كلمة السيد حسن نصر الله – ليلة التاسع من شهر محرم
2016
كلمة السيد حسن نصر الله – ليلة التاسع من شهر محرم
عدد الزوار: 645
كلمة السيد حسن نصر الله – ليلة
التاسع من شهر محرم 1438هـ/ 2016م
الصبر أعون شيء على الدهر: يمنح الإنسان القوة في مواجهة
التحديات
المحاور الرئيسية
• الصبر أساس النجاح في كل الأعمال
• المقاومة في لبنان لم تنتصر إلا بالصبر
• كربلاء هي الصبر الجميل والعزيز
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا
خاتم النبيين أبا القاسم محمد ابن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه
الأخيار المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
السلام عليك يا سيدي ومولاي يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك عليكم
مني جميعاً سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار ولا جعله الله آخر العهد
مني لزيارتكم. السلام على الحسين وعلى عليّ بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب
الحسين.
السادة العلماء، الإخوة والأخوات، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
قبل أن أدخل إلى حديث هذه الليلة أتوقف عند أمرين، باختصار شديد. الأمر الأول نظراً
لهول المجزرة المروّعة التي ارتكبها النظام السعودي في صنعاء ما بات يُعرف اليوم
بمجزرة صنعاء والتي هزّت العالم وحتى من اعتدنا منه السكوت بدا محرجاً في كل
الأحوال. هذه المجزرة التي تأتي في سياق الحرب العدوانية الوحشية على اليمن وشعب
اليمن منذ أكثر من عام نصف هي تحتاج منّا جميعاً إلى التضامن وإلى التعبير عن
المواساة وإلى الوقوف إلى جانب هذا الشعب المظلوم ولذلك كما حصل في بعض السنوات
الماضية تزامن فيها محرم مع العدوان على غزّة وحوّلنا عنوان العاشر يوم عاشوراء إلى
يوم غزة ويوم التضامن مع غزة يوم عاشوراء. هذه السنة نحن إنشاء الله في حزب الله
وفي المسيرات والمواكب التي نسيّرها يوم العاشر بإذن الله سوف يكون عنوانها التضامن
والمواساة والتأييد والمساندة للشعب اليمني المظلوم، للجيش اليمني واللجان الشعبية
الصامدة المقاومة البطلة التي صمدت كل هذا الوقت في مقابل حرب كونيّة أيضاً من نوع
آخر وأيضاً إلى جانب قيادة هذا الشعب الشجاعة والصلبة والقوية. وأنا أطلب من الإخوة
والأخوات الاهتمام بهذا المعنى وبهذا المضمون وبهذا المظهر ولذلك الإخوة في المناطق
معنيون أن يرتّبوا إن شاء الله المادة الإعلامية المناسبة سوف نحمل الأعلام
اليمنيّة إلى جانب أعلام العزاء وكما سنهتف للحسين (عليه السلام) والمقاومة سنهتف
لهذا الشعب المقاوم والمجاهد والمظلوم والأبيّ.
الأمر الثاني، أيضاً يجب التوقف باحترام وتقدير عالي أمام العملية البطولية التي
نفذها بالأمس مجاهد فلسطيني ومقاوم بطل وشجاع هو الشهيد المجاهد مصباح أبو صبيح في
قلب القدس في داخل المكان الذي يعتبره الصهاينة آمناً ومحكماً فقتل منهم وجرح
واختار طريق الشهادة أن نعلن تقديرنا هذه الليلة لهذا العمل البطولي وما له من
دلالات نتحدّث عنها لاحقاً إن شاء الله في الليلة السياسية إن صحّ التعبير، أيضاً
التضامن مع عائلته المجاهدة والمقاومة ومع ابنته إيمان التي اعتُقلت فقط لأنها
جاهرت بافتخارها بأبيها المجاهد وبأبيها الشهيد وبخيار أبيها في المقاومة. على كلّ
هذا أيضاً أمرٌ يُقدَّر ويُعلى شأنه وله دلالاته المهمة في سياق ما يجري في المنطقة.
في الليلة الخامسة تحدّثنا من شعار هذا العام "عاشوراء صبر ونصر"، تحدثنا عن النصر.
اسمحوا لي هذه الليلة أن نتحدث عن الصبر الذي يأتي منه النصر. لكن، سندخل من خلال
المدخل الطبيعي إلى حديثنا بشكل منسجم.
الحياة الدنيا دار عمل وإمتحان للإنسان
قلنا في الليالي السابقة وفيما مضى وفيما هو معروف لديكم، إنّ الله تعالى خلقنا
وأسكننا هذه الأرض وقدّر لنا حياتين، الحياة الدنيا والحياة الآخرة. نحن هنا على
هذه الأرض نعيش كأفراد وبشريّة وناس حياتنا الدنيا. وجعل الله تعالى هذه الحياة على
الأرض مرحلة للاختبار وللامتحان، امتحان الإنسان كفرد والإنسان كجماعة، ما يسميه
القرآن بالابتلاء، الأدبيات القرآنية الابتلاء، يبتلي، يبتليكم، يبلوكم إلى آخره.
قال الله تعالى
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلاً﴾
لأننا نحن موجودون الآن في هذا العالم، في هذه المرحلة من الحياة، نعيش حالة
الامتحان والاختبار والابتلاء ليثبت كل واحد منّا من هو الأحسن عملاً وقال تعالى:
﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن
بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾.
