غير علم, زاعمين أنّ هذا هو التقدم وهذا هو التغيير, مع أنهم كانوا أميّين ولاهثين خلف أطماعهم الدنيوية, كما كانوا في الوقت ذاته عملاء للمحافل الغربية! ففي أحداث المشروطة كان النهج البريطاني يتحدّث حول الترقّي وكان يرفع شعار التنمية والتقدم, وهم الذين أقدموا على تصفية زعماء المشروطة, فأعدموا الشيخ فضل الله شنقاً, واغتالوا المرحوم آية الله البهبهاني, وقتلوا ستار خان, وباقر خان بصورة غير مباشرة, وقاموا بنزع السلاح, وعرّضوا قادة المشروطة المخلصين لشتّى أنواع الضغوط , وفرضوا سيطرتهم على الشعب بإسم المشروطة, وكل هذا تحت شعار الرُقي والتقدم ! فلقد كانوا يصيحون: التقدم, التغيير! فارتكبوا العديد من الخيانات العظمى بإسم هذا الشعار.

لقد جاء رضا خان إلى سدّة الحكم بإسم الترقّي والإصلاح. فدبّر انقلاباً, وشكّل حكومة انقلابية, ثم تلبّس بتلك الديكتاتورية السوداء المنقطعة النظير, وكل ذلك بإسم التقدم وتحت شعار الرُقي والتنمية.

وأما ابنه محمد رضا الذي ورث السلطة عن أبيه, ثم عن طريق انقلاب مدبّر في شهر مرداد عام 1332هـ .ش فقد كان يزعم أنه جاء على رأس حركة إصلاحية, وهو الذي جرّ كل تلك الويلات والكوارث على البلاد. إذاً فقد كانت هذه هي طبيعة الضربة التي وجّهوها لهذه البلاد وهذا الشعب.

2 ــ قوى الإستكبار والتطور: حروب وانقلابات ودمار تحت شعار التقدم
إنّ الأمور تصير بنفس هذا النسق على المستوى الدولي. لقد استعمروا الشعوب تحت ذريعة إلحاقها بركب التقدم, وهو ما يعدّ وصمة عار في جبين التاريخ البشري على مدى القرنين الماضيين.

إنّ الاستعمار يعني إعادة العمران والبناء, ومع ذلك فإن البريطانيين والهولنديين والبرتغاليين والفرنسيين انقضّوا على مختلف البلدان في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وقاموا بتصفية سكانها الأصليين عن طريق المذابح الجماعية, ثم استولوا على أراضيهم وممتلكاتهم, وارتكبوا أبشع أنواع اللصوصية والقرصنة والخيانة, وألحقوا بتلك البلدان آلاف الكوارث والفواجع بإسم إعادة البناء والتقدم والاستعمار.

وأما في المراحل التالية التي وُلدت فيها ظاهرة الاستعمار الجديد, فإن الأمور ظلّت تجري على نفس المنوال.

إنّ كافة تلك الاعتداءات وجميع هذه الحروب والصراعات وكل تلك الانقلابات التي دبّرتها أجهزة المخابرات الغربية ـ سواء الأمريكية منها أو البريطانية أو سواها ـ حدثت كلها تحت شعار التجديد والتقدم والتغيير والتنمية.

إنّ بوسعكم الآن النظر إلى ما يحدث في أفغانستان والعراق.

لقد دخل الأمريكيون العراق بزعم أنهم جاءوا للعراقيين بحياة جديدة وأنهم سيمنحون الشعب العراقي الحرية والديمقراطية والتطور, والآن يشاهد العالم بأجمعه ما يحدث في العراق! فربما لم يتعرّض الشعب العراقي لمحنة كالتي يتعرّض لها الآن على أيدي الأمريكيين خلال تاريخ الحكومات الانقلابية في العراق, والتي كان آخرها حكومة صدام.

إنهم يحتقرون الشعب العراقي برجاله ونسائه, ويقوم الجندي الأمريكي بوضع حذاءه على رقبة الشاب العراقي, فلماذا؟ لأنه كان يعبر الشارع فأثار في نفوسهم الريبة والشك, فطرحوه أرضاً ومرّغوا أنفه في التراب أمام عيون زوجته وأبنائه.

أو أنهم يقومون بضرب رجل على مرأى ومسمع من كبير العائلة, ثم يقوم رجالهم بتفتيش النساء وربّات البيوت في المواضع الحساسة بإسم التقدم والتنمية وإنقاذ الشعب العراقي, وهكذا هو الحال في أفغانستان.

إذاً فقد حدث استغلال خاطئ لمصطلح التنمية على مدار التاريخ, وفي زماننا هذا, وفي شتى بقاع العالم, وحتى في بلادنا هذه.

ب ــ إتجاه يقاوم التغيير والتحديث
ومن ناحية أخرى فقد كان هناك وما يزال من يعارض التغيير والتحديث بكافة أشكاله, زاعمين أنّ هذا الشيء لا أصل له, أو أنه غريب عليهم, أو أنهم يجهلونه, أو أنهم يشكّون فيه, ويذهبون إلى تفسير حديث ( شرّ الأمور محدثاتها) بصورة خاطئة.
إنهم يعارضون التقدم مع أنه سنّة تاريخية وسُنّة طبيعية ولا معنى للحياة بدونه. فهذان اتّجاهان متضادان.

