حجية ظواهر الكتاب
مقدمات في التفسير
قد يزعم البعض ان هناك من يرى عدم جواز الاخذ بظواهر كلام اللّه تعالى، حيث ظاهره انيق وباطنه عميق، لايسبر غوره ولا يبلغ اقصاه، ولا سيما بعد كثرة الصوارف عن هذه الظواهر, من تخصيص وتقييد ونسخ وتاويل.غيران هذا يتنافى والامر بالتدبر في آياته، والحث على التعمق فيها واستخراج معانيها.
عدد الزوار: 117
قد يزعم البعض ان هناك من يرى عدم جواز الاخذ بظواهر كلام اللّه تعالى، حيث ظاهره انيق وباطنه عميق، لايسبر غوره ولا يبلغ اقصاه، ولا سيما بعد كثرة الصوارف عن هذه الظواهر، من تخصيص وتقييد ونسخ وتاويل.
غيران هذا يتنافى والامر بالتدبر في آياته، والحث على التعمق فيها واستخراج معانيها.
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾1.
﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾2.
﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾3.
﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾4.
﴿قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾5.
﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾6.
وقد رغب النبى صلى الله عليه وآله وسلم في الرجوع الى القرآن عند مدلهمات الامور وعرض مشتبهات الاحاديث عليه، وهكذا ندب الائمة من اهل البيت عليهم السلام الى فهم الاحكام من نصوص الكتاب، والوقوف على رموزه ودقائقه في التعبير والبيان.
قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "فاذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فانه شافع مشفع وماحل مصدق7 ومن جعله امامه قاده الى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه الى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل8 وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم9، ظاهره انيق وباطنه عميق له نجوم وعلى نجومه نجوم، 10 لاتحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه11 فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة، لمن عرف الصفة12 فليجل جال بصره، وليبلغ الصفة نظره13، ينج من عطب، ويتخلص من نشب14 فان التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص15.
وبهذا المعنى قال الامام ابوعبد اللّه الصادق عليه السلام: "ان هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى فليجل جال بصره، ويفتح للضيا نظره فان التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور"16.
والتفكر المندوب اليه هنا هو التعمق في دلائل القرآن ودقائق تعبيره، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾17.
فالتفكر فيه ـ بعد التبيين والبيان ـ هو المندوب اليه، وهي الغاية القصوى من نزول القرآن.
قال الامام الصادق عليه السلام: "لقد تجلى اللّه لخلقه في كلامه، ولكنهم لا يبصرون"18.
وقال: "انما القرآن امثال لقوم يعلمون دون غيرهم، ولقوم يتلونه حق تلاوته، وهم الذين يؤمنون به ويعرفونه"19.
قال الامام امير المؤمنين عليه السلام: "الا لا خير في قراءة لا تدبر فيها"20.
وقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "ما انعم اللّه على عبد، بعد الايمان باللّه، افضل من العلم بكتاب اللّه والمعرفة بتاويله"21.
ولما نزلت الاية ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾22 قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ويل لمن لاكها بين لحييه ثم لم يتدبرها"23.
وبعد، فنقول: ويل لمن نظر في هذه الايات الكريمة والاحاديث الماثورة عن اهل بيت الوحي والرسالة، ولاكها بين لحييه ثم لم يتدبرها بامعان، فاخذها بالهزل ولم يعتبرها الحكم الفصل.
وايض، فان اخبار العرض على كتاب اللّه، خير شاهد على امكان فهم معانيه والوقوف على مبانيه.
قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "ان على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نور، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فدعوه".
وخطب بمنى، وكان من خطبته: "ايها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب اللّه فانا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم اقله".
وقال الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: "كل شي مردود الى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف ".
وقال: "اذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب اللّه، اومن قول رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، والا فالذي جاءكم به اولى به"24.
وفي كثير من ارجاعات الائمة عليهم السلام اصحابهم الى القرآن، لفهم المسائل واستنباط الاحكام منه، لدليل ظاهرعلى حجية ظواهر القرآن، وضرورة الرجوع اليه.