• عمل الإنسان يحدد مصيره في الحياة الدنيا والآخرة
إذاً نحن محطّ النظر الإلهي. عملنا، قلوبنا، كيف نعمل في هذه الدنيا هو الذي سيحكم
على مصيرنا في الدنيا وهو الذي سيحكم على مصيرنا في الآخرة. والله تعالى زوَّد
الأرض والكون بكلّ ما يحتاجه الإنسان وسخَّر ذلك لنا وأعطانا حرية الاختيار، اختيار
الطريق الذي نريد ونشاء، اختيار العقيدة، الفكر، الثقافة، السلوك، العمل، وأعطانا
العقل، وهدانا جميعاً إلى طريق الحق ودلّنا على طريق الحق ودلّنا على طريق الباطل
﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾
(البلد: 10). أي أنه أضاء لنا الطريق، كلّ الطرق. هذه هي الهداية العامّة. وبعث لنا
الأنبياء والرسل وأنزل علينا الكتب السماوية ووضع لنا الشرائع الإلهيّة التي تنظّم
كل تفاصيل حياتنا. وكما قلت في الليالي السابقة دلّنا على العدوّ، عدوّنا الحقيقي
والأساسي، إبليس وجنده وعلى ما لدينا نحن من قوة وضعف في أنفسنا؛ النفس الأمّارة
بالسوء. وقال لنا هنا دار العمل أروني ماذا تعملون. وقال سأختبركم وأمتحنكم
وأبتليكم لنرى النتيجة.
موارد الإبتلاء والإمتحان
إنّ الله تعالى أيها الإخوة والأخوات، يمتحننا ويختبرنا ويبتلينا في مجالات متعددة
أهمها ما يلي من عناوين:
1- العنوان الأول: الطاعات، ما أمرنا الله به
من طاعات وما نسميه من واجبات أيضاً: الصلاة، الصوم، الحج، الزكاة، الخمس، الجهاد
في سبيل الله، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى آخره. هل نؤدي هذه الواجبات؟ هل
نلتزم بهذه الطاعات أم لا؟
2- العنوان الثاني: المعاصي والذنوب، مثلاً:
الكذب، الغيبة، النميمة، قتل النفس المحترمة، عقوق الوالدين، العدوان، الظلم إلى
آخره. هل نجتنب هذه المعاصي والذنوب أم نرتكبها؟
3- العنوان الثالث: المصائب، ما يجري في هذه
الأرض وعلى الناس فيها منذ أن هبط آدم وزوجه وإبليس إلى الأرض إلى قيام الساعة. هذه
الدنيا مليئة بالمصائب. والإنسان يُصاب في نفسه، في صحته، في عافيته، في أحواله، في
أمواله، في وُلده، في أعزاءه، في أهله. هذه الدنيا فيها مصائب. كيف نواجه هذه
المصائب؟ نسقط أمامها، ننحرف بسببها، نتخلّى عن عبوديتنا لله عزّ وجلّ، نترك الواجب
ونرتكب المعصية بسبب ما ابتُلينا به من مصائب أم نتحمّل ونصمت؟
4- العنوان الرابع: النِعَم. ما أنعم الله
تعالى به علينا في هذه الدنيا ـ
﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾
ـ النعم العامّة والنعم الخاصّة. أنشكر أم نكفر؟ هل نشكر هذه النعم ونستخدمها في
طاعة الله، وفي خير الناس، وفي خير الدنيا والآخرة أم نكفر بهذه النعم فنعاند من
خلالها ربها وربنا ونسيء استخدامها بما يلحق الأذى والضرر بالناس وبحياتنا الدنيا
وبآخرتنا. هذه كلها موارد الابتلاء والامتحان والاختبار.
هذه المقدمة كلها كي نصل للصبر.
عمل الإنسان يكتنفه دوما عقبات وصعوبات
هذه الدنيا ليست الجنّة التي باستطاعتكم أن تأكلوا منها حيث شئتما رغداً، كلا،. هذه
الدنيا منذ أن يولد الإنسان، بل منذ أن هبط إليها الإنسان، وفي كل جيل، وفي كل زمان،
في كل مكان، يجب أن يعمل ويكدح، ويجهد ويشقى من أجل أن يحافظ على
نفسه، وعلى صحته، وعلى عائلته، وعلى أعزاءه، وعلى الناس من حوله، من أجل الطعام،
والشراب، والأمن، والأمان، والكرامة، والهناءة، والسعادة، والسلامة، والعافية. كل
شيء يتطلّع إليه الإنسان لا ينزل عليه من السماء دون عمل ودون جهد؛ يحتاج إلى عمل،
أي يحتاج إلى جهد، وكل جهد يُبذل من خلاله طاقة ويواجه فيه صعوبات، ومعاناة،
وتحديات وتضحيات.
في معترك هذه الحياة ونحن نعمل بشكل طبيعي وبشكل غريزي وفطري لنبقى ونستمر، وأيضاً
في مواجهة عناوين الامتحان وأيضاً في مواجهة الصعوبات – لأن طريقنا ليس سهلاً ـ
فهنالك عدوّ يتربّص بنا ويقطع علينا الطريق وينصب لنا الكمائن، يُزيّن لنا، يوسوس
لنا. وهناك نفس أمّارة بالسوء؛ هناك شهوات. إذاً نحن أمامنا صعوبات وتحدّيات كبيرة
جداً.
إجتياز العقبات وتذليل الصعوبات يحتاج إلى الصبر
لنستطيع أن نعبر كل هذه الصعوبات والتحديات والامتحانات، نحن يجب أن نستعين بمجموعة
أمور ونتسلّح بمجموعة مسائل: الإيمان، العقل، التقوى، العلم، التخطيط، التعاون بين
الناس، الوَحدة، التنظيم؛ نظم الأمر، الإمكانات، العمل الجماعي، الجهد، الفعالية،
العمل الدؤوب. لكن رأس هذه الأمور كلها، رأس هذا الإيمان هو –بحسب الروايات- الصبر.
هنا ندخل في الموضوع.
الصبر. الله سبحانه وتعالى، في هذه المعركة، هو دلّنا وقال لتستطيعوا أن تكملوا
الطريق وتواجهوا التحديات... إلى آخره، دلّنا على ماذا نستعين، وبماذا نستعين.
قال الله سبحانه وتعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
(البقرة: 153). وقال تعالى في آية أخرى:
﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ
وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ
أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾
(البقرة: 45-46).
إذاً الاستعانة، بالصبر وبالصلاة. الصلاة سنعقّب عليها لاحقاً لأنّ موضوعنا الأساسي
هو الصبر، وهو الذي يعيننا في هذا الطريق الطويل.