تحولات عظيمة شهدتها البلاد منذ فجر الثورة
وعلى هذا فلا بد لنا أن نفهم التغيير والتطوير جيدا؛ حتى لا يكون هناك استغلال مُسِيء ولا معارضة ومخالفة. ولا يعني هذا أننا نريد البدء توّاً في حركة الإصلاح والتغيير, فعلينا أن نبحث عن نموذج للتطور. كلا, فعجلة التقدم في بلادنا دارت مع بزوغ فجر الثورة والنهضة الثورية.

لقد كان هناك مجتمع جامد الحركة, يعيش تحت الضغوط, مع قمع للطاقات الكامنة في نفوس أبناء شعبنا, فتغيّر كل هذا مع انطلاق الحركة الثورية.

وفضلاً عن أنّ تأسيس وقيام نظام الجمهورية الإسلامية في إيران يعدّ في حدّ ذاته تحوّلاً كبيراً, فإنه قد تمّ إسقاط تلك الحكومة الوراثية الانقلابية الفاسدة التي تُدين بالعمالة للأجنبي, وتمّ استبدالها بحكومة شعبية. وهذا من التحوّلات المدهشة والعظيمة التي لا نظير لها ولا مثيل. وما تشاهدونه الآن ـ هنا ـ لا يدانيه مشهد آخر في كافة أنحاء العالم.

إنّ المسؤولين في بلدنا يتناقشون ساعات وساعات مع طلبة الجامعات وجهاً لوجه وبكل صدق وشفافية, كما أنّ رئيس الجمهورية يحظى بالاستقبال الحافل والحار من قِبَل أهالي المناطق القريبة والنائية التي يقوم بزيارتها, ويتحدّث مع الجماهير من دون حجب, وكذلك الحال في الحملات الانتخابية حيث تشتدّ المنافسة بين المرشّحين, ثم ما تلبث الأمور أن تعود إلى نصابها في نهاية الانتخابات أيّاً كان الفائز أو غير الفائز بأصوات الناخبين.

إنّ الشعبية في بلادنا لا تعني مجرد الانتخابات الشعبية, بل إنها لا تعني أيضا الصلة الشعبية الوثيقة بين المواطنين, وهو ما يتجسّد في التعاطي وتبادل وجهات النظر والعلاقة العاطفية الحميمة والعميقة بين المسؤولين والجماهير.

إنّ المسؤولين المخلصين ـ بما للكلمة من معنى ـ يحبّون المواطنين, كما أنّ قلوب المواطنين تهفوا إليهم.

لقد أحرزنا تطوراً مدهشاً في المجالات العلمية والاجتماعية والسياسية والدولية والاقتصادية والعمرانية.

إنكم أيها الطلبة والشباب الأعزاء لا تملكون الآن نسخة ـ عن تاريخ إيران ـ الماضي بين يديكم حتى تستطيعوا مقارنتها بالحاضر.

إنكم الآن تقارنون بين بلدكم وبلد متقدم آخر قطع نحو مئتي عام من الخبرة والتقدم والنهضة العلمية والبحثية فتجدون أنّ بلدكم يعاني من التأخير.

نعم, هذا صحيح, سوى أنّ هذه المقارنة ليست مقارنة علمية, إنّ الصحيح هو أن تقارنوا حاضر بلدكم بماضيه, أو أن تقارنوا بين بلدكم ونظرائه من البلدان المجاورة.

إنّ الإحصائيات الدولية تقول: إنّ التطور العلمي في إيران بات يحتل الدرجة الأولى أو من الدرجات المتقدمة على الصعيد العالمي.

ومع ذلك فما زلنا متخلّفين رغم هذا التطور السريع, وأما ما حدث فقد كان تقدّماً على كافة الأصعدة.

إنّ لكم أن تعاينوا نموذجاً لذلك في هذا الوسط الطلابي الذي تنتمون أنتم إليه.

لقد تضاعفت نسبة السكان في إيران بعد الثورة, ولكن نسبة الطلبة الجامعيين بلغت عشرة أضعاف, وربما ارتفع عدد الجامعات والمعاهد العليا إلى أكثر من عشرة أضعاف, لقد كنّا نستورد أبسط الأدوات من الخارج في الماضي, وأما الآن فبمقدورنا تصنيع أعقد الأدوات والوسائل الفنية والتقنية بأيدينا.

إنه تقدّم يذهب بالعقول, ويبهر الألباب, وهو ما يعترف به الآخرون وما سوف نوضّحه إذا ما سنحت الفرصة إن شاء الله.

التطور الذي نصبو إليه
وعلى أية حال فإن حديثنا حول نموذج التطور لا يعني أننا لم نبدأ حركة التغيير, بل إنّ ركب التقدم انطلق مع انطلاقة الثورة.

ولكن ما نهدف إليه هو أن نتعامل مع مصطلح التغيير بدقّة وشفافية مطلقة؛ حتى يقف الجميع من الصفوة، إلى الأطياف الشعبية الأخرى على حقيقة ما نصبوا إليه, وحتى تعرف الأجهزة المختلفة في الحكومة ما ينبغي عليها القيام به.

إنّ هذا هو ما نبحث عنه ومع ذلك فإنني لا أريد أن أقدّم ـ هنا ـ الآن نموذج التقدم المطلوب, بل إنني أودّ الإشارة إلى ضرورة ذلك.

أ ــ ضرورة البحث في النموذج المطلوب
إنّ ابتكار النموذج والشكل هو من شأنكم أنتم, أي من شأن النخبة, فعليكم البحث عنه في الدراسات الجامعية, ثم عليكم أن تحددوه لنا بما يتناسب مع هذا البلد الإسلامي بجغرافيته وتاريخه وسكانه وإمكانياته وطموحاته, وعلى أساس ذلك تمضي النهضة الشعبية قُدُماً نحو التغيير والتطوير في شتى المجالات.