قال زرارة بن اعين: قلت لابي جعفر الامام محمد بن علي الباقر عليه السلام: الا تخبرني من اين علمت وقلت: ان المسح ببعض الراس وبعض الرجلين؟
فضحك، وقال: يا زرارة، قاله رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ونزل به الكتاب من اللّه، لان اللّه عز وجل قال: ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾25 فعرفنا ان الوجه كله ينبغي ان يغسل، ثم قال: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾26 فوصل اليدين الى المرفقين بالوجه، فعرفنا انه ينبغي لهما ان يغسلا الى المرفقين، ثم فصل بين الكلام فقال: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُم﴾27 فعرفنا حين قال: "برؤوسكم" ان المسح ببعض الراس، لمكان "الباء" ثم وصل الرجلين بالراس، كما وصل اليدين بالوجه، فقال: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ﴾28 29 فعرفنا حين وصلهما بالراس،ان المسح على بعضهما.
ثم قال: ﴿فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْه﴾30 فاثبت بعض الغسل مسحا31.
فقد نبه الامام على ان زيادة "الباء" في مدخول فعل متعد بنفسه لا بد فيها من نكتة لافتة، وليست سوى ارادة الاكتفاء بمجرد مماسة الماسح مع الممسوح، لان الباء تدل على الربط والالصاق، والتكليف يتوجه الى القيدالملحوظ في الكلام فاذا وضع الماسح يده على راسه وامرها عليه، فباول الامرار يحصل التكليف فيسقط، ولا دليل على الادامة، فالاستيعاب ليس شرطا في المسح.
هكذا نبه الامام على امكان استفادة مثل هذا الحكم التكليفي الشرعي من الاية، بامعان النظر في قيود الكلام.
وعن عبد الاعلى مولى آل سام، قال: قلت لابي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: عثرت فانقطع ظفري،فجعلت على اصبعي مرارة، فكيف اصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا واشباهه من كتاب اللّه عز وجل، قال اللّه تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾32 امسح عليه33.
يعني: ان آية نفي الحرج تدل على رفع التكليف، حيث وجود ضرر اوحرج على المكلف، فيجب ان يفهم ذلك كل مسلم من القرآن ذاته.
وكذلك استدلالات الائمة عليهم السلام في كثير من الموارد، بآيات قرآنية، لاثبات مطلوبهم لدى المخاطبين، ففي ذلك عرض مباشر لشمول فهم القرآن للعموم وقد اتى سيدنا الاستاذ الامام الخوئي رضوان الله عليه بامثلة على ذلك كثيرة، فليراجع34.
نسبة خاطئة
نعم نسب الى جماعة الاخباريين ـ في عصر متاخر ـ ذهابهم الى رفض حجية الكتاب، فلا يصح الاستناد اليه ولا استنباط الاحكام منه، وهي نسبة غير صحيحة على اطلاقه، اذ لم يذهب الى هذا المذهب الغريب احد من الفقهاء، لا في القديم ولا في الحديث، ولا لمسنا في شي من استناداتهم الفقهية ما يشي بذلك، بل الامر بالعكس.
ولعل فيما فرط من بعض المتطرفين منهم بصدد المغالاة بشان اهل البيت ـ وموضعهم القريب من القرآن المجيد ـ بعض تعابير اوجبت هذا الوهم، ومع ذلك فان له تاويل، وليس على ظاهره المريب.
قال المولى محمد امين الاسترابادي (ت 1033):
"الصواب عندي مذهب قدمائنا الاخباريين وطريقتهم اما مذهبهم فهوان كل ما يحتاج اليه الامة الى يوم القيامة، عليه دلالة قطعية من قبله تعالى حتى ارش الخدش وان كثيرا مما جاء به النبى صلى الله عليه وآله وسلم من الاحكام، وممايتعلق بكتاب اللّه وسنة نبيه، من نسخ وتقييد وتخصيص وتاويل، مخزون عند العترة الطاهرة، وان القرآن في الاكثر ورد على وجه التعمية بالنسبة الى اذهان الرعية35، وكذلك كثير من السنن النبوية وانه لا سبيل لنافي ما لا نعلمه من الاحكام النظرية36 الشرعية، اصلية كانت اوفرعية، الا السماع من الصادقين عليهم السلام وانه لا يجوز استنباط الاحكام النظرية من ظواهر الكتاب ولا ظواهر السنن النبوية، ما لم يعلم احوالهما من جهة اهل الذكر عليهم السلام، بل يجب التوقف والاحتياط فيهما"37.