الصبر لغة: تحمل المصاعب والمشقات
نأتي لمقولة الصبر، أولاً الصبر في اللغة يعني حبس النفس عند الجزع، عند التحدي،
عند المصيبة، عند الألم، عند المواجهة... أيّ شيء؛ حبس النفس.
والكفّ في الضيق، يعني يلم حاله، يكفّ حاله، يضبط حاله. إذا تكلمنا بالأدبيات
المعاصرة نقول التحمّل، الانضباط، ضبط النفس، استيعاب الضغوط والصعوبات، ومحاولة
التغلب عليها نفسياً. هذا الصبر.
تحمل "الشقاء" لا يدخل في مرادنا من "الصبر"
طبعاً، بكل شيء سنتحدث به عن الصبر ليس المقصود به الصبر الذي تتحدّث عنه الآيات
والروايات وقُدِّم كعونٍ أساسيّ في طريق الحياة، إلى الحياة وإلى الآخرة، ليس بمعنى
تحمّل الشقاء. مثلاً أننا مظلومين ومضطهدين، فلا نحرك ساكنا ونخنع ونسكت أو نعاني
الجوع ونستكين ولا نعمل ونصبر على الجوع، أو أرضنا محتلة ومعتدى علينا وأعراضنا
تُهتك وأموالنا تُنهب، فنحن جماعة صابرة ولا نحرّك ساكناً. لا، ليس هذا المقصود
بالصبر. إنما يعني تحمّل المصاعب والمشقّات والمقاومة النفسية والثبات الروحي أمام
جميع المشكلات والأحداث الجزئية أو الكبرى التي تواجهنا كأفراد أو كجماعة. هذا معنى
الصبر.
القرآن الكريم ـ بمعنى صبر، يصبر، صبروا، صابرون، صابرين، بما صبروا.. إلى آخره، ـ
تحدَّث عن هذا الموضوع أو تطرّق لهذا المعنى أكثر من سبعين موضعاً في القرآن الكريم.
وإذا نظرنا إلى فهرس الآيات تحت عنوان صبر نجد مدى اهتمام القرآن بهذا الموضوع. أما
الروايات والأحاديث الشريفة فإلى ما شاء الله.
الصبر أساس النجاح في كل الأعمال
إذاً، نبدأ من الأساس، لدينا حديث شريف يقول أن: الصبر هو الأساس في المعونة في
الاستعانة، وهو الرأس. حديث يقول بأنّ الصبر هو أساس الإيمان، رأس الإيمان وأساس
الإيمان، وأيضاً في ما هو أعمّ من الإيمان،؛ في أمورنا العامّة: سياسيّة، عسكريّة،
أمنيّة، اجتماعيّة، معيشيّة، اقتصاديّة، حياتيّة... إلى آخره؛ مطلق الأمور. وأساس
النجاح فيها هو الصبر.
الحديث الأول: "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد".
كذلك: "إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان". فبدون الصبر لا يمكن القيام بالطاعات وبما
ينبغي ولن يصمد أمام الشهوات والمعاصي وسينهار أمام المصائب فيخسر إيمانه.
الحديث الثاني" "الصبر في الأمور بمنزلة الرأس من الجسد"؛ الأمور العامة. ونحن هنا
لا نتحدّث فقط عن الإيمان. فإذا فارق الرأس الجسد فَسُدَ الجسد. وإذا فارق الصبر
الأمور فسدت الأمور. فبدون الصبر لا تُحلّ الأمور وهذا بحاجة إلى استدلال في حياتنا
الشخصية، والعائليّة، وفي الدراسة فإذا لم يتمتّع أحدٌ ما بالصبر للدراسة فلن ينجح
بالامتحان. وأيضاً في العمل، والإنتاج، والزراعة، والصناعة، والتجارة، والقتال،
والدفاع، والأمن، بالعيش المشترك وتحمّل بعضنا البعض، كل هذه المعاني دون صبر تفسُد
ويذهب كل شيء للمواجهة والتحدي والاصطدام والسلبية عندها ينهار كل شيء.
الصبر يمنح الإنسان القوة في مواجهة التحديات
هذا الصبر، بهذا المعنى، هو في الحقيقة الذي يجعل الإنسان قوياً. ونحن هنا لا نتحدث
عن الصبر كموضوع أخلاقي. بل؛ هذا الصبر عندما يطالبنا الله فيه هو لا يطالبنا فيه
كشأن أخلاقي، روحي، معنوي نُؤجر عليه مثلاً. بل هو يدلّنا كيف نصبح أقوياء في
مواجهة التحدّي. الصبر، التحمل، الثبات يجعلنا أقوياء. ولذلك، العلماء، ـ حتى علماء
الاجتماع أحياناً؛ أنه في موضوع الصبر والتحديات والمواجهات ت الذكاء مهم
والإمكانيات مهمة والكفاءة مهمة، وهناك عوامل مهمة جداً ولكن ـ أهم عامل هو الصبر.
فإذا كان لدينا جبهة، قيادتها ذكية، وإمكانياتها ضخمة، وناسها ومقاتلوها وسياسيوها
كفوئين، لكن ليس لديهم صبر ولا طاقة تحمّل؛ لا يتحملون التضحيات، وغير جاهزين للبذل
والألم. بمعنى غير جاهزين للصبر في هذه الحالة سيخسرون المعركة. بينما جبهة أخرى،
قد تكون أقل ذكاءً وأقل إمكانية وأقل كفاءة وأقل عدد ولكن لديها صبر شديد وتحمل
كبير؛ هنا من الممكن أن يكون النصر لهم والنجاح لهم.
هذا المعنى، سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي، حتى أن الآيات
الكريمة تشير إليه:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ
عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ
وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾
(الأنفال: 65). وهنا لم يقل إن يكن منكم عشرون مقاتلون، عشرون فوارس يركبون الخيل،
أو كما الآن، في المصطلحات الحديثة عشرون يقودون الدبابات، أو عشرون جنرالات...
وهذه تفاصيل أخرى. هو قال عشرون صابرون. هذا الصبر هو الميزة التي تجعل هؤلاء
العشرين يغلبوا المئتين.
