منهج ابن عباس في التفسير
مقدمات في التفسير
عبد اللّه بن عباس: هو حبر الامة وترجمان القرآن، واعلم الناس بالتفسيرتنزيله وتاويله ـتلميذ الامام امير المؤمنين عليه السلام الموفق، وتربيته الخاصة، وقد بلغ من العلم مبلغا قال في حقه الامام امير المؤمنين: "كانما ينظر الى الغيب من ستر رقيق" ولا غرو فانه دعا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بشانه
عدد الزوار: 93
عبد اللّه بن عباس: هو حبر الامة وترجمان القرآن، واعلم الناس بالتفسير ـ تنزيله وتاويله ـتلميذ الامام امير المؤمنين عليه السلام الموفق، وتربيته الخاصة، وقد بلغ من العلم مبلغا قال في حقه الامام امير المؤمنين: "كانما ينظر الى الغيب من ستر رقيق" ولا غرو فانه دعا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بشانه: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التاويل"، او قوله: "اللهم علمه الكتاب والحكمة"، او: "اللهم بارك فيه وانشر منه"1.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ولكل شيء فارس، وفارس القرآن ابن عباس"2.
ولد في الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، فحنكه النبى صلى الله عليه وآله وسلم وبارك له فتربى في حجره، وبعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم كان قد لازم بيت النبوة ورباه الامام امير المؤمنين عليه السلام فاحسن تربيته، ومن ثم كان من المتفانين في ولاء الامام عليه السلام وقد صح قوله: "ما اخذت من تفسير القرآن فمن على بن ابي طالب" هذا في اصول التفسير واسسه.
وكان يراجع سائر الاصحاب ممن يحتمل عنده شيء من احاديث الرسول وسننه، مجدا في طلب العلم مهما كلف الامر فكان ياتي ابواب الانصار ممن عنده علم من الرسول، فاذا وجد احدهم نائما كان ينتظره حتى يستيقظ، وربما تسفي على وجهه الريح، ولا يكلف من يوقظه حتى يستيقظ هو على دأبه، فيساله عما يريد وينصرف، وبذلك كان يستعيض عما فاته من العلم ايام حياة النبى صلى الله عليه وآله وسلم لصغره، باستطراق ابواب العلماء من صحابته الكبار.
قيل لطاووس: لزمت هذا الغلام ـ يعني ابن عباس لكونه اصغر الصحابة يومذاك ـ وتركت الاكابر من اصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: اني رايت سبعين رجلا من اصحاب رسول اللّه، اذا تدارؤوافي امر، صاروا الى قول ابن عباس.
وعن عبيد اللّه بن على بن ابي رافع، قال: كان ابن عباس ياتي جدي ابا رافع، فيساله عما صنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم كذا، ومعه من يكتب له ما يقول.
قال مسروق بن الاجدع: كنت اذا رايت ابن عباس قلت: اجمل الناس، فاذا نطق قلت: افصح الناس، فاذا تحدث قلت: اعلم الناس.
وقال ابو بكرة: قدم علينا ابن عباس البصرة، و ما في العرب مثله حشما، وعلما، وثيابا، وجمالا، وكمالا.
وقد لقب حبر الامة، والبحر، لكثرة علمه وترجمان القرآن، وربانى هذه الامة، لاضطلاعه بمعاني القرآن ووجوه السنة والاحكام.
وله مواقف مشهودة مع امير المؤمنين عليه السلام في جميع حروبه: صفين، والجمل، والنهروان مات بالطائف سنة (68) وقد ناهز السبعين، وصلى عليه محمد ابن الحنفية3.
روى ابو عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي باسناده الى عبد اللّه بن عبد ياليل ـ رجل من اهل الطائف ـقال: اتينا ابن عباس رجمه الله نعوده في مرضه الذي مات فيه، فاغمي عليه فاخرج الى صحن الدار، فافاق، وقال كلمته الاخيرة:
ان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم انباني اني ساهجر هجرتين: فهجرة مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وهجرة مع علي عليه السلام و امرني ان ابرا من خمسة: من الناكثين: وهم اصحاب الجمل، ومن القاسطين: وهم اصحاب الشام، ومن الخوارج: وهم اهل النهروان، ومن القدرية، ومن المرجئة ثم قال: "اللهم اني احيا على ما حيى عليه على بن ابي طالب، واموت على ما مات عليه على بن ابي طالب، ثم مات رحمه الله"4.
وهذا الذي رواه الكشي عن رجل من اهل الطائف (عبد اللّه بن عبد ياليل)، رواه ابو القاسم على بن محمد الخزاز الرازي ـ من وجوه العلماء في القرن الرابع ـ في كتابه "كفاية الاثر" ـ بصورة اوسع ـ، باسناده الى عطاء, قال: دخلنا على عبد اللّه ابن عباس وهو عليل بالطائف، في العلة التي توفي فيها ـ ونحن زهاء ثلاثين رجلا من شيوخ الطائف ـ وقد ضعف، فسلمنا عليه وجلسنا، فقال لي: يا عطاء، من القوم؟ قلت: يا سيدي، هم شيوخ هذاالبلد الطائفي، وعمارة بن ابي الاجلح، وثابت بن مالك فما زلت اعد له واحدا بعد واحد ثم تقدموا اليه، فقالوا: يا ابن عم رسول اللّه، انك رايت رسول اللّه وسمعت منه ما سمعت، فاخبرنا عن اختلاف هذه الامة، فقوم قدموا عليا على غيره، وقوم جعلوه بعد الثلاثة؟
قال عطاء: فتنفس ابن عباس الصعداء، فقال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "علي مع الحق والحق معه، وهو الامام والخليفة من بعدي، فمن تمسك به فاز ونجا، ومن تخلف عنه ضل وغوى"، واخيرا قال: وتمسكوا بالعروة الوثقى من عترة نبيكم، فاني سمعته يقول: "من تمسك بعترتي من بعدي كان من الفائزين".