ولكن.. ما هو السبب في توضيح ضرورة القيام بهذا العمل؟ إنّ الأمر في غاية البساطة. فالسبب هو أنّ نموذج التطور الآن في نظر الكثير من رجال النخبة ومن المسؤولين في بلادنا هو النموذج الغربي البحت, فالتنمية والتقدم لابد وأن يكونا طِبقاً للنماذج التي رسمها لنا الغرب دون التزحزح عنها قِيد أنملة.

إنّ هذا هو ما يراه المسؤولين اليوم, وهو تصوّر خطير وخاطئ في الوقت ذاته.

إنّ الغربيين يمتازون بالحنكة في الدعاية والإعلام, حيث اكتسبوا خبرة ومهارة فائقة في هذا المجال على طول نحو مئتي عام مارسوا فيها مهنة الدعاية حتى احترفوها وأتقنوها, وبهذا تمكّنوا من إقناع الكثيرين أنّ التنمية تعني الغرب والتغريب. فأي بلد يرغب أن يُحسب في عِداد البلدان النامية لابد وأن يلتزم بالنموذج الغربي! فهذه هي دعاياتهم. وأي بلد يبتعد عن النموذج الغربي فليس بلداً نامياً! وكلما اتّسعت المسافة كلما زاد بُعداً عن مقولة التنمية.

إنّ هذا هو ما يرمون إليه وهو ما ترسّخ في العقول بكل أسف.

لقد مارس الغربيون هذا النوع من الدعاية, وجعلوا الميزان والمعيار نماذجهم الخاصة, ومع ذلك فإنهم لم يُقدّموا العون المنشود للبلدان التي اتجهت نحو التغريب, أي أنهم في الحقيقة لم يكونوا أوفياء على الصعيد العملي.
إنني أقول لكم: إنّ الغربيين ليسوا ولم يكونوا راغبين أبداً أن يلتحق سواهم بالنادي العلمي الغربي.

إنّ الغرب لم يقدّم أية مساعدة للدول الآسيوية المتقدمة ـ كاليابان والصين والهند إلى حدّ ما ـ فالصين كانت تتلقّى الدعم الهائل من الاتحاد السوفييتي أثناء الصراعات المستفحلة بين الكتلتين الشرقية والغربية, أي صراع الشيوعية والرأسمالية, حتى أنّ الروس هم الذين كانوا خلف الصين في امتلاك الطاقة النووية.

إنّ الصين كانت عارية عن كل شيء, فقام الاتحاد السوفييتي بدعمها في إطار مشروعه الطامح إلى تكوين جبهة آسيوية كبرى في مقابل أمريكا وأوروبا, ولأن الصين كانت قد أصبحت شيوعية. وأما الهند فتأتي في الدرجة التالية, أي أنّ الهند كانت تميل إلى اليسار على نطاق التكتلات الشرقية والغربية. ومن هنا أقدم السوفييت ـ أي جبهة اليسار ـ على مساندتها. وأما الأمريكيون فقد قاموا بدعم باكستان على الجهة الأخرى. ويجدر القول: إنّ الباكستانيين لم يكونوا هم المخترعين لمشروعهم النووي, بل إنهم حصلوا عليه من الصين, فغضّت أمريكا البصر وتجاهلت هذه الحقيقة في المعادلات السياسية الإقليمية. وأما اليابان فلم تحقق تقدّمها العلمي بدعم من أمريكا أو الغرب, بل إنّ اليابانيين كانوا ماهرين في النفوذ العلمي ـ فليس من اللائق هنا استخدام مصطلح السرقة ـ وبهذا تمكّنوا من اقتناص العلم دون رضا الغرب. ولأن الشعب الياباني شعب مجتهد ويعمل بجد ودأب فقد استطاع المُضيّ قُدُماً على طريق التطور العلمي دونما مساعدة غربية.

وأما نحن الآن فينبغي لنا أن نفكّ هذا الطلسم. فأيّ طلسم هذا؟ إنه الاعتقاد بأن التطور في بلدنا لابد وأن يكون منوطاً بالنماذج الغربية على وجه الإلزام, وهو ما يمثّل خطراً داهماً على بلادنا.

ب ــ النموذج الغربي حقق القوة والثراء لكنه جر الويلات على البشرية
لقد جاءت النماذج الغربية على مقياسهم هم, أي طِبقاً لظروفهم وأساليبهم الفكرية ومبادئهم الحياتية, ومع ذلك فقد كانت فاشلة. لا شك وأنهم حققوا القوة والثراء, سوى أنهم جرّوا الويلات على البشرية.

إنّ التقدم الغربي هو ذلك التقدم الذي تعاني منه الآن البشرية بأسرها, ولكل من الدول المتخلّفة أو المتقدمة حظها من هذا العناء.

إنه ذلك التقدم وتلك التنمية التي أدّت إلى تحقيق عدد معدود من الجماعات والعوائل الغنية لذلك الثراء الفاحش, في حين أنها أدّت بالشعوب الأخرى إلى المعاناة من الأسر والذل والاستعمار الحروب والحكومات المفروضة وانتشار الأخلاق الفاسدة البعيدة عن المُثُل والقِيَم, كما جعلت تلك البلدان تعاني من شيوع الفحشاء والفساد والانحراف الجنسي والتفكّك الأسري. ولهذا فقد فشل النموذج الغربي.