وقال بصدد بيان انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين من المسائل الشرعية،اصلية كانت او فرعية، في السماع عن الصادقين عليهم السلام:
"الدليل الثاني: حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين، اذ معناه: انه يجب التمسك بكلامهم عليهم السلام ليتحقق التمسك بالامرين والسر فيه انه لا سبيل الى فهم مراد اللّه38 الا من جهتهم، لانهم عارفون بناسخه ومنسوخه، والباقي على اطلاقه، والمؤول وغير ذلك، دون غيرهم، خصهم اللّه والنبي بذلك"39.
قلت: ليس في كلامه ـ ولا في كلام من تبعه من الاخباريين المتأخرين ـ ما يشي بترك كتاب اللّه وابعاده عن مجال الفقه والاستنباط نعم سوى عدم افراده في الاستناد، ولزوم مقارنته بالماثور من صحاح الاحاديث الصادرة عن ائمة اهل البيت عليهم السلام.
ولا شك ان في القرآن اصول التشريع وكلياته، وايكال التفاصيل الى بيان النبى صلى الله عليه وآله وسلم الذي اودع الكثير من بيانه بشان التشريع الى خلفائه المرضيين، فعندهم ودائع النبوة، وهم ورثة الكتاب وحملته الى الخلائق.
فلا يجوز افراد الكتاب عن العترة، ولا يفترقان حتى يردا على النبى صلى الله عليه وآله وسلم عند الحوض.
وهذا هو مراد الاسترابادي "لا يجوز استنباط الاحكام من الكتاب والسنة النبوية ما لم يعلم احوالهما من جهة اهل الذكر"، اي بعد الفحص عن الدلائل في كلامهم بشانهم، اما العثور على بيان منهم، او الياس من التخصيص اوالتقييد، فعند ذلك يجوز.
وللمولى الكبير محمد بن الحسن الحر العاملي (1033 ـ 1104) بيان مسهب بشان مواضع آل البيت من القرآن الكريم، وان لتفسيرهم بالذات مدخلية تامة في فهم معاني الايات، ولا سيما آيات الاحكام.
وقد توسع في الكلام حول ذلك في فوائده الطوسية (فائدة48)، كما عقد لذلك ابوابا في كتاب القضا من كتابه وسائل الشيعة، ذكر فيها ما يقرب من مئتين وعشرين حديث، قال بشانها:
"اوردنا منها ما تجاوز حد التواتر، وهي لا تقصر سندا ولا دلالة عن النصوص على كل واحد من الائمة، وقدتضمنت انه لا يعلم المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، وغير ذلك الا الائمة، وانه يجب الرجوع اليهم في ذلك، وانه لا يعلم تفسيره ولا تاويله، ولا ظاهره ولا باطنه غيرهم، ولا يعلم القرآن كما انزل غيرهم، وان الناس غير مشتركين فيه كاشتراكهم في غيره، وان اللّه انما اراد بتعميته (اي الاجمال والابهام في لفظه) ان يرجع الناس في تفسيره الى الامام، وانه كتاب اللّه الصامت، والامام كتاب اللّه الناطق ولايكون حجة الا بقيم (اي من يقوم بتبيينه وتفسيره) وهو الامام، وانه ما ورث علمه الا الائمة، ولا يعرف الفاظه ومعانيه غيرهم، وانه لاحتماله للوجوه الكثيرة، يحتج به كل محق ومبطل، وانه انما يعرف القرآن من خوطب به"40.
وظاهر كلامه هوظاهر عنوان الباب الذي عقده ابوجعفر محمد بن يعقوب الكليني،في كتاب الحجة من الكافي الشريف، لبيان: "انه لم يجمع القرآن كله ولم يحط به علم، ظاهره وباطنه، سوى الائمة من اهل البيت عليهم السلام، وان علم المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص علما كامل، مودع عندهم، ورثوه من جدهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم"41.