قال عطاء: ثم بعد ما تفرق القوم، قال لي: يا عطاء، خذ بيدي و احملني الى صحن الدار، فاخذنا بيده، انا وسعيد, وحملناه الى صحن الدار، ثم رفع يديه الى السماء، وقال: "اللهم، اني اتقرب اليك بمحمد وآل محمد، اللهم اني اتقرب اليك بولاية الشيخ، علي بن ابي طالب عليه السلام" فما زال يكررها حتى وقع الى الارض فصبرنا عليه ساعة ثم اقمناه فاذا هو ميت، رحمة اللّه عليه5.
وله في فضائل اهل البيت ولا سيما الامام امير المؤمنين عليه السلام اقوال وآثار باقية، الى جنب مواقفه الحاسمة.
ويكفيك انه من رواة حديث الغدير الناص على ولاية علي بالامر، ومفسرا له بالخلافة والوصاية بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مصرا على ذلك.
اخرج الحافظ السجستاني باسناده الى ابن عباس، قال: "وجبت واللّه في اعناق القوم"6.
واما مواقفه بشأن الدفاع عن حريم اهل البيت فكثير7.
واخيرا فانه هو القائل: "ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم و بين ان يكتب لهم ذلك الكتاب حتى بل دمعه الحصى، الى غير ذلك مما لا يحصى 8.
الامر الذي ينبؤك عن مدى صلته بهذا البيت الرفيع، ومبلغ ولائه وعرفانه بشان آل الرسول صلوات اللّه عليهم اجمعين9.
ومن ثم كان الائمة من ذرية الرسول عليه السلام يحبونه حبا جما ويعظمون من قدره ويشيدون بذكره روى المفيد في كتاب الاختصاص باسناده الى الامام ابي عبد اللّه الصادق عليه السلام، قال: كان ابي (الامام ابو جعفر الباقر عليه السلام) يحبه (اي ابن عباس ) حبا شديدا وكان ابي، وهو غلام، تلبسه امه ثيابه، فينطلق في غلمان بني عبد المطلب، فاتاه (اي ابن عباس) بعد ما اصيب بصره، فقال: من انت؟ قال: انا محمد بن على بن الحسين بن علي فقال: حسبك، من لم يعرفك فلا عرفك10، اي يكفي اني اعرفك من انت.
كانت ولادة الامام ابي جعفر محمد بن علي الباقرعليه السلام، سنة (60) على قول راجح11، قبل واقعة الطف (61) بسنة و قد كف بصر ابن عباس بعد واقعة الطف، لكثرة بكائه على مصائب اهل البيت عليهم السلام12 وفي رواية: انه كف بصره قبل وفاته بسنة13، وكانت وفاته عام (68) وعليه ـ ان صحت الرواية ـ فقد كانت سن الامام ابي جعفر حينذاك بين السادسة والسابعة.
قال العلامة ـ في الخلاصة ـ: عبد اللّه بن العباس من اصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، كان محبا لعلي عليه السلام وتلميذه ـحاله في الجلالة والاخلاص لامير المؤمنين اشهر من ان يخفى وقد ذكر الكشي احاديث تتضمن قدحا فيه، وهو اجل من ذلك.
وقد حمل السيد ابن طاووس ـ في التحرير الطاووسي ـ ما ورد في جرحه بعد تضعيف الاسناد ـ على الحسد، قد صدر من الحاسدين الحاقدين عليه، قال: ومثل حبر الامة ـ رضوان اللّه عليه ـ موضع ان يحسده الناس وينافسوه، ويقولوا فيه ويباهتوه.
حسدوا الفتى اذ لم ينالوا فضله الناس اعدا له وخصوم.
كضرائر الحسنا قلن لوجهها حسدا وبغيا: انه لدميم.
وقد بحث الائمة النقاد عن روايات القدح، ولا سيما ما قيل بشانه من الهروب ببيت مال البصرة، وما ورد من التعنيف لفعله ذلك، فاستخرجوا في نهاية المطاف من ذلك دلائل الوضع والاختلاق بشان هذا العبد الصالح الموالي لال بيت الرسول نعم كان الرجل ممقوتا عند رجال السلطة الحاكمة، لا سيما وكان يجابههم بما يخشون صراحته وصرامته، ومن ثم كان طاغية العرب معاوية الهاوية، يلعنه ضمن النفر الخمسة الذين كان يلعنهم في قنوته14، وكان ذلك من شدة قنوطه من رحمة اللّه التي وسعت كل شي، انه من قوم غضب اللّه عليهم قديئسوا من الاخرة كما يئس الكفار من اصحاب القبور15.
وللمولى محمد تقي التستري ـ ادام اللّه فضله والبسه ثوب العافية ـ تحقيق لطيف بشان براءة الرجل من الصاق هكذا تهم مفضوحة، و انه لم يزل في خدمة المولى امير المؤمنين عليه السلام لم يبرح البصرة حتى قتل الامام عليه السلام وكان من المحرضين لبيعة الامام الحسن المجتبى عليه السلام و بعد ان تم الصلح اضطر الى المغادرة الى بيت اللّه الحرام حتى توفاه اللّه، عليه رضوان اللهّ16. ولسيدنا الاستاذ العلامة الفاني ـ رحمة اللّه عليه ـ رسالة وجيزة في براءة الرجل، استوفى فيها الكلام بشانه، جزاه اللّه خيرا عن الحق واهله17.