• التقدم الغربي: إنحدار الأخلاقي وفقر مقيم
إنكم لو قرأتم الأعمال الأدبية الغربية ـ الأدب الفرنسي على سبيل المثال ـ وخصوصاً تلك المؤلفات التي تعود إلى القرنين أو الثلاثة الماضية, ثم قارنتم بين الوضع الأخلاقي لتلك الشعوب آنذاك ووضعها في هذا العصر لوجدتم أنّ ثمّة انحطاطاً أخلاقياً يعمّ المجتمعات الحالية في الغرب بدرجة لا تُصدّق.

إنّ الأوضاع هناك باتت مختلفة. إنّ التطور الحضاري في الغرب جعل تلك البلدان تعاني من وطأة المشاكل الأخلاقية وهوى بها في مستنقع الانحدار الأخلاقي. ومع ذلك فإنه لم يقدّم لهم الكثير على المستوى المادي فالفقر ما زال سائداً.

إنّ عجلة العمل هناك تدور بسرعة لكن الفرد لا يكاد يحصل على ما يكفيه من قوت هو وعائلته. ولذلك فإن التقدم الغربي لم يحالفه التوفيق.

ج ــ النموذج الإسلامي للتقدم
1ــ النموذج الإسلامي يفترق عن "الغربي" في النظرة إلى الإنسان
إنّ علينا البحث عن نموذج إسلامي ـ إيراني للتقدم. فهذه مسألة حياتية بالنسبة لنا. فلماذا النموذج الإسلامي ـ الإيراني؟ لأنه لابد وأن يكون قائماً على المُثُل النظرية والفلسفية الإسلامية ومبادئ الإسلام في معرفة الإنسان.
وأما كونه إيرانياً فلأنه عصارة الفكر والإبداع الإيراني.

إنّ الإسلام تحظى به شعوب أخرى, ولكنّ شعبنا هو القادر على إنتاج هذا النموذج. إذاً فلابد وأن يكون النموذج إسلامياً ـ إيرانيا. وبالطبع فإن الفائدة ستعمّ البلدان الأخرى بلا شك, وكما أنّ شعبنا وبلدنا كان قدوة للعديد من البلدان في الكثير من الأمور الأخرى, فإن هذا النموذج سيكون هو الآخر أسوة لتلك البلدان.

إنّ الذي يجعلنا لا نكتفي بالنموذج الغربي في مشروعنا التقدّمي هو بالدرجة الأولى عائد إلى أنّ ثمّة بوناً شاسعاً بين نظرة المجتمع الغربي والفلسفة الغربية للإنسان ـ على اختلاف مشاربها ـ وبين نظرة الإسلام للإنسان, وهذا التفاوت تفاوت جذري وعميق. ولهذا فإن هناك معنىً آخر في المنطق والفلسفة الغربية للتطور الذي يحرزه الإنسان من أجل الإنسان, خلافاً للمعنى في منطق الإسلام.

2 ــ إنّ التقدم عند الغرب هو التقدم المادي, والملاك هو الربح المادي, فكلما كان الربح المادي أكثر كان التقدم أكبر, فالمعيار هو تضاعف السلطة والثروة المادية.
إنّ هذا هو معنى التقدم الذي يسعى إليه الغرب انطلاقاً من منطقه ونموذجه الغربي, وهو ما يحثّ عليه الجميع.

إنّ التقدم عندما يقوم على أساس مادي فهذا يعني التضحية بالأخلاق والقيم المعنوية, فلربما تقدّمت الشعوب ثم صارت فاقدة لأخلاقها وقيمها المعنوية. وأما في نظر الإسلام فهذا ليس تقدماً. إنّ التقدم المادي لا غبار عليه بشرط أن يكون وسيلة لا غاية, فالغاية هي رفعة وسمو الإنسان.

3 ــ النموذج الإسلامي يحقق للإنسان ما ينفعه دون أن يفقده هويته الإنسانية
إنّ التقدم والتغيير الذي يقود إلى التطور لا بد وأن يكون وفقاً لبرنامج دقيق يستطيع من خلاله الإنسان أن يحقق رفعته وتساميه دون أن يفقد هويته الإنسانية.

والهدف هو النفع للبشرية جمعاء لا لطبقة بعينها أو لإنسان بذاته حتى ولو كان إيرانياً.

إنّ التقدم الذي نعنيه ونريده قائماً على أساس الإسلام والفكر الإسلامي لا يأتي بالنفع على الإنسان الإيراني فحسب, ناهيك عن القول بأنه لا يفيد سوى طبقة خاصة.

إنه تقدم لصالح كل البشرية والإنسانية. إنّ الفارق الأساس هو النظرة للإنسان.

الإنسان في الإسلام: حر مسؤول وخليفة الله في الأرض
وهنا نتمهّل قليلاً، لكي أخوض معكم في حديث حول المعرفة الإسلامية.

إنّ للنظرة للإنسان في الإسلام زاويتين تكمل إحداهما الأخرى. ويمكن لهذه الحقيقة أن تكون قاعدة وأساساً لكافة قضايا بلادنا ولجميع المشاريع التي نودّ القيام بها من أجل غدنا ومستقبلنا. فإحدى هاتين الزاويتين هي تلك التي ينظر الإسلام من خلالها إلى الإنسان على أنه فرد, بما في ذلك أنا أو أنتم أو زيدٌ أو عمرٌ. أي أنّ الإسلام يخاطبه بوصفه مخلوقاً يتمتع بالعقل والإرادة, فيحمّله المسؤولية ويجعل له شأناً وهو ما سوف نشير إليه. وأما الزاوية الأخرى فتتمثل في النظرة للإنسان على أنه كل وأنه جماعة إنسانية. وهما نظرتان منسجمتان وتكمل الواحدة الأخرى.