وهذا شي لا ينكر، ولا يجوز الاخذ بظاهر الكتاب، ما لم يرجع الى ما ورد عن الرسول وخلفائه العلم، فان في كلامهم التبيين والتفصيل لما جاء في القرآن من الاجمال والابهام، في التكليف والتشريع.
وهكذا فهم معاصره السيد نعمة اللّه الجزائري (1050 ـ 1112) من ظاهر الروايات، وبذلك جمع بين متعارضاتها.
قال: "ذهب المجتهدون ـ رضوان اللّه عليهم ـ الى جواز اخذ الاحكام من القرآن، وبالفعل قد اخذوا الاحكام منه، وطرحوا ما ظاهره المنافاة اواولوه، ومن ثم دونوا كتبا بشان "آيات الاحكام" واستنبطوا منها ما هداهم اليه امارات الاستنباط.
واما الاخباريون ـ قدس اللّه ضرائحهم ـ فذهبوا الى ان القرآن كله متشابه بالنسبة الين، وانه لايجوز لنا اخذ حكم منه، الا من دلالة الاخبار على بيانه.
قال: حتى اني كنت حاضرا في المسجد الجامع من شيراز، وكان استاذي المجتهد الشيخ جعفر البحراني، وشيخي المحدث صاحب جوامع الكلم ـ قدس اللّه روحيهما ـ يتناظران في هذه المسالة فانجر الكلام بينهماحتى قال له الفاضل المجتهد: ما تقول في معنى ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾42 فهل يحتاج في فهم معناها الى الحديث ؟فقال: نعم، لا نعرف معنى "الاحدية" ولا الفرق بين الاحد والواحد ونحو ذلك.
ثم عقبه بكلام الشيخ في التبيان ـ على ما سنذكر ـ واردفه بتحقيق عن المولى كمال الدين ميثم البحراني، بشان حديث التفسير بالراي واخيرا قال: وكلام الشيخ اقرب من هذ، بالنظر الى تتبع الاخبار، والجمع بين متعارضات الاحاديث وحاصل هذه المقالة: ان اخذ الاحكام من نص القرآن او ظاهره اوفحواه ونحوذلك،جائز كما فعله المجتهدون.
قال: يرشد الى ذلك ما رواه امين الاسلام الطبرسي ـ في كتاب الاحتجاج ـ من جملة حديث طويل عن الامام امير المؤمنين عليه السلام قال فيه:
"ان اللّه قسم كلامه ثلاثة اقسام: فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل، وقسما لا يعرفه الا من صفا ذهنه ولطف حسه وصح تمييزه وشرح صدره للاسلام، وقسما لا يعرفه الا اللّه وامناؤه والراسخون في العلم"43.
واصرح من الجميع كلام الفقيه البارع الشيخ يوسف البحراني (1107 ـ 1186) في موسوعته الفقهية الكبرى (الحدائق الناضرة) ذكر اولا الاخبار من الطرفين، ثم عقبها بما حققه شيخ الطائفة ابو جعفر الطوسي (385 ـ460) في المقام، وجعله (القول الفصل والمذهب الجزل) الذي تلقاه العلما بالقبول، قال: قال الشيخ ابو جعفر الطوسي ـ بعد نقل الروايات المتعارضة والدلائل المتناقضة ـ ما ملخصه: "ان معاني القرآن على اربعة اقسام:
احدها: ما اختص اللّه تعالى بعلمه فلا يجوز لاحد التكلف فيه ولعل منه الحروف المقطعة في اوائل السور.
ثانيها: ما يكون ظاهره متطابقا مع معناه، معروفا من اللغة والعرف، لا غبار عليه فهذا حجة على الجميع، لايعذر احد الجهل به، مثل قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ﴾44.
ثالثهما: ما اجمل في تعبيره واوكل التفصيل فيه الى بيان الرسول، كالاوامر بالصلاة والزكاة والحج والصيام، فتكلف القول فيه ـ من دون مراجعة دلائل الشرع ـ محظور منه.
رابعها: ما جاء مشتركا محتملا لوجوه فلايجوز البت في تبيين مراده تعالى بالذات، الا بدليل قاطع من نص معصوم اوحديث متواتر"45.