الصبر يمنح الإنسان الطاقة على مواصلة الطريق أيضا
فالصبر هو عامل قوة في الحقيقة، وعامل تثبيت وتمكين وتصليب ولذلك أيضاً في الروايات
تحدّثوا عن النتائج، نتائج الصبر في الدنيا قبل نتائجها في الآخرة. الصبر يعطي
الإنسان طاقة جديدة ليس على تحمّل ما مضى بل على مواصلة العمل. لأن الصبر هنا ليس
بمفهوم سلبي، وليس المقصود أن نتحمّل ونخنع، نتحمّل ونسكت، نتحمّل ونقبل، إنما
المقصود أن نتحمّل ونواصل الطريق. تُقطع يد العباس لا يتوقف بل يواصل الطريق. تُقطع
يده الأخرى يواصل الطريق. طالما هناك طاقة للعمل، وإمكانية للعمل، وفرصة لإيصال
الماء، وفرصة لمواجهة العدو والدفاع عن الحسين؛ العبّاس يواصل صابراً محتسباً.
الصبر يعطينا أيضاً هذه الطاقة، وهذه القوة، والقدرة على مواصلة العمل ومواصلة
الطريق ويمنعنا من أن نسقط، ومن أن ننهار، أن ننهار أمام شهوة أو رهبة أو تعب أو
مصيبة أو فَقد عزيز أو كارثة أو جوع أو ما شاكل.
المقاومة في لبنان لم تنتصر إلا بالصبر
وفي الأحاديث الشريفة يُروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه يقول: إنّ
النصر مع الصبر. فيا إخوان وأخوات: بدون صبر لا يوجد نصر. هذه المقاومة في لبنان
انتصرت بالصبر، صبر الناس، أهالي القرى، أهالي البلدات، أهالي المدن، الذين هُجّروا،
والذين قُصفوا، والذين عاشوا عشرات السنين على خطوط التماس، صبر المجاهدين، صبر
عوائل الشهداء، صبر الجرحى وعائلاتهم، صبر الأسرى والمعتقلين في السجون وعائلاتهم،
صبر الناس على شظف العيش وعلى ترتيب الأولويات. رغم كل الحرب الأمنية والعسكرية
والتدميرية والنفسية والترهيبية والتخذيلية، كل هذا كان يُخاض، ولكن لأنّ الناس
صبروا، لأنّ المقاومة والمقاومين صبروا، لأنّ بيئة المقاومة صبرت واحتضنت وواصلت
الصبر كان هذا الانتصار وكانت هذه الانتصارات.
الصبر أعون شيء على الدهر
الصبر مفتاح الفرج، الصبر يأتي بالظفر ويأتي بالنجاح ويأتي بالرضا والطمأنينة وبه
تُدرك معالي الأمور، والنتائج الممتازة. الذي يريد تحصيل شهادة عالية، الذي يريد
تحصيل مستوى علمي عالي، الذي يريد تحصيل رفاه لمجتمعه ويحلّ مشكلات مجتمعه، الذي
يريد الدفاع عن بلده حتى في مواجهة أعتى الطغاة من أجل الكرامة والسيادة، كلّ هذا
يأتي بالصبر، هذه معالي الأمور تأتي بالصبر.
والصبر يخفّف المحنة ويهوّن الهموم والفاجعة والمصيبة، وورد في الحديث هو أعون شيء
على الدهر يعني أكثر شيء يعيننا على دهرنا، على تحدياتنا، على مصائبنا، على
مسؤولياتنا هو هذا الصبر.
في الآخرة يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب
إذاً في الدنيا أصبحت واضحة النتيجةز أمّا في الآخرة إذا راجعنا الآيات نرى بما جزى
الله سبحانه وتعالى الصابرين، وماذا أعدّ لهم بما صبروا من جنّة ونعيم إلى آخره
ولكن يكفي الاستشهاد بهذه الآية الشريف؛ يقول الله عزّ وجلّ:
﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ
وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
(الزمر: 10) وهذا أعظم شيء في الآخرة،. وذلك لأنك من فئة الصابرين؛ لا يُنشر لك
كتاب، ولا يُنصب لك ميزان، ولا تُحاسَب، ويُقال تفضل إلى جنان الخُلد وتُوفّى أجرك,
التوفّي يعني أن تُعطى أجرك كاملاً غير منقوص. هذا المعنى أشارت له رواية عن الإمام
الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إذا نُشرت
الدواوين يوم القيامة ونُصبت الموازين من لحظة التكليف إلى لحظة خروج الروح من
الجسد ـ في تلك المحكمة الإلهية العادلة المحيطة وفيها الشهود والأدلة وعدم إمكانية
للتزوير ولا شهادة زور، ولا إمكانية كذب ولا لعب، وتشهد عليك الأرض والسماء
والجدران، ويديك ورجليك، وجلدك، ولسانك، وعينيك، هذا الموقف ما الذي ينجيك منه؟.
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تفسيراً للآية أيضاً يدلّنا إلى الطريق: إنّما
يُوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب ـ "إذا نُشرت الدواوين ونُصبت الموازين لم يُنصب
لأهل البلاء ميزان". طبعاً لأهل البلاء الذين صبروا وليس أهل البلاء الذين سقطوا
وأصبحوا عملاء وخونة وفاسدين ومفسدين ولصوص ومجرمين وقتلة وتجّار مخدّرات ومشيعين
للفحشاء والمنكر في مجتمعهم. "لم يُنصب لأهل البلاء ميزان ولم يُنشر ديوان" ثم تلا
هذه الآية
﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم
بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.هذا
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
الأجر في الصبر على الطاعات
عندما نأتي لموضوعات الصبر، التصنيف، أيضاً في الروايات الشريفة: صبرٌ على الطاعة
وصبرٌ على المعصية، وصبرٌ على المصيبة. هذه عناوين الصبر في الأحاديث الشريفة.