توسع ابن عباس في التفسير
ولم تمض العشرة الاولى من وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الا ونرى ابن عباس قد تفرغ للتفسير واستنباط معاني القرآن18 بينما سائر الصحابة كانت قد اشغلتهم شؤون شتى، مما يرجع الى جمع القرآن او اقرائه، او تعليم السنن والقضاء بين الناس، او التصدي لسياسة البلاد، وما شاكل واذا بابن عباس نراه صارفا همته في فهم القرآن وتعليمه واستنباط معانيه وبيانه، مستعيضا بذلك عما فاته ايام حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لمكان صغره وعدم كفاءته ذلك الحين فكان يستطرق ابواب العلماء من الصحابة الكبار، كادا وجادا في طلب العلم من اهله اينماوجده، ولا سيما من الامام امير المؤمنين باب علم النبى صلى الله عليه وآله وسلم، كما لم يفته عقد حلقات في مسجد النبى صلى الله عليه وآله وسلم لمدارسة علوم القرآن ومعارفه ونشر تعاليم الاسلام من افخم بؤرته القرآن ويقال: 19 ان ذلك كان بامر من الامام امير المؤمنين عليه السلام، وبذلك فقد تحقق بشانه دعاء الرسول: "اللهم بارك فيه وانشر منه".
لكن بموازاة انتشار العلم منه في الآفاق، راج الوضع على لسانه، لمكان شهرته ومعرفته في التفسير ومن ثم فان التشكيك في اكثر الماثور عنه امر محتمل قال الاستاذ الذهبي: روي عن ابن عباس في التفسير ما لايحصى كثرة، وتعددت الروايات عنه، واختلفت طرقها فلا تكاد تجد آية من كتاب اللّه الا ولابن عباس فيهاقول ماثور او اقوال، الامر الذي جعل نقاد الاثر ورواة الحديث يقفون ازاء هذه الروايات ـ التي جاوزت الحد ـ وقفة المرتاب20.
قال جلال الدين السيوطي: ورايت في كتاب فضائل الامام الشافعي، لابي عبد اللّه محمد بن احمد بن شاكرالقطان، انه اخرج بسنده من طريق ابن عبد الحكم، قال: سمعت الشافعي يقول: لم يثبت عن ابن عباس في التفسير الا شبيه مائة حديث21.
وذكر ابن حجر العسقلاني: ان البخاري لم يخرج من احاديث ابن عباس، في التفسير وغيره، سوى مائتين وسبعة عشر حديثا، بينما يذكر ان ما خرجه من احاديث ابي هريرة الدوسي، يبلغ اربعمائة وستة واربعين حديثا22.
غير ان معرفته الفائقة في التفسير، وكثرة الخريجين من مدرسته جعلته في قمة علوم التفسير وهذا الماثورالضخم من التفسير الوارد عنه او عن احد تلامذته المعروفين ـ وهم كثرة عدد نجوم السماءـ لمما يفرض من مقامه الرفيع في اعلا ذروة التفسير منه يصدر وعنه كل ماثور في هذا الباب.
ولقد كان موضع عناية الامة، ولا سيما الكبار والائمة، من الصحابة ومن عاصره وممن لحقه على مدى الاحقاب فما اكثر ما يدور اسمه في كتب التفسير على اختلاف مبانيها ومناهجها، ومتنوع مسالكها ومنازعها في السياسة والمذهب.
قال الدكتور الصاوي: ولعل في كثرة ما وضع ونسب اليه آية على تقدير له واكبارا من الوضاع، ورغبة في تنفق بضاعتهم، موسومة بمن في اسمه الرواج العلمي23.
منهجه في التفسير
كان ابن عباس تلميذ الامام امير المؤمنين عليه السلام، ومنه اخذ العلم وتلقى التفسير، سواء في اصول مبانيه ام في فروع معانيه، فقد سار على منهج مستقيم في استنباط معاني القرآن الحكيم.
انه لم يحد عن منهج السلف الصالح في تفسير القرآن و فهم معاني كتاب اللّه العزيز الحميد، ذلك المنهج الذي رست قواعده على اسس قويمة ومبان حكيمة. وقد حدد ابن عباس معالم منهجه في التفسير بقوله: "التفسير على اربعة اوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر احد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه الا اللّه"24.
وقد فسرته رواية اخرى عنه: ان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "انزل القرآن على اربعة احرف: حلال وحرام لا يعذر احد بالجهالة به، وتفسير تفسره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه الا اللّه..."25.
فالقرآن، فيه مواعظ وآداب وتكاليف واحكام، يجب على المسلمين عامة المعرفة بها والعمل عليها، لانها دستور الشريعة العام فهذا يجب تعليمه وتعلمه، ولا يعذر احد بجهالته.
وفيه ايضا غريب اللغة ومشكلها، مما يمكن فهمها وحل معضلها، بمراجعة الفصيح من كلام العرب الاوائل، لان القرآن نزل بلغتهم، وعلى اساليب كلامهم المعروف.
وفيه ايضا نكات ودقائق عن مسائل المبدا والمعاد، وعن فلسفة الوجود واسرارالحياة، لا يبلغ كنهها ولا يعرفها على حقيقتها غير اولي العلم، ممن وقفوا على اصول المعارف، وتمكنوا من دلائل العقل والنقل الصحيح.
وبقي من المتشابه ما لا يعلمه الا اللّه، ان اريد به الحروف المقطعة في اوائل السور، حيث هي رموز بين اللّه ورسوله، لم يطلع اللّه عليها احدا من العباد سوى النبي والصفوة من آله، علمهم اياها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم.
وان اريد به ما سوى ذلك مما وقع متشابها من الايات، فانه لا يعلم تاويلها الا اللّه والراسخون في العلم، وهم رسول اللّه والعلماء الذين استقوا من منهل عذبه الفرات، لا سبيل الى معرفتها عن غير طريق الوحي فالعلم به خاص باللّه ومن ارتضاه من صفوة خلقه.