وبذلك قد جمع الشيخ بين روايات المنع ودلائل الترخيص، باختلاف الموارد.
قال المحدث البحراني ـ تعقيبا على كلام الشيخ ـ: "وعليه تجتمع الاخبار على وجه واضح المنار"46.
قلت: فهذا شيخ المحدثين ورائد الاخباريين في العصور المتاخرة نراه قد وافق القول مع شيخ الطائفة وراس الاصوليين بشان التفسير، والخوض في فهم معاني كلام اللّه العزيز الحميد.
فيا ترى، ما الذي يدعوالى فرض الافتراق في هذا المجال العصيب والحمد للّه على ما انعم علينا من لمس نعومة الوفاق وذوق حلاوة الاتفاق.
دلائل مزعومة
لم نجد في كلام من يعتد به من المنتسبين الى الاخبارية احتجاجا يرفض حجية الكتاب، سوى ماجا في كلام غيرهم من حجج مفروضة، ولعله تطوع لهم في تدليل او حدس وهموه بشانهم، واليك اهم ما ذكروه:
1ـ اختصاص فهم معاني القرآن بمن خوطب به.
2ـ احتواؤه على مطالب غامضة، لا تصل اليها افكار ذوي الانظار.
3ـ النهي عن الاخذ بالمتشابه، الشامل للظواهر ايض، لوجود احتمال الخلاف.
4ـ النهي عن التفسير بالراي، الشامل لحمل اللفظ على ظاهره.
5ـ العلم اجمالا بطرؤ التخصيص والتقييد والمجاز، في كثير من ظواهر القرآن.
6ـ احتمال التحريف ولوبتغيير حرف عن موضعه.
قالوا: انها حجج احتج بها نافوحجية ظواهر القرآن47.
لكن المراجع يجد كلمات من نوهنا عنهم خلوا عن مثل هذا الترصيف الغريب، ولا سيما مسالة التحريف لاتجدها في كلامهم البتة، وانما اوردها صاحب الكفاية تبعا للشيخ في الرسائل، احتمالا في المقام، من غيرنسبته الى الاخبارية او غيرهم48.
والعمدة: ان نظر القوم في مسالة حجية الكتاب، انما يعود الى جانب آيات الاحكام التي اكتنفها لفيف ـ في حجم ضخم ـ من الاحاديث الماثورة بوفرة، حيث جاءت اصول الاحكام في الكتاب وفروعها في الاحاديث،فلا تخلوآية من تلكم الايات الا وحولها روايات عدة.
وفي ذلك ـ بالذات ـ يقول الاخباريون، كسائر الفقهاء الاصوليين: لا يجوز افرادالكتاب بالاستنباط، بعيدا عن ملاحظة الروايات الواردة بشانها.
وهذا هو مقتضى التمسك بالثقلين: الكتاب والعترة، لا يفترقان بعضهما عن بعض.
نعم لا يتضايقون القول بجواز مراجعة سائر الايات، بشان فهم معارف الدين والحكم والاداب مراجعة ذاتية49، اللهم الا اذا وجدت رواية صحيحة صريحة المفاد، فيجب ملاحظتها ايض، كما هي العادة المتعارفة عند المفسرين.
*النفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، من منشورات الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية، ط1، ص82-96.
1- محمد:24.
2- الدخان:58.
3- القمر:17.
4- الزخرف:3.
5- الزمر:28.
6- ص:29.
7- يعني: ان شفع لاحد قبلت شفاعته، وان سعى باحد صدق.
8- اي جاء لبيان الحق وفصله عن الباطل، وليس مجرد تفنن في الكلام والادب الرفيع.
9- فان ظواهر القرآن هي بيان الاحكام التكليفية والتشريعات الظاهرة اما باطنه فملؤه علم وحكمة وحقائق راهنة.
10- اي دلائل لائحة، بعضها على بعض شاهدة.
11- لانه اتى بحديث لايبلى على مر الدهور.