فالنظرة الأولى وهي التي ينظر لها الإسلام للإنسان كفرد, فانه يخاطبه بصفته فرداً لا جماعة.

فالانسان هنا وكأنه يَعُبر درباً إذا ما استقام في السير عليه فإنه سيؤدي به إلى ساحة الجمال والجلال الإلهي, وسيعرج به إلى الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)1.

وهذا الطريق بإيجاز هو انسلاخ الانسان عن عبودية الذات إلى عبودية الله تعالى, وهذا هو الطريق الصحيح والصراط المستقيم. ومسؤولية الإنسان الفرد في ذلك هو المُضيّ على الطريق.

إنّ هذا الخطاب مُوجّه لكل واحد منّا, وعليه أن يلتزم هو به كفرد سواء التزم الآخرون أو لم يلتزموا, وسواء عمّ الدنيا ظلمات الكفر أو نور الإيمان, فلا فرق, إذ إنّ واجب كل فرد بصفته فرداً هو أن يسير على هذا الطريق (عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)2. فينبغي عليه القيام بهذه الحركة, وهي الخروج من الظلمات إلى النور, أي من ظلمات الأنا إلى نور التوحيد.

فما هو السبيل إلى هذا الطريق؟ إنه أداء الواجبات والإبتعاد عن المحرمات.

إنّ إيمان القلب هو آلة الحركة على هذا الطريق, وإنّ متاعه الملكات والفضائل الأخلاقية. وهي ما تُيسّر عليه عناء السير وتمنحه سرعة الانطلاق.

والتقوى هي الحلم والحذر من الانحراف عن الطريق. وهذا هو واجب الفرد في نظرة الإسلام إلى الإنسان بصفته فرداً.

إنّ واجب الإنسان هو أن يقوم بهذا العمل ويسعى إليه, وهو ما كان مُخاَطباً به دائماً في كل زمان ومكان, سواء أعاش في ظل حكومة الأنبياء أو تحت نيْرِ الطواغيت.

إنّ الإسلام يوصي الإنسان بالزهد في نظرته له باعتباره فرداً. ومعنى الزهد هو عدم الاستغراق في متاع الدنيا وزخارفها, ولكنه في الوقت ذاته يحذّر من الابتعاد عن الدنيا وقطع الصلة بها.

فما هي الدنيا؟ إنها الطبيعة, وهذا الجسد الذي نعيش به, وهذه الحياة التي نحياها, وهذا المجتمع الذي ننتمي إليه, إنها سياستنا, واقتصادنا, وعلاقاتنا الاجتماعية, وأولادنا, وثروتنا, ودارنا.

إنّ الانغماس في هذه الدنيا والتعلّق بها يعدّ صفة مذمومة في هذا الخطاب الفردي. فلا ينبغي الانسياق وراءها. وهذا التجرّد وعدم الانقطاع إلى الدنيا يسمّى زُهداً, ومع ذلك فلا ينبغي تجاهل متاعها وحظّنا منها. فليس من الجائز أن ندير ظهرنا لمتاع الدنيا وزينتها ونِعَمها الإلهية.

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ)3. أي أنه لا يجوز الإعراض عن الدنيا. وهذه من بديهيات الدين ومعارفه الواضحة التي لا تحتاج إلى تفسير.

إنّ هذه هي النظرة الفردية, وفي هذه النظرة يبيح الإسلام للإنسان الفرد الاستفادة من ملذّات الحياة الدنيا ومباهجها, ولكنه يذّكره في الوقت ذاته بلذّة أسمى وأرفع وهي لذّة الأنس بالله وذكر الله عز وجل.

إنّ للإنسان هنا أن يختار سبيله بصفته عاقلاً ومختاراً, وأن يواصل سيره على هذا الصراط. إنّ المخاطب في هذه النظرة هو الإنسان الفرد, والهدف من هذه الحركة وهذا الكدح هو استقامة الإنسان على الطريق, فإذا ما التزم بهذه القاعدة واتّبع هذا النهج فسيغدو مستقيماً وصادقاً. وهذه هي النظرة الأولى.

وأما الثانية: وهي النظرة العامة أو الجماعية, فإنها تقدّم نفس ذلك الإنسان المخاطب بالخطاب الفردي على أنه خليفة الله في الأرض, وتُلقي على كاهله مسؤولية أخرى وهي إعمار الدنيا وإدارتها.

إنّ عليه أن يعمّر هذه الدنيا, (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)4. فما معنى إعمار الدنيا؟ إنه الكشف عن النعم التي لا تحصى, والهِبات التي لا تعدّ, تلك التي منحها الله لهذه الطبيعة واستخدامها من أجل رفاهية البشرية وتقدّمها.

لقد أودع الله تعالى هذه الأرض وما حولها إمكانيات هائلة, وعلى الإنسان اكتشافها واستخراجها.

إنّ الإنسان قديماً لم يكن يعرف النار مع أنها كانت موجودة, ولم يكن يعرف الكهرباء مع أنها كانت كامنة في الطبيعة, ولم يكن يعرف الجاذبية ولا الطاقة البخارية مع وجودها في الطبيعة. واليوم مازالت هناك طاقات وقوى لا تعدّ ولا تحصى كامنة في هذه الطبيعة وعلى الإنسان العمل على اكتشافها. إنّ هذه هي مسؤولية الإنسان بصفته خليفة, وهي من لوازم الخلافة الإنسانية.