المعنى واضح ولكن لمزيد من التبيين. الصلاة يلزمها الجهد وخصوصاً في البدايات،
بعدها تصبح عادة ويصلي أوتوماتيكياً لكن في البدايات وخصوصاً في سنّ الشباب يلزمها
جهد. أداء الصلاة خصوصاً في أوقاتها وبالأخص صلاة الصبح، يحتاج إلى صبر . الصوم
يحتاج إلى صبر خصوصاً أيام الصيف والساعات الطويلة في أيام النهار. الحج يحتاج إلى
صبر. الجهاد، الدفاع يحتاج إلى صبر. هذا صبرٌ على الطاعة. دفع الزكوات، دفع الأخماس،
أن يُخرج الإنسان من ماله ما هو حق لله عليه في ماله؛ هذا يحتاج إلى جهد وبالتالي
إلى صبر. إذاً هذا الصبر على الطاعة، الذي يريد القيام بالطاعات عليه أن يصبر.
الصبر ينجز الطاعات.
الأجر في الصبر على المعاصي
الصبر على المعصية. ترك الغيبة فيه مشقّة بالنسبة لبعض الأشخاص، فيلزمه صبر، والكذب
أيضاً يلزمه الصبر. إجتناب الشهوات يلزمه صبر، فمن الممكن أن يجد طريق الحلال مسدود
أمامه، وغير متاح فعلياً أمامه؛ وهو يريد أن يشبع شهواته ورغباته وغرائزه فيندفع في
طريق الحرام. الصبر هو الذي يعينه في الابتعاد عن طريق المعصية.
الأجر في الصبر على المصائب
تحمّل المصائب واضح؛ كلنا نعيشه، وليس بحاجة لشرح. فَقد الأعزّة، فَقد الأحبّة،
ارتقاء الشهداء، الجرحى، الفقر، الجوع، شظف العيش، المصائب في البلد، في المنطقة،
في العالم، هذه كلها مصائب يواجهها الناس. معنى الصبر على هذه المصائب مفهوم.
الصابر يؤجرإذا كان صبره في الله ولله
في كلّ صبر هنا يُؤجر الإنسان، إذا كان صبره لله عزّ وجلّ. وهنا طبعاً الأجر مرتبط
بالخلفيّة والنيّة. مثلاً أحدٌ ما يجوع في شهر رمضان؛ يصوم للقيام بالريجيم لتخفيف
وزنه، فيوم القيامة ليس لديه شيء عند الله. فالله يقول له أنت صمت لعمل الريجيم
وخففت من وزنك فالنتيجة أخذتها من الدنيا. الله يعطي النتائج في الدنيا لكل الناس.
هذا بحثٌ آخر. العمل له نتائج: بوجود نيّة أو عدم وجودها، مؤمن أو غير مؤمن هذا بحثٌ
آخر. هذا القانون حاكم في الحياة. إذا كان صبرك لله، صومك لله، حزنك لله، ثباتك لله،
طاعتك لله، ابتعادك عن المعصية لله وانسجاماً مع نهي الله عزّ وجلّ فمن المؤكّد أنّ
الإنسان يُؤجر.
أفضل الصبر ما كان أعظم مشقة
ورد في بعض الأحاديث، ما هو أفضل الصبر؟ الصبر على المعصية من أفضل الصبر. لأنّ
هناك نوعا من المعاصي رغم عدم كثرتها ـ فالحرام في النهاية محدود ـ لكن هناك نوعا
من المعاصي يصرّ عليه الشيطان بشكل كبير وأيضاً يجد له دوافع قوية في شهواتنا وفي
رغباتنا. ولذلك يصبح دور الإنسان أن يقاوم حتى لا يقع في الحرام، حتى لا يشرب هذا
الحرام ويأكل هذا الحرام، ويقارب هذه العلاقة المحرّمة، أو يقوم بهذا العمل الحرام
أو يقول هذا القول الحرام وما شاكل. فالإنسان كي يردّ نفسه من الغضب يلزمه جهد كبير
وصبر كبير. ليس فقط الأكل والشرب والجنس وأمور أخرى. من المعاصي المشهورة والعابرة
للناس جميعاً؛ الغضب. أبسط كلمة تجعله يغضب، ويسب ويشتم، ويلعن، ويطلق النار، ويقتل.
إذاً كي يمسك نفسه بحاجة إلى صبر؛ إلى أعلى مستوى من الصبر. لذلك ورد في الروايات
أن أفضل الصبر هو الصبر على المعصية. وهذا معقول ومنطقي إذا تحدّثنا عن واقعنا لكن
مع ذلك ورد في بعض الروايات أن أفضل الصبر هو الصبر على مرّ الفجيعة، الفجائع،
المصائب الشديدة القاسية. يمكن الجمع إخواني وأخواتي بين الروايات أن نقول أن
الطاعات أساساً ليست جميعها مستوى واحد بالتعب والمشقّة. فالصلاة أهون من الصوم،
الصوم في شهر رمضان 30 يوم أهون من الجهاد عشرات السنين، بالنسبة لبعض الناس الصوم
أهون من دفع الخُمس مثلاً، إذاً مشقة متفاوتة في الطاعات، وأيضاً مشقة متفاوتة في
مواجهة المعاصي، نوع من المعاصي كي تتجنّبه لا يلزمك جهد كبير، لكن نوع آخر من
المعاصي فيه إغراء كبير وشهوة كبيرة، الشيطان مجنّد ومستنفر لاستقطابك طبعاً هذا
يلزم جهد أكبر ومشقة أكبر. كذلك المصائب، تتفاوت بين مصائب بسيطة وكبيرة وعظمى،
مثلاً مصيبة أن يجرح أحد ما يده لكن مصيبة أكبر أن تُقطع يده، ومصيبة أكبر أن يموت
ولده، ومصيبة أكبر أن يموت اثنين وثلاثة من أولاده في نفس الوقت. إذاً المصائب
عندما تأتي ليست كلها بمستوى واحد. يمكن أن نقول أن الصبر الأفضل هو الصبر على ما
فيه مشقّة أعظم ولذلك قالت الرواية: على مرّ الفجيعة. الفجيعة المرّة، القاسية،
الصعبة، الصبر عليها قاسي وصعب جداً، ولذلك هذا أفضل الصبر. والأجر على قدر المشقّة.
بقدر ما يتحمّل الإنسان من مشقّة ومن صعوبات.