وعلى ضؤء هذا التقسيم الرباعي يمكننا الوقوف على مباني التفسير التي استندها ابن عباس في تفسيره العريض:
اولاً : مراجعة ذات القرآن في فهم مراداته
اذ خير دليل على مراد اى متكلم، هي القرائن اللفظية التي تحف كلامه، والتي جعلها مسانيد نطقه وبيانه، وقد قيل: للمتكلم ان يلحق بكلامه ما شا مادام متكلما، هذا في القرائن المتصلة وكثيرا ما يعتمد المتكلمون على قرائن منفصلة من دلائل العقل او الاعراف الخاصة، او ينصب في كلام آخر له ما يفسر مراده من كلام سبق، كما في العموم والخصوص، والاطلاق والتقييد، وهكذا...
فلو عرفنا من عادة متكلم اعتماده على قرائن منفصلة، ليس لنا حمل كلامه على ظاهره البدائي، قبل الفحص والياس عن صوارفه.
والقرآن من هذا القبيل، فيه من العموم ما كان تخصيصه في بيان آخر، وهكذا تقييد مطلقاته وسائر الصوارف الكلامية المعروفة.
وليس لأى مفسر ان ياخذ بظاهر آية ما لم يفحص عن صوارفها وسائر بيانات القرآن التي جاءت في غير آية، ولا سيما والقرآن قد يكرر من بيان حكم او حادثة ويختلف بيانه حسب الموارد، ومن ثم يصلح كل واحد دليلا وكاشفا لما ابهم في مكان آخر.
وهكذا نرى مفسرنا العظيم، عبد اللّه بن عباس، يجري على هذا المنوال، وهو امتن المجاري لفهم معاني القرآن، ومقدم على سائر الدلائل اللفظية والمعنوية فلم يغفل النظر الى القرآن الكريم نفسه، في توضيح كثيرمن الايات التي خفي المراد منها في موضع، ثم وردت بشي من التوضيح في موضع آخر شانه في ذلك شان سائر المفسرين الاوائل، الذين ساروا على هدى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن هذا القبيل ما رواه السيوطي باسانيده الى ابن عباس، في قوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ...﴾26 قال: كنتم امواتا قبل ان يخلقكم، فهذه ميتة، ثم احياكم، فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون الى القبور، فهذه ميتة اخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه حياة فهما ميتتان وحياتان، فهو كقوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾27، وهكذا اخرج عن ابن مسعود وابي مالك وقتادة ايضا28.
ثانياً : رعايته لاسباب النزول
ولاسباب النزول دورها الخطير في فهم معاني القرآن، حيث الايات والسور نزلت نجوماً، وفي فترات وشؤون يختلف بعضها عن بعض فاذا كانت الاية تنزل لمناسبة خاصة و لعلاج حادثة وقعت لوقتها، فانها حينذاك ترتبط معها ارتباطا وثيقا ولولا الوقوف على تلك المناسبة، لما امكن فهم مرامي الاية بالذات، فلا بد لدارس معاني القرآن ان يراعي قبل كل شيء شان نزول كل آية آية، ويهتم باسباب نزولها هذااذا كان لنزولها شان خاص، فلا بد من النظر والفحص.
وهكذا اهتم حبر الامة بهذا الجانب، واعتمد كثيرا لفهم معاني القرآن على معرفة اسباب نزولها، وكان يسال ويستقصي عن الاسباب والاشخاص الذين نزل فيهم قرآن وسائر ما يمس شان النزول، وهذا من امتيازه الخاص الموجب لبراعته في التفسير وقد مر حديث اتيانه ابواب الصحابة يسألهم الحديث عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، 29 كان حريصا على طلب العلم ومنهوما لايشبع:
من ذلك ما رواه جماعة كبيرة من اصحاب الحديث، باسنادهم الى ابن عباس، قال:لم ازل حريصا ان اسال عمر عن المرأتين من ازواج النبى صلى الله عليه وآله وسلم اللتين قال اللّه تعالى بشانهما ﴿إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا...﴾30 حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالاداوة، فتبرز ثم اتى، فصببت على يديه فتوضا، فقلت: يا امير المؤمنين، من المرأتان من ازواج النبى صلى الله عليه وآله وسلم اللتان قال اللّه: ﴿إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾؟ فقال: وا عجبا لك يا ابن عباس! هما: عائشة وحفصة31.
وفي تفسير القرطبي، قال ابن عباس: مكثت سنتين اريد ان اسال عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على النبى صلى الله عليه وآله وسلم ما يمنعني الا مهابته، فسألته، فقال: هما حفصة وعائشه32.
ولقد بلغ في ذلك الغاية، حتى لنجد اسمه يدور كثيرا في اقدم مرجع بين ايدينا عن سبب النزول، وهو سيرة ابن اسحاق التي جاء تلخيصها في سيرة ابن هشام.
قال: وكان ابن عباس يقول: فيما بلغني نزل في النضر بن حارث ثمان آيات من القرآن: قول اللّه عز وجل: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِين﴾33، وكل ما ذكر فيه من الاساطير من القرآن34.
قال: وحدثت عن ابن عباس انه قال ـ وسرد قصة سؤال احبار اليهود النبى صلى الله عليه وآله وسلم عند مقدمه المدينة ـ: فانزل اللّه عليه فيما سالوه عنه من ذلك: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ...﴾35.
قال: وانزل اللّه تعالى عليه فيما ساله قومه من تسيير الجبال ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾36.
قال: وانزل عليه في قولهم: خذ لنفسك ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ﴾37، وانزل عليه في ذلك من قولهم: ﴿وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾38، وكذا في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا﴾39: انما انزلت من اجل اولئك النفر40 وهكذا يتابع ذكر اسباب نزول آيات، وفي الاكثر يسندها الى ابن عباس.