12- اي دلائله على الهداية واضحة لمن رام الاهتدا به، فمن عرف هذا الوصف للقرآن امكنه الاستفادة منه، قال العلامة المجلسي: صفة التعرف والاستنباط(مرآة العقول،ج12،ص 479).
13- اي وليلتفت بنظره الى هذا الوصف للقرآن، وانه هداية عامة لكافة الناس، دلائله واضحة ومعالمه لائحة، لمن استهدى ادلا.
14- النشب: ما لا مخلص منه.
15- الكافي الشريف، ج2 (كتاب فضل القرآن رقم2)، ص 598 ـ 599 والمراد بحسن التخلص: الصدق في الاخلاص وقلة التربص: كناية عن سرعة الاقدام وان لايكف بنفسه عن السعي في الخير.
16- الكافي الشريف، ج2، ص 600، رقم5.
17- النحل:44.
18- بحار الانوار، ج92، ص 107.
19- المحاسن البرقي، ص 267.
20- معاني الاخبار للصدوق، ص 67.
21- بحار الانوار، ج92، ص 183.
22- آل عمران:191 ـ 192.
23- مجمع البيان، ج2، ص 554.
24- الاحاديث مستخرجة من الكافي الشريف، باب الاخذ بالسنة وشواهد الكتاب، ج1،ص 69، رقم 1 و5 و3 و2.
25- المائدة:6
26- المائدة:6
27- المائدة:6
28- المائدة:6
29- هذا بنا على قراءة "وارجلكم" بالخفض، كما هي ايضا قراءة مشهورة، غيران القراءة بالنصب من العطف على المحل كما رجحناه فى مجاله المناسب، غير ان خصوصى ة البعضية مفقودة فيه، حسبما نبهنا عليه.
30- المائدة:6
31- من لا يحضره الفقيه ـ ابو جعفر الصدوق، ج1، ص 56 ـ 57، باب 21، التيمم، رقم1 /212والكافي الشريف، ج3، ص 30 والوسائل، ج1، ص 291(اسلامية).
32- الحج:78.
33- الوسائل، ج1، ص 327، رقم5.
34- البيان لسيدنا الإمام الخوئي - حفظه الله -، ص283-284.
35- اي على وجه الاجمال والابهام من غير بيان التفصيل وذكر القيود والشرائط، فانهاخافية على اذهان العامة غير المطلعين على الشرح والتبيين الذي جا في كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
36- مقصوده من الاحكام النظرية، المسائل غير الضرورية التي هي بحاجة الى اجتهاد واعمال نظر.
37- الفوائد المدنية، ص 47.
38- اي المراد الجدي ـ الذي لا يعرف الا بعد الفحص والياس عن الصوارف من تخصيص او تقييد اوقرينة مجاز، دون المراد الاستعمالي المفهوم من ظاهر اللفظ لمجرد العلم بالوضع ومن الواضح ان التسرع في الاخذ بظاهر الاستعمال، في نصوص الشريعة، غير جائز، الا بعدالتريث والفحص التام.
39- الفوائد المدنية، ص 128.
40- الفوائد الطوسية، ص 191 ـ 192 وراجع: صفحات: 163 ـ 196 والوسائل، ج18، باب 4و5 و6 و7 من كتاب القضا ابواب صفات القاضي صفحات: 9 ـ 41(ط اسلاميه).
41- الكافي الشريف (الاصول)، ج1، ص 228.
42- الإخلاص:1
43- رسالة (منبع الحياة)، ص 48 ـ 52 م5.
44- الانعام:151.
45- الحدائق الناضرة، ج1، ص 32 وراجع: التبيان، ج1، ص 5 ـ 6 ورسالة (منبع الحياة )للسيد نعمة اللّه الجزائري، ص 48 ـ 51 (طبيروت).
46- الحدائق الناضرة، ج1، ص 32.
47- راجع: كفاية الاصول للمحقق الخراساني (آل البيت) ص 281 ـ 282 والبيان للامام الخوئي، ص 291.
48- راجع: رسائل الشيخ (ط رحمة اللّه) ص 40 والكفاية، ص 284 ـ 285 وقد حققنا عن مسالة التحريف في رسالة (صيانة القرآن).
49- راجع: الفوائد الطوسية للحر العاملي، ص 194.