لذلك نحن نقول أن الصبر على ما جرى في كربلاء صبر الحسين (عليه السلام) وأصحاب
الحسين وأولاد الحسين، صبر زينب (عليها السلام)، صبر النساء والأطفال في كربلاء، هو
أعظم الصبر وأفضل الصبر وأكبر الصبر، بلا جدل وبلا نقاش، لأنّ هذا صبرٌ على مرّ
الفجيعة.
من يتصبر يصبّره الله
المسألة الأهمّ بعد كل هذه المعلومات أو المعطيات ـ أيها الإخوة والأخوات ـ من أين
نأتي بالصبر؟ أولاً، نأتي به من مَنْ؟ من عند مَنْ؟ من مَنْ عنده خزائن السموات
والأرض؛ من الله سبحانه وتعالى. نطلبه من الله، ونرجوه من الله، نتصبّر ونطلب العون
من الله. الله يعطينا الصبر. هو كريم، جواد، رحيم، لطيف، رؤوف. ولو أن العبد
المبتلى بمصيبة، أو مبتلى بشهوة، أو مبتلى بقلّة عزم على القيام بالطاعة وهو يستعين
به ويطلب منه أن يعطيه الصبر، أن يصبّره، أن يمكّنه، أن يقوّيه، أن يثبّته... فالله
يعطيه. وهو الذي قال لنا :واستعينوا بالصبر والصلاة"، ووعدنا وقال: "إنّ الله مع
الصابري". هنا، مع معيّة العون، الإعانة، المساعدة، إنّ الله – كما يقول المفسرون-
إنّ الله يعين الصابرين، ويساعدهم، ويكون معهم، ولا يتركهم، ولا يكلهم إلى أنفسهم
ويقوّيهم وينصرهم ويسدّدهم... إلى آخره.
فإذاً الأمر الأول هو أن نطلب الصبر من الله سبحانه وتعالى وهو وعدنا بأن يكون معنا
عندما نتصبّر ونصبر ويزيدنا صبراً وقوة وثباتاً وحبوراً. لذلك ورد في الحديث عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من يتصبّر، أي يطلب من الله سبحانه وتعالى
ويدعوه أن يعينه ويصبّره؛ يصبّره الله.
ذكر الله يزيد من عزيمة الصابرين
ثانياً، ذكر الله سبحانه وتعالى –بغض النظر عن الدعاء وطلب العون وطلب الصبر-، نفس
أن الإنسان في هذه التحديات الشخصية أو العامة، يذكر الله عزّ وجلّ، هذا يعين
الإنسان ويمكّنه من أن يصبح صابراً وأن يقوى صبره.
الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ
وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ﴾
(البقرة: 155)، هذا قانون إلهي في هذه الحياة الدنيا. بشيء من الخوف، يعني فقدان
الأمن مثلما يحدث اليوم في الكثير من البلدان. والجوع، موضوع المعيشة والاقتصاد.
ونقص من الأموال والأنفس، فقدان الأعزّة. وبشر الصابرين، من هم هؤلاء؟ وماذا يفعلون
كي يصبروا وحتى تكون لهم هذه البشارة؟
﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ
إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾
(البقرة: 156). لذلك نرى في الثقافة الشعبية وفي تربية الناس يسري بشكل طبيعي جداً
وحتى دون انتباه أحياناً عندما يأتي خبر سيّئ أو خبر محزن ـ فلان مات ـ يقولون: "إنّا
لله وإنّا إليه راجعون". هذا ما تربينا عليه من الآباء والأجداد وهو أصبح جزءا من
الثقافة الشعبية التي جاء بها الدين إلى الناس.
لكن المقصود هنا، الذكر بوعي وبفهم. "إنّا لله وإنّا إليه راجعون". عندما نتأمّل
هذه الكلمات، إنّا لله نحن ملكٌ لله عزّ وجلّ يفعل بنا ما يشاء، هو يحيينا ويميتنا،
يعزّنا، ويذلّنا، ويرفعنا، ويضعنا، ويبتلينا، ويعفو عنّا، ويحاسبنا، وينصرنا... إلى
آخره. بالتالي نحن بين يديه، عبيد له، وملكٌ له. أموالنا، ثمراتنا، أولادنا،
أزواجنا، مصيرنا، حياتنا... إنّا لله. "وإنا إليه راجعون"، عندما يكون هناك علاقة
بموت وفقدان الأنفس والأحبّة والأعزّة، فمرجعنا إلى الله سبحانه وتعالى. هذه
الكلمات؛ تكرار إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وتكرار لا حول ولا قوة إلا بالله،
وتكرار ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله، يُعين الإنسان على المستوى النفسي،
يُثبّته ويُهدّئه، ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
إذاً؛ هنا الذاكرون لله عند المصيبة مثلاً، أو عند التحدّي، أو عندما يحتاج إلى صبر،
الله سبحانه وتعالى يقول عنهم
﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ
وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾
(البقرة: 157). من خلال هذا الذكر لله عزّ وجلّ، والحضور بذهننا أنّ الله حاضر
ويرانا ومن خلال فهم الكلمة التي نقولها الله يعطينا ثلاثة أشياء بحسب الآية:
1- صلوات من ربهم. تصوروا أن يصلّي الله على الناس. وعندما يصلي الله فهذا معناه أن
الله يباركهم. والله يزكّيهم. والله يرحمهم. والله يتلطّف بهم. هذه الصلوات من الله.
2- رحمة من الله. يرحمهم.
3- الهداية. يهديهم إلى الطريق وكيف يكملون. يبقى عقلهم متماسك، وأعصابهم متماسكة.
وإرادتهم صلبة. يعينهم ويأخذ بيدهم ويكملون الطريق. يتجاوزوا المصيبة والمعاناة،
والتحدي، والخطر، والشهوة، والرهبة، وإبليس وجنود إبليس، والنفس الأمّارة بالسوء.
صلوات ورحمة وهداية، ذكر الله عزّ وجلّ.