وقد برع ابن عباس في هذه الناحية من نواحي ادوات التفسير، حتى كان يخلص آي القرآن المدني من المكي فقد سال ابو عمرو ابن العلا مجاهدا عن تلخيص آي القرآن المدني من المكي، فقال:سالت ابن عباس عن ذلك، فجعل ابن عباس يفصلها له وهكذا نجد ابن عباس بدوره قد سال أبى بن كعب عن ذلك41.
كما تقصى اسباب النزول فاحسن التقصي، فكان يعرف الحضري من السفري، والنهاري من الليلي، وفيم انزل وفيمن انزل، ومتى انزل واين انزل، واول ما نزل وآخر ما نزل، وهلم جرا42، مما يدل على براعته ونبوغه في تفسير القرآن.
ثالثاً : اعتماده الماثور من التفسير المروي
اعتمد ابن عباس في تفسيره على الماثور عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم والطيبين من آله والمنتجبين من اصحابه وقد اسلفنا تتبعه عن آثار الرسول واحاديثه كان يستطرق ابواب الصحابة العلماء، لياخذ منهم ما حفظوه من سنة النبى وسيرته الكريمة وقد جد في ذلك واجتهد مبلغ سعيه وراء طلب العلم والفضيلة، حتى بلغ اقصاها وقد سئل:انى ادركت هذا العلم؟ فقال: بلسان سؤول وقلب عقول43.
هو حينما يقول: "جل ما تعلمت من التفسير من على بن ابي طالب عليه السلام44، او "ما اخذت من تفسير القرآن فعن على بن ابي طالب45، انما يعني اعتماده الماثور من التفسير، اذا كان الاثر صحيحا صادرا من منبع وثيق.
وهكذا عند ما كان ياتي ابواب الصحابة بغية العثور على اقوال الرسول في مختلف شؤون الدين ومنها الماثور عنه في التفسير، ان ذلك كله لدليل على مبلغ اعتماده على المنقول صحيحا من التفسير.
فهو عند كلامه الانف انما يلقي الضؤء على تفاسيره بالذات، وانها من النمط النقلي في اكثره، وان كان لا يصرح به في الموارد، بعد اعطاء تلك الكلية العامة.
رابعا : اضطلاعه بالادب الرفيع
لا شك ان القرآن نزل بالفصحى من لغة العرب، سواء في مواد كلماته ام في هيئات الكلم و حركاتها البنائية والاعرابية، اختار الافصح الافشى في اللغة دون الشاذ النادر وحتى من لغات القبائل اختار المعروف المالوف بينهم دون الغريب المنفور فما اشكل من فهم معاني كلماته، لا بد لحلها من مراجعة الفصيح من كلام العرب المعاصر لنزول القرآن، حيث نزل بلغتهم وعلى اساليب كلامهم المالوف.
وهكذا نجد ابن عباس يرجع، عند مبهمات القرآن وما اشكل من لفظه، الى فصيح الشعر الجاهلي، والبديع من كلامهم الرفيع وكان استشهاده بالشعر انما جاءه من قبل ثقافته الادبية واضطلاعه باللغة وفصيح الكلام وفي تاريخ الادب العربي آنذاك شواهد رائعة تشيد بنبوغه ومكانته السامية في العلم والادب وساعده على ذلك ذكاء مفرط وحافظة قوية لاقطة، كان لايسمع شيئا الا وكان يحفظه بكامله لوقته.
يروي ابو الفرج الاصبهاني باسناده الى عمر الركاء، قال: بينا ابن عباس في المسجد الحرام وعنده نافع بن الازرق (راس الازارقة من الخوارج) وناس من الخوارج يسالونه، اذ اقبل عمر بن ابي ربيعة في ثوبين مصبوغين موردين او ممصرين46 حتى دخل وجلس فاقبل عليه ابن عباس فقال: انشدنا، فانشده:
امن آل نعم انت غاد فمبكر غداة غد ام رائح فمهجر؟
حتى اتى على آخرها فاقبل عليه نافع بن الازرق، فقال: اللّه يابن عباس من اقاصي البلاد نسالك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنا، وياتيك غلام مترف من مترفي قريش فينشدك:
رات رجلا اما اذا الشمس عارضت فيخزى واما بالعشى فيخسر
فقال: ليس هكذا قال قال: فكيف قال؟ فقال: قال:
رات رجلا اما اذا الشمس عارضت فيضحى واما بالعشى فيحصر
فقال: ما اراك الا وقد حفظت البيت! قال: أجل! وإن شئت أن أنشدك القصيدة أنشدتك إياها. فاني اشاء. فانشده القصيدة حتى اتى على آخرها وما سمعها قط الا تلك المرة صفحا47، وهذا غاية الذكاء.
فقال له بعضهم: ما رايت اذكى منك قط أذكى من علي بن أبي طالب عليه السلام.
وكان ابن عباس يقول: ما سمعت شيئا قط الا رويته.
ثم اقبل على ابن ابي ربيعة، فقال: انشد، فانشده:
تشط غدا دار جيراننا... وسكت.
فقال ابن عباس: وللدار بعد غد ابعد!
فقال له عمر: كذلك قلت ـ اصلحك اللّه ـ افسمعته؟ قال: لا، ولكن كذلك ينبغي!!48.
وهذا غاية في الفطنة والذكاء، مضافا اليه الذوق الادبي الرفيع!
وهو الذي كان يحفظ خطب الامام امير المؤمنين عليه السلام الرنانة فور استماعها، فكان راوية الامام في خطبه وسائر مقالاته.
وكان ذوقه الادبي الرفيع وثقافته اللغوية العالية، هو الذي حدا به الى استخدام هذه الاداة ببراعة، حينما يفسرالقرآن ويشرح من غريب لفظه كان يقول: الشعر ديوان العرب، فاذا خفي علينا الحرف من القرآن، الذي انزله اللّه بلغة العرب، رجعنا الى ديوانها، فالتمسنا معرفة ذلك منه.
واخرج ابن الانباري من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: اذا سالتموني عن غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر، فان الشعر ديوان العرب49.