ونفس هذا الموضوع ينطبق على الإنسان ذاته, أي أنّ على الإنسان في هذه النظرة الثانية أن يكتشف ذاته وقواه الكامنة وذلك من قبيل المنطق والحكمة الإنسانية, وكذلك المعرفة الإنسانية, وتلك الطاقات المدهشة التي أودعها الله في النفس الإنسانية, والتي تجعل الإنسان كائناً قوياً ومقتدراً.

وهذه هي النظرة العامة. فمن المخاطَب في هذه النظرة؟ إنهم جميع أفراد الجنس البشري. فهناك مطالبة بإقرار العدالة والعلاقات الصحيحة. ممّن؟ من جميع الأفراد.

إنّ جميع أفراد النوع البشري معنيوّن بهذا الخطاب, أي أنّ عليهم واجباً ومسؤولية. ومن مسؤولية البشرية جمعاء إقامة حكومة الحق, وتوثيق العلاقات الإنسانية, وإعمار الدنيا, وبناء عالم حُرّ. وطبقاً لهذه النظرة فإن الإنسان هو الآخذ بزمام الأمور في هذا العالم, فهو مسؤول عن ذاته وتربية نفسه وسمّوها وتزكيتها وتطهيرها, كما أنه في الوقت ذاته مسؤول عن إعمار الدنيا وبنائها. فهذه هي نظرة الإسلام للإنسان.

إنّ الإنسانَوِيّة الغربية تتخذ لها هي الأخرى من الإنسان محوراً. فالإنسانَويّة ـ وهي محور فلسفات القرن التاسع عشر وما بعده وما قبله ـ تجعل من الإنسان محوراً لها. فما هو ذلك الإنسان؟ إنّ الانسان في منطق الغرب والإنسانوية الغربية يختلف تماماً عن الإنسان في منطق الإسلام.

فالإنسان من منظار الإسلام هو كائن ذو بُعدين: بعد طبيعي, وبُعد إلهي, ولكنه كائن مادي محض من منظار الغرب, لا يعرف سوى البحث عن اللذّة والمتعة والاغتراف من ملذّات الحياة الدنيا. فالنفع المادي للإنسان هو محور التقدم والتنمية في الغرب, وأما في الإسلام فإن الثروة والسلطة والعلم لا تعدوا أن تكون وسيلة لسمو الإنسان وتكامله, وهي بنفسها غاية في التصور الغربي.

إنهم يقمعون الشعوب ويسخّرونها ويسفكون دماء الملايين من البشر في حروب طاحنة, وغايتهم من كل ذلك هو فرض نفوذ بلد ما أو بسط سلطة قوة ما وتحقيق الثراء والغنى, أو أن تتمكن الشركات الكبرى من تسويق ما تنتجه من أسلحة, فلا غضاضة عندهم في ذلك. وهذا هو البون الشاسع بين منطقين مختلفين.

المثل والقيم المعنوية هي قاعدة مشروعنا الحضاري
وعلى هذا, فإن ما نحتاج إليه هو أن نقيم مشروعنا الحضاري والتطوري على أساس النظرة الإسلامية للإنسان. وفي مثل هذا المشروع لا معنى أبداً لأن تكون الفحشاء والغرق في مستنقع الفساد من لوازم التقدّم, بل يجب أن تكون المُثُل والقِيَم المعنوية هي القاعدة الأساس لهذا التقدم.

إنّ ثمّة بوناً واسعاً بين تقدمّهم المادي وبين التقدم الذي يجعل من الإنسان محوراً له, ذلك الإنسان المتمتع بالأصالة المعنوية العميقة, والذي يتخذ من العلم والدنيا والثراء والكدّ المعيشي وسيلة للسمو الروحي والسير إلى الله تعالى.

والآن أوجز الحديث لأن صوت الأذان يقرع الأسماع.

إنني أريد القول: إنّ على مجمعنا الأكاديمي, وهو مجمع النخبة والصفوة من الحوزويين والجامعيين, أن يضعوا في أولوياتهم أن يكون المشروع العام لتقدّم بلادنا قائماً على أساس المبادئ الإسلامية, وألا ينبهروا بالنموذج الغربي, فليس هو النموذج الذي يخلص البلاد أو الذي يساعد على تقدّمنا.

إنّ على الذين يعملون في مراكز التخطيط أو المراكز العلمية ومراكز الأبحاث والمعنيين بقضايا بلادنا الاقتصادية والسياسية والدولية والمصيرية ألا يحاولوا تطبيق النظم الاقتصادية الغربية, أو نماذج البنك الدولي, أو صندوق النقد الدولي على أنظمتنا الاقتصادية, كلا, فإن تلك النظريات ليست مُجدية بالنسبة لنا.

إنّ من الممكن الاستفادة من علومهم فلسنا بالمتعصّبين. وإنّ بوسعنا الاستفادة من التقدم العلمي والتجارب العلمية حيثما كانت. وباستطاعتنا الاستفادة من الأمور النافعة, ولكن التخطيط ينبغي أن يكون وفقاً لثقافتنا واحتياجاتنا.