وهكذا عند الطاعة، عندما يريد الإنسان عمل الطاعة يتذكر ما أعدّه الله سبحانه
وتعالى لهذه الطاعة وللعاملين بها من أجر وثواب وجنان ونعيم وخُلد وعزّ وشرف وكرامة
في الدنيا والآخرة. هذا الذكر لله، وبما وعده الله يشوّق الإنسان على فعل الطاعة
ويجعله يصبر على مشاقها.
كذلك في المعصية، عندما يتذكّر الإنسان ربه ونهي الله له عن ارتكاب المعصية، وما
أعدّه من عقاب، وحساب، وعذاب، ونار، وغِسلين، وسرابيل من قطران... حينئذٍ يخاف،
يحصل لديه الرهبة، وهذا الذكر يعينه على الصبر فيرتدع عن المعصية.
هذه المعاني يجمعها حديثٌ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "الصبر
أربع شعب: الشوق، والشفقة، والزهادة، والترقّب فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات،
ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا (إنّا لله وإنّا إليه راجعون)،
استهان بالمصيبات، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات"؛ لأن الوقت غير متاح وغير
معلوم فترة بقائه على قيد الحياة فيستفيد من الوقت ويسارع إلى الخيرات.
عدم التعلق بالدنيا يهوّن من المصائب والشدائد
نضيف إلى هذين العاملين الأساسيين، أيضاً من خلال الروايات، أمرين آخرين.
الأمر الثالث، عندما يكون لدينا فهم وقناعة وانتباه. لأنه أحياناً نسقط في الغفلة،
وفي النهاية هذه الدنيا محدودة. وأحياناً عندما تحصل بنا مصيبة ما فخلال أيام
معدودة ننساها أو تُنتسى أو كم يوم وتهون، وكل شيء في هذه الدنيا محدود وضيق وصغير
مهما تعاظم ومهما كَبُر لأنّ الدنيا أساساً صغيرة ومحدودة وفانية. فإذا كانت نظرتنا
للدنيا وما في الدنيا، ما نربحه أو نخسره، ما نفقده أو نحصل عليه، هي نظرة هذا
الفهم العقائدي والإيماني حينئذٍ تبقى المصيبة أهون؛ يبقى الذي يضيع من أيدينا أهون،
نصبر عليه ونتحمّله.
اليقين بعدم رد "المقدّر" يبعث على الصبر
وأيضاً ـ وهذا معنى ورد في العديد من الروايات، وهو الأمر الأخير ـ أنه مقابل الصبر
يوجد الجزع. هناك حديث لأمير المؤمنين (عليه السلام) بهذا المعنى: أنك في حال جزعت
فالمقادير ستأتي إليك. فالمصيبة حدثت، والواقعة حصلت، فما الذي سيتغيّر من الواقع؟
سواء جزعنا أم صبرنا هذا لن يغيّر من الواقع شيئاً. لن يعيد الميت إلى قيد الحياة،
وما احترق من مالنا لن يعيده. ما فقدناه من أرض بالاحتلال لن يعيده. هذا الجزع لن
يعيد إلينا شيئاً. وأيضاً لا نحصل منه على أجر لأننا جزعنا ولم نصبر يعني لا فائدة
دنيوية من الجزع ولا فائدة أخروية من الجزع. أما الصبر ففائدته الأخروية سبق أن
ذكرتها
﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم
بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾،
وفائدته الدنيوية أنّنا نستطيع به أن نكمل حياتنا. فمن مات قد مات، ولكن نستعيد
أرضنا، ونستعيد خيراتنا، ونستعيد كرامتنا، ونستعيد أمننا، وما خسرناه نستطيع أن
نعوّض الكثير منه ونأتي بأفضل منه، ولكن إذا صبرنا وليس إذا جزعنا وتراجعنا وهُزمنا
وانكسرنا.
نعيش في أصعب الأزمان على مر التاريخ
أ ــ واجباتنا ومسؤولياتنا أصعب
المقطع الأخير في هذا السياق،: اليوم يا أخواننا في هذا الزمن وفي هذا العصر، نحن
في مواجهة كل هذه التحديات التي تحدثت عنها؛ هناك واجبات ملقاة على عاتقنا: واجبات
عبادية، وواجبات عمل، وواجبات سلوك، وواجبات شخصية، وواجبات عائلية، وواجبات عامّة،.
لأننا نحن مسؤولين عن ناسنا وعن مجتمعنا وعن مصيرهم وعن مستقبلهم وعن حياتهم. كل
واحد منّا مسؤول، وليس فلان الذي بالتنظيم السياسي، أو الفلان العالم الفلاني أو
الزعيم الفلاني؛ كل واحد مسلم هو مسؤول وله هذه المسؤولية العامة. في هذا الزمن
المسؤوليات أصعب، مسؤوليات كبار وجسام. ولكي نستطيع القيام بمسؤولياتنا وواجباتنا
نحتاج إلى مشقة كبيرة.