واخرج الطبري من طريق سعيد بن جبير ـ في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾50ـ عن ابن عباس، وقد سئل عن (الحرج)، قال: اذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر فان الشعر عربي ثم دعا اعرابيا فقال: ما الحرج؟ قال: الضيق قال ابن عباس: صدقت51.
وكان اذا سئل عن القرآن، في غريب الفاظه، انشد فيه شعرا قال ابوعبيد: يعني كان يستشهد به على التفسير.
قال ابن الانباري: وقد جاء عن الصحابة والتابعين كثيرا، الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر، قال: وانكر جماعة ـ لا علم لهم ـ على النحويين ذلك، وقالوا: اذا فعلتم ذلك جعلتم الشعر اصلا للقرآن و ليس الامر كما زعموا، بل المراد تبيين الحرف الغريب من القرآن بالشعر، لانه تعالى يقول: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾52، وقال: ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِين﴾53. مسائل ابن الازرق. ولعل اوسع ما اثر عن ابن عباس في هذا الباب هي مسائل نافع بن الازرق الخارجي54، جاء ليسال حبرالامة تعنتا لا تفهما وكان متقنا للعربية وامير قومه وفقيههم، فحاول افحام مثل ابن عباس استظهارا لمذهبه.
والقصة كما رواها السيوطي في الاتقان، فيها شيء من الغرابة، ولعل فيها زيادة وتحريفا، غير انها على كل حال تحدد من اتجاه ابن عباس اللغوي في التفسير، واضطلاعه بالادب الرفيع.
قال جلال الدين السيوطي: قد روينا عن ابن عباس كثيرا من استشهاده بالشعر لحل غريب القرآن، واوعب مارويناه عنه مسائل ابن الازرق ـ وساقها تماما حسب استخراجه من كتاب الوقف لابن الانباري، والمعجم الكبير للطبراني ـ 55 ولنذكر منها طرفا:
قال بينا عبد اللّه بن عباس جالس بفناء الكعبة، قد اكتنفه الناس يسالونه عن تفسير القرآن، واذا بنافع بن الازرق قال لنجدة بن عويمر56: قم بنا الى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به، فاتياه وقالا: نريد ان نسالك عن اشياء من كتاب اللّه، فتفسرها لنا، وتاتينا بمصادقة من كلام العرب، فان اللّه انما انزل القرآن بلسان عربي مبين قال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما.
فساله نافع عن قوله تعالى: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ﴾57؟ قال: العزون: الحلق الرقاق قال نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، اما سمعت عبيد بن الابرص وهو يقول:
فجاؤوا يهرعون اليه حتى يكونوا حول منبره عزينا.
قال الراغب: عزون، واحدته عزة، واصله من: عزوته فاعتزى، اي نسبته فانتسب.
وقال الطبرسي: عزون، جماعات في تفرقة، واحدتهم عزة وانما جمع بالواو والنون، لانه عوض، مثل سنة وسنون واصل عزة عزوة من: عزاه يعزوه، اذا اضافه الى غيره فكل جماعة من هذه الجماعات مضافة الى الاخرى 58.
وساله عن قوله: (اذا اثمر وينعه )59؟ قال: نضجه وبلاغه واستشهد بقول الشاعر:
اذا مشت وسط النساء تاودت ـــــ كما اهتز غصن ناعم النبت يانع60.
وساله عن ﴿الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾61؟ قال: السفينة الموقرة الممتلئة واستشهد بقول ابن الابرص:
شحنا ارضهم بالخيل حتى تركناهم اذل من الصراط 62.
وساله عن ﴿زَنِيمٍ﴾63؟ قال: ولد زنى واستشهد بقول الخطيم التميمي:.
زنيم تداعته الرجال زيادة كما زيد في عرض الاديم الاكارع64.
قال الراغب: الزنيم: الزائد في القوم وليس منهم وهو المنتسب الى قوم هو معلق بهم لا منهم.
وساله عن ﴿جَدُّ رَبِّنَا﴾65؟ قال: عظمة ربنا واستشهد بقول امية بن ابي الصلت:
لك الحمد والنعما والملك ربنا فلا شيء اعلا منك جدا وامجدا.
وكان يبحث عن لغات القبائل ويترصد اخبارهم، استطلاعا للغريب من الفاظهم الواقعة في القرآن، وكان اذا اشكل عليه فهم كلمة ارجاها حتى يستمع قول الاعراب ليعثر على معناها، طريقة متبعة لدى اهل التحقيق.
اخرج الطبري باسناده الى ابن ابي يزيد قال: سمعت ابن عباس، وهو يسال عن قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾66، قال: ما هاهنا من هذيل67 احد؟ فقال رجل:نعم، قال: ما تعدون الحرجة فيكم؟ قال: الشيء الضيق.
قال ابن عباس: فهو كذلك68.
واخرج من طريق قتادة عن ابن عباس، قال: لم اكن ادري ما ﴿افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾69 حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: تعال افاتحك، تعني اقاضيك70.
واخرج ابو عبيد في الفضائل من طريق مجاهد عن ابن عباس، قال: كنت لا ادرى ما ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾71 حتى اتاني اعرابيان يختصمان في بئر، فقال احدهما: انا فطرتها, يقول: انا ابتداتها72.
وفي تفسير الزمخشري ـ عند قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ﴾73 ـ: وعن ابن عباس: ما كنت ادري مامعنى "يحور" حتى سمعت اعرابية تقول لبنية لها: حوري، اي ارجعي.
واستشهد الزمخشري بقول لبيد:
وما المر الا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد اذ هو ساطع74.
وقد جاء نفس الاستشهاد في مسائل ابن الازرق ايضا75.
وهكذا استطاع بثقافته اللغوية ان يحيط بلغات القبائل، ويميز عن بعضها البعض.