لقد أصبح استقلال شعبنا أسوة تتردد على لسان القاصي والداني في كل مكان من العالم, وعلينا أن نبرز هذا الاستقلال في كل جوانب حياتنا. إنّ معنى الاستقلال هو عدم الانفعال إزاء حركة المتسلّطين في هذا العالم, بل يمكننا الاستفادة بكل ما يتناسب مع مصالحنا وأهدافنا وطموحاتنا دون التأثّر بالضغوط الدعائية والسياسية التي يمارسها الأعداء.

شعبنا حقق مكاسب علمية تحت الضغوط والحصار
لقد عبّر شعبنا عن أنّ لديه القدرة على مقاومة الضغوط. لقد تحالف الشرق والغرب ذات يوم وعرّضوا بلادنا لضغوط حرب ضروس وضارية على مدى ثمانية أعوام, ولكنّ شعبنا قاوم بكل جدارة. ثم ما لبثنا أن أمسينا عرضة للضغوط الإعلامية والمقاطعة الاقتصادية, وها هم الآن يهددوننا من جديد بالحصار الاقتصادي. فمتى كان الحصار الاقتصادي مرفوعا عنّا؟ لقد حققنا جميع هذه المكاسب العلمية على صعيد الطاقة النووية وسواها ونحن تحت الحصار الاقتصادي, وهو ما يعرفه الغربيون ويدركونه. وللأسف فإن هناك زمرة في الداخل واقعة تحت تأثير الدعاية والأفكار والقيم الغربية, وهم من الإنجذاب والإنبهار بمكان لدرجة أنهم لا يريدون أن يسمعوا أو يذعنوا أنّ في بلادنا تقدّماً علمياً, وطالما لا يُصدق الآخرون فإنهم لا يعترفون!

إنني مازلت أذكر أنه عندما تمّ تشغيل أجهزة الطرد المركزية منذ نحو عامين أو أكثر, وذلك بهمّة وعزم شبابنا وعلمائنا, وصرّح بذلك المسؤولون ورئيس الجمهورية آنذاك, فإن جماعة من أساتذة الفيزياء في الجامعة, وهم من الماهرين والصادقين والأوفياء, وممن أعرف بعضهم بصفة شخصية, بعثوا إليّ رسالة قالوا فيها: إنّ من المستحيل تصديق هذا الخبر! إنهم لم يكونوا على استعداد لتصديق ذلك والإذعان له.

وهذا من وحي الوسوسة. وظلّوا كذلك حتى جاء الغربيون ومندوبو الوكالة الدولية للطاقة وآخرون فعاينوا ذلك الإنجاز وصدّقوه واعترفوا به, وصرّحوا أنه لم يكن من اليسير التصديق بأن إيران تتوصّل إلى مثل هذا الأمر، وعند ذلك لم يكن بوسع تلك الزمرة المشككة في الداخل إلا التصديق والاعتراف.

إنّ نفس هذه القصة تكررت في موضوع الخلايا الوراثية، وكنت قد تحدّثت عدة مرات عن وجود تقدّم في هذا المجال، فكتب إليّ بعض العلماء والأساتذة في جامعاتنا, وقالوا: لا داعي لتكرار الحديث حول هذا الموضوع، فهو عارٍ عن الحقيقة، وليس كما تتصورون. وقالوا أيضاً: أنه لا داعي لتصديق ما يقال عن إحراز تقدم في مجال الخلايا الوراثية والاستنساخ, وأنهم يقومون بإجراء تجارب ناجحة، فهذا الأمر لم ولن يحدث!

وظل الأمر كذلك حتى تمّ عرض خروف مستنسخ على مرأى ومسمع من الجميع، ثم عُقدت ندوة تحدّث فيها مشاهير العلماء وجمع من علماء البيئة من الطراز الأول في العالم، وصرّحوا أن تقدماً مدهشاً يخلب الألباب قد تمّ إحرازه بهذا الصدد، وعند ذلك لم يكن أمام المشككين إلا القبول والإذعان.

الثقة الوطنية بالنفس رافعة ما نصبو إليه من إنجازات
إنّ من أخطر الآفات ألاّ نثق بعبقريتنا وطاقتنا وتقدمنا وإمكانياتنا حتى عند بروزها وتحققها.

إنّ الذي علّمتنا إيّاه الثورة وننتظر أن نقوّيه في أنفسنا يوماً بعد آخر، هو الثقة بالنفس.

إنّ الثقة الوطنية بالنفس، وإنّ الشعب إذا ما أصبح واثقاً من نفسه، فليعلم أنّ بوسعه بلوغ أهدافه مستعيناً بالعزم والإصرار والكفاح والتضامن.

إنّ على وسطنا الجامعي أن يؤمن بذلك إيماناً عميقاً في مجال عمله ودراساته وأبحاثه العلمية، وإنّ على طلابنا وأساتذتنا ومحققينا ومدراء جامعاتنا الثقة أنّ بمقدورهم تحقيق كل ما يطمحون إليه في ظل الإرادة والنضال والسعي الدؤوب. إنّ هذا هو ما نفتقر إليه.

وصايا ونصائح للطلبة
أ ــ ضرورة تقبل النقد ونبذ التجريح
ولقد كنت أنوي أن أطيل الحديث، ولكني اكتفي بهذا القدر.

وفي الختام أودّ أن أتقدم إلى الطلبة الأعزاء ببعض النصائح والوصايا.

إنّ النقد البنّاء من جهة والقبول بالنقد بتواضع من جهة أخرى أمران ضروريان في المحيط الجامعي والوسط الطلابي.

إنّ على الطلبة الشباب أن يكون ذهنهم وقّاداً ورأيهم حُرّاً في الوسط العلمي، وأن يمارسوا النقد، بشرط أن يكون بنّاءً.