ب ــ عالم المعاصي لا نظير له
أيضاً في عالم المعاصي؛ في عالم المعاصي في هذا الزمن. وأنا لا أتصور في أي زمن في
التاريخ كانت الأرض يُتاح فيها الوسائل والإمكانيات والشهوات والإغراءات على مدار
الدقيقة والثانية والساعة، وكما أقول أحياناً على مدار النَفَس للمعصية وللذنب. لم
يمر مثل هذا الزمن. هذا الزمن الذي كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم
السلام) يقولون عنه ما مضمونه: القابض على دينه كالقابض على الجمر. الحامل للجمر
بيده كم تكون قدرة تحمله عندما يضغط عليه؟ وأصعب شيء على الإنسان أن تضع له الجمر
في يده وتقول له اقبض عليها. هذا الذي نحن فيه حدّثنا عنه رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) قبل 1400 سنة. هذا هو زماننا. لأنّ الإنسان أينما ذهب تنتصب أمامه أسباب
المعاصي: فيالبيت، فيالتلفزيون، في الجريدة، في المجلة. وأتتنا منذ سنوات مصيبة
الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. ومثلما قلنا كل شيء متاح، وفي بلد مثل لبنان لا
يُلتزم فيه بقوانين وفي حال وضعت القوانين لضبط هذه المسائل يظهر من يطالب بحرية
الرأي والحريات العامة. إذاً كل شيء متاح، كل شيء مفتوح وسهل أمام أي إنسان. من
زمان كان الأهل، مثلاً، لا يشترون التلفزيون وفي حال اشتروا التلفزيون يضبطون
القناة. هذه المرحلة قد مرّت؛ مرحلة أن تمنع كتاب أو تمنع مجلة أو تمنع قناة من أن
تبث من القمر الصناعي أو أن الجمارك تصادر كتب عن المطار أو الميناء، هذه المرحلة
كلها انتهت في زمن الاتصالات والإنترنت. اليوم كل شيء متاح، الكتاب، والورقة،
والكلمة، والصورة، والنشيد، والأغنية، والخطاب وكل ما تريد؛ كل شيء مفتوح ويتم حمله
في الجيبة أيضاً. من أصغر شاب وأصغر بنت لأكبر رجل وامرأة، يحمله في جيبته ويتنحى
جانبا ويفتح ما يريد ويسمع ما يريد ويرى ما يريد ويتحدث مع من يريد. هذا في عالم
المعاصي وعالم المصائب. أيضاً، لم يمر يوم في التاريخ كان إبليس لديه هذا القدر من
الجنود من جن وإنس ولديه وسائل إغراء ووسائل انحراف ووسائل دعوة وإغراء وتزيين
للوقوع في المعصية ومخالفة الله سبحانه وتعالى وإطاعة الأنفس الأمّارة بالسوء. قطعاً
لم يمر زمان كالزمان الذي نحن فيه.
ج ــ المصائب أوسع انتشارا وأشد هولا
وبالمصائب، فيما مضى كان قتل ألف إنسان يحتاج إلى يومين أو ثلاثة، بينما الآن غارة
طيران واحدة تكفي لقتل مثل هذا العدد. يعني الأدوات والوسائل والتطور الذي أصبح
متاحاً. الأمراض، والجراثيم، والحروب، والأسلحة المتطورة، وسائل الإعلام وإمكانية
إثارة الفتن، والحروب الاقتصادية وما شاكل... مجتمع بكامله تصل به إلى الجوع،
وتدمره وتحاصره... هذا كله موجود. لا نتكلم عن تجويع فرد بل تجويع شعب بكامله، كما
هو الحال اليوم في غزة، وفي اليمن. دول بأكملها ذات مستوى اقتصادي مرتفع، فجأة
تنهار. وهذا ما يسمى الاغتيال الاقتصادي الذي يقوم به الأميركان ومثلما فعلوا في
ماليزيا وغيرها... مصائب وتحل، وتسقط البورصات ويسقط ثمن العملة وينهار الاقتصاد
وتصبح العالم في مكان آخر.
في الزمن الصعب لا بد من الإستعانة بالصبر
هذا زمن صعب. وفي الزمن الصعب، في المشقات الأقوى والأكبر، نحن نحتاج أن نستعين
بهذا الصبر، وليس لدينا غير الصبر في الدرجة الأولى، لنواصل حياتنا ونواصل إيماننا
ونواصل جهادنا وثباتنا ونصنع مصيرنا كما أراده الله سبحانه وتعالى لنا في الدنيا
والآخرة.
من أولى واجباتنا ضبط حالة الإختلاط بين الجنسين
من جملة الأمور الواجب علاجها وبحاجة للضبط هو موضوع الاختلاط. بالتالي نحن لا نلزم
العالم وكلٌّ له الحرية في حياته، في دينه، في اختياراته، ولكن لنتحدث عن أنفسنا،
عن بيئتنا، وعن الجماعة الذين يعتبرون أنفسهم ملتزمون بهذا الدين وبتوجيهات
وإرشادات هذا الدين.هناك ظاهرة موجودة من زمان ومتقدمة وتتطور؛ حتى في مجتمعات
المتدينين. وجماعات المتدينين يلزمها إعادة مراجعة وإعادة ضبط وهو الاختلاط. كي
نكون شفافين سنتحدث عن أنفسنا.
مثلاً؛ الآن مجموعة من الشباب بالعشرينات، يشتغلون بالمقاومة، أو بالعسكر، أو بأي
مؤسسة من المؤسسات، ومتزوجون يجتمعون مع أصدقاء ـ وكلٌّ معه زوجته ـ لغداء أو عشاء
ويسهرون 3-4 ساعات ، بين مزح وضحك وأحاديث... طبعاً عند الكثير من الناس هذا شيء
عادي، لكن في بعض الحالات – لن أدخل في الموضوع الفقهي والشرعي - هذا الأسلوب يؤدي
إلى مجموعة محرّمات، في الجلسة نفسها حين يكون الاختلاط بدون ضوابط،. ثانياً،
النظرة الحرام والنظرة بريبة؛ هذا يؤدي إلى مشكلة. بالإضافة إلى المزاح، والغيرة،
والحسد. الشيطان يدخل يحرك الغيرة، يحرك الحسد؛ تحدث المشاكل بين الزوج وزوجته
وتؤدي أحياناً إلى الطلاق. وهكذا تتراكم الأمور. إذا فتشنا عن أسباب الطلاق أحدها
يتعلق بموضوع المخدرات والآخر موضوع الاختلاط الذي بلا ضوابط وبلا حدود وخارج
المأذون به من الناحية الشرعية بل من الممكن أن يتطور الأمر – كما يجري في الكثير
من المجتمعات الأخرى ــ إلى العلاقات غير المشروعة، إلى ما يسمى بالخيانة الزوجية.
أنظروا في العالم، أنظروا إلى الغرب وإلى أوروبا، وإلى الكثير من المجتمعات: عندما
يحدث الاختلاط؛ الجلسات والسهرات والمزح والضحك والترف واللهو... في أحيان كثيرة
يؤدي حتى إلى علاقات غير شرعية وإذا اكتُشفت هذه العلاقات غير الشرعية فإنها تؤدي
إلى طلاق وأحياناً إلى القتل كما يجري في مجتمعاتنا الشرقية: دمار بيوت وخراب بيوت.
فمن أين بدأت القصة؟ بدأت من