روي عنه في قوله تعالى: ﴿وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾76 انه قال: البور، في لغة اذرعات الفاسد، فاما عند العرب فانه لا شيء77.
وقال في قوله تعالى: ﴿وَأَنتُمْ سَامِدُونَ﴾78 السمود: الفناء، وهي يمانية.
وفي قوله تعالى: ﴿أَتَدْعُونَ بَعْلًا﴾79 قال: ربا، بلغة اهل اليمن.
وفي قوله: ﴿كَلَّا لَا وَزَر﴾80 قال: الوزر: ولد الولد، بلغة هذيل.
وفي قوله: ﴿فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾81 قال: مكتوبا، وهي لغة حميرية، يسمون الكتاب اسطورا82.
بل نراه لم يقتصر على الاحاطة بلغات القبائل، حتى ضم اليها التعرف الى الكلمات الوافدة الى العربية من لغات الامم المجاورة قال في قوله تعالى: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾83 بلسان الحبشة، اذاقام الرجل من الليل قالوا: نشأ84.
و قال في قوله تعالى: (فرت من قسورة ) هو بالعربية الاسد، و بالفارسية شار (شير)، وبالقبطية اريا، وبالحبشية قسورة85.
هذا، مضافا الى معرفته بداب سائر الامم و رسومهم، كان يقول في قوله تعالى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾86 هو قول الاعاجم: "زه، نوروز، مهرجان حر87.
وعن تلميذه سعيد بن جبير: هو قول بعضهم لبعض اذا عطس: زه هزار سال، وفي رواية عن ابن عباس: هو قول احدهم: زه هزار سال، يقول: عش الف سنة88 "زه" و"زى" بالفارسية بمعنى الدعاء بطول العمر، من "زيستن" بمعنى الحياة.
اضف الى ذلك معرفته بالتاريخ والجغرافية، وما جرت على جزيرة العرب من حوادث وايام، وقد اتاح له حظا وافرا من هذه الثقافة، تنقله في البلاد، بين مكة والمدينة، ثم ولايته على البصرة واشتراكه في غزوة افريقية، بل وتنقله بين انحا الجزيرة في طلب العلم، اذ كان يهتم الاهتمام كله بتعرف قصة كل اسم او موطن او موضع جرى له ذكر في القرآن، ان مبهما او صريحا يقول: "الاحقاف، المذكور في الكتاب العزيز: واد بين عمان وارض مهرة" وارض مهرة هي حضر موت كما جا في كلام ابن اسحاق وقال قتادة: الاحقاف: رمال مشرفة على البحر بالشحر من ارض اليمن قال ياقوت: هذه ثلاثة اقوال غير مختلفة في المعنى89.
وقال ـ في البحرين ـ: روي عن ابن عباس: البحرين من اعمال العراق، وحده من عمان ناحية جر فار، واليمامة على جبالها90.
وقال ـ في عرفة ـ: وقال ابن عباس: حد عرفة من الجبل المشرف على بطن عرنة الى جبالها الى قصر آل مالك ووادي عرفة91.
وقال ـ في تحديد جزيرة العرب ـ: واحسن ما قيل في تحديدها ما ذكره ابو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي مسندا الى ابن عباس، قال: اقتسمت العرب جزيرتها على خمسة اقسام قال: وانما سميت بلاد العرب جزيرة، لاحاطة الانهار والبحار بها من جميع اقطارها واطرافها، فصاروا منها في مثل الجزيرة من جزائر البحر92.
الى غيرها من موارد تدلك على سعة معرفة ابن عباس بالاوضاع والاحوال التي تكتنفه، شأن اي عالم ومحقق خبير.
وبعد فان احاطته باللغة وبالشعر القديم، لتدلك على قوة ثقافته البالغة حدا لم يصل اليه غيره، ممن كان في طرازه ذلك العهد، الامر الذي جعله بحق زعيم هذا الجانب من تفسير القرآن، حتى لقد قيل في شانه: هو الذي ابدع الطريقة اللغوية في التفسير93 فضلا عن كونه ابا للتفسير في جميع جوانبه ومجالاته.
وبذلك كان قد كشف النقاب عن وجه كثير من آيات احاطت بها هالة من الابهام، لولا معرفة سبب النزول.
مثلا نسأل: ما هي العلاقة بين (ذكر اللّه وذكر الاباء) في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾94 والسياق وارد بشان احكام الحج ومناسكه؟.
وهنا ياتي ابن عباس ليوضح من موضع هذه العلاقة قال: "ان العرب كانوا عند الفراغ من حجتهم بعد ايام التشريق، يقفون بين مسجد منى وبين الجبل، ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم، ويتناشدون فيها الاشعار، ويتكلمون بالمنثور من الكلام، ويريد كل واحد منهم من ذلك الفعل، حصول الشهرة والترفع بثمر سلفه فلما انعم اللّه عليهم بالاسلام امرهم ان يكون ذكرهم لربهم كذكرهم لابائهم او اشد ذكرا"95.
وهكذا لما تسال بعضهم: ما وجه قوله تعالى: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾96 اي لا حرج عليه و لا ماثم في السعي بين الصفا و المروة و ظاهره نفي الباس، اي عدم المنع، وهو لايقتضي الوجوب، مع ان قوله تعالى ـ في صدر الاية ـ: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ﴾97 يستدعي الوجوب، لانه خبر في معنى الامر؟!
و قد كان ذلك موضع تساؤل منذ او ل يومه اخرج الطبري باسناده الى عمرو ابن حبيش قال: قلت لعبد اللّه بن عمر: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾98، قال: انطلق الى ابن عباس فاساله فانه اعلم من بقي بما انزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: فاتيت ابن عباس فسالته، فقال: انه كان عندهما اصنام، فلما اسلموا امسكوا عن الطواف بينهما حتى انزلت ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ﴾99.