إنّ من الخطأ ألاّ نفرّق بين النقد وبين التجريح والعصبية والتشهير، ولكن لا مناص من النقد.

وفي الوقت ذاته لابدّ من تقبّل النقد، فعلينا تقبّل النقد من الآخَرين واحتماله بصفتنا طلبة جامعيين أو تنظيمات طلابية، فأنْ نتقبّل النقد هو أن نتحمّله.

ب ــ التحلي بالمرونة السياسية
وأما النصيحة الأخرى فهي: أنه لا بدّ من المداراة السياسية في الوسط الجامعي.

إنّ على التنظيمات الطلابية أن يكون كل منها مرناً مع الآخر سياسياً وأن يتحمّل أحدها الآخر.

إنّ هناك خطة خطيرة مرسومة لإشعال فتيل الصراع بين التجمعات الطلابية، فعليكم بالحذر. إنهم يريدون تأليب التنظيمات الطلابية بعضها على الآخر. ولقد لاحظنا أنهم كانوا على وشك تحقيق ذلك أخيراً في عدد من الجامعات، ولقد حال الطلبة دون وقوع ذلك بفضل نباهتهم ومشاعرهم ونضجهم السياسي.

ولكنّ هذه هي الخطة، ولا سبيل لإحباطها إلاّ التحلّي بالمداراة والتحمّل بين صفوف التجمعات والتنظيمات الطلابية.

ج ــ لا تتخلوا عن روح الطموح
والنصيحة التالية هي: ضرورة الحفاظ على الأصول والروح المعنوية الطامحة. لا تكونوا متحّفظين، ربما يفضّل البعض التحفظ بسبب التقدم في السنّ، ولكنّ موتور الحركة لابد وأن يكون شبابياً.

إنّ من شأن شبابنا ألا يكون متحفّظاً، فالطموح من شِيَم الشباب.

لا تتراجعوا عن الطموحات، وانظروا إلى العُلى، وانشدوا الذُّرى حتى نكون على يقين بأننا سنبلغ منتصف الطريق على أقل تقدير.

ولكنكم إذا صمّمتم على بلوغ القمة، فإنني على يقين بأنكم ستصلون. لا تتخلّوا عن روح الطموح والتي من مبادئها التمسّك بالأصول والأسس الفكرية.

د ــ تمتين بنيتكم العقائدية والتزامكم السلوكي
وهناك توصية تالية وهي: ضرورة البناء الذاتي عقائدياً وعلمياً وعملياً, وذلك ما أشار اليه بعض الطلبة الأعزاء. (عليكم أنفسكم) وخذوا بنظر الاعتبار دائماً نظرة الإسلام للإنسان في خطابه الفردي.
حافظوا على أنفسكم أنتم(عليكم أنفسكم).

إنّ الطريق الذي يبلغ بالإنسان إلى الله والنورانية هو طريق الابتعاد عن المحرمات وأداء الواجبات.

إنّ عليكم الاهتمام بالواجبات، وعدم اقتراف الذنوب، فهذا هو معنى تهذيب النفس. ولأن قلوبكم شابة، ومستنيرة، فإنها ستكون ـ بحمد الله ـ معافاة من التلوّث ومعها روحكم، والله المستعان، وله المنّة والفضل.

هــ ــ الإجتهاد في التحصيل العلمي
وتبقى نصيحة أخيرة، وهي: ضرورة المواظبة على استذكار الدروس والتحصيل العلمي بكل جِدّ واجتهاد, والبحث عن العلم وطلب المعرفة في الأوساط الجامعية. قد يلاحظ المرء أنّ البعض لا يبحث عن طلب العلم حقيقةً في الجامعة، وأنه يكتفي بالحفظ لاجتياز الامتحانات، فلا تكونوا كذلك، ولا تعتبروا أنّ العلم هو مجرد قراءة النصوص وحفظها.

لقد قلت قبل قليل في لقائي مع الأساتذة: أنّ على الطالب الإلحاح في السؤال، والتعمّق في الفهم، وأن يُشكل على أستاذه، وأن يتبحّر في زوايا البحث العلمي.

لتوفير أجواء وإمكانيات ممارسة الرياضة للطلبة
وأخيراً، فإن إحدى بناتنا العزيزات تحدّثت عن الرياضة.

إنني أؤمن بالرياضة، ولكن الأمر يتعلق في بعض جوانبه بالإدارة الحكيمة التي توفر الامكانيات للطلبة، كما ويتعلق بالطلبة في جوانبه الأخرى، فلا ينبغي أن ننحى باللائمة دائماً على الادارة.

إنّ كل هذه المرتفعات بالقرب من مدينة مشهد تثير قرائح المتسلّقين، فهي تُغري الإنسان بالصعود بتألّقها وانفتاحها وسهولة ارتيادها بلا بطاقات دخول ولا عقبات، ولكن البعض يفضّل النوم في الصباح على تسلّق القمم، وهو ما يجعلني ألوم الشباب دائماً في طهران.

إنّ الرياضة مهمة جداً من أجل صحتكم ونشاطكم ونظرتكم أيها الشباب.

أسال الله لكم التوفيق، وأن يجعلكم ذخراً لشعبنا وشعوب المنطقة أملاً في مستقبل زاهرٍ وغدٍ سابح في النور والضياء.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


1- سورة الانشقاق, الآية 6.
2- سورة المائدة, الآية 105
3- سورة الأعراف, الآية 32.
4- سورة هود, من الآية 61.





 

2017-02-14