كان المشركون قد وضعوا على الصفا صنما يقال له: "اساف"، وعلى المروة "نائلة" فلما اعتمر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عمرة القضاء تحرج المسلمون عن السعي بينهما، زعما منهم ان السعي بينهما شيء كان صنعه المشركون تزلفا الى الصنمين، فانزل اللّه ان لا حرج و لا موضع لما وهمه اناس100.
مراجعة اهل الكتاب!
وهل كان ابن عباس يراجع اهل الكتاب في فهم معاني القرآن؟ سؤال اجيب عليه بصورتين: احداهما مبالغ فيها، والاخرى معتدلة الى حد ما، كانت مراجعته لاهل الكتاب ـكمراجعة سائر الاصحاب ـ في دائرة ضيقة النطاق، في امور لم يتعرض لها القرآن، ولا جاءت في بيان النبى صلى الله عليه وآله وسلم، حيث لم تعد حاجة ملحة الى معرفتها، ولا فائدة كبيرة في العلم بها كعدد اصحاب الكهف، والبعض الذي ضرب به موسى من البقرة، ومقدار سفينة نوح، وما كان خشبها، واسم الغلام الذي قتله الخضر، واسماء الطيور التي احياها اللّه لابراهيم، ونحو ذلك مما لا طريق الى معرفة الصحيح منه فهذا يجوز اخذه من اهل الكتاب، والتحدث عنهم ولا حرج، كما ورد "حدثوا عن بني اسرائيل ولا حرج"101، المحمول على مثل هذه الامور.
قال ابن تيمية: وفي بعض الاحيان ينقل عنهم (عن بعض الصحابة مثل ابن مسعود وابن عباس وكثير من التابعين) ما يحكونه من اقاويل اهل الكتاب التي اباحها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قال: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بنى اسرائيل ولا حرج" رواه البخاري عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، ولهذا كان عبد اللّه بن عمرو قد اصاب يوم اليرموك زاملتين102 من كتب اهل الكتاب، فكان يحدث منهما، بما فهمه من هذا الحديث من الاذن في ذلك ولكن هذه الاحاديث الاسرائيلية انما تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فانها من الامور المسكوت عنها، ولم نعلم صدقها ولا كذبها مما بايدينا، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود الى امر ديني، وقد ابهمه اللّه في القرآن، لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم103.
ووافقه على هذا الراي الاستاذ الذهبي، قال: كان ابن عباس يرجع الى اهل الكتاب وياخذ عنهم، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والانجيل، في كثير من المواضع التي اجملت في القرآن وفصلت في كتب العهدين ولكن في دائرة محدودة ضيقة، تتفق مع القرآن وتشهد له اما ما عدا ذلك مما يتنافى مع القرآن ولايتفق مع الشريعة، فكان لا يقبله ولا ياخذ به.
قال: فابن عباس وغيره من الصحابة، كانوا يسالون علماء اليهود الذين اعتنقواالاسلام فيما لا يمس العقيدة او يتصل باصول الدين وفروعه، كبعض القصص والاخبار الماضية.
قال: وبهذا المسلك يكون الصحابة قد جمعوا بين قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "حدثوا عن بني اسرائيل ولا حرج"، وقوله: "لا تصدقوا اهل الكتاب ولا تكذبوهم" فان الاول محمول على ما وقع فيهم من الحوادث والاخبار، لما فيها من العظة والاعتبار، بدليل قوله بعد ذلك: "فان فيهم اعاجيب" والثاني محمول على ما اذا كان المخبر به من قبلهم محتملا، ولم يقم دليل على صدقه ولا على كذبه قال: كما افاده ابن حجر، ونبه عليه الشافعي104.
واما المستشرقون فقد ذهبوا في ذلك مذاهب بعيدة، بالغوا فيها الى حد ترفضه شريعة النقد والتمحيص يقول العلامة المستشرق اجنتس جولد تسيهر:
"وترى الرواية الاسلامية ان ابن عباس تلقى بنفسه ـ في اتصاله الوثيق بالرسول ـ وجوه التفسير التي يوثق بها وحدها105 وقد اغفلت هذه الرواية بسهولة ـ كما في احوال اخرى مشابهة ـ ان ابن عباس عند وفاة الرسول كان اقصى ما بلغ من السن (10ـ 13) سنة.
"واجدر من ذلك بالتصديق، الاخبار التي تفيد ان ابن عباس كان لا يرى غضاضة ان يرجع، في الاحوال التي يخامره فيها الشك، الى من يرجو عنده علمها وكثيرا ما ذكر انه كان يرجع ـ كتابة ـ في تفسير معاني الالفاظ الى من يدعى (ابا الجلد) والظاهر انه (غيلان بن فروة الازدي) الذي كان يثنى عليه بانه قرا الكتب106.
"وكثيرا ما نجد بين مصادر العلم المفضلة لدى ابن عباس، اليهوديين اللذين اعتنقاالاسلام: كعب الاحبار، وعبد اللّه بن سلام، كما نجد اهل الكتاب على وجه العموم، اي رجالا من طوائف وردالتحذير من اخبارها ـ عدا ذلك ـ في اقوال تنسب الى ابن عباس نفسه ومن الحق ان اعتناقهم للاسلام قد سمابهم على مظنة الكذب، ورفعهم الى مرتبة مصادر العلم التي لا تثير ارتيابا 107.
"ولم يعد ابن عباس اولئك الكتابيين الذين دخلوا في الاسلام، حججا فقط في الاسرائيليات واخبار الكتب السابقة، التي ذكر كثيرا عنها الفوائد108، بل كان يسال ايضا كعب الاحبار مثلا عن التفسير الصحيح للتعبيرين القرآنيين: ﴿أُمُّ الْكِتَابِ﴾109 و﴿وَالْمَرْجَا
2009-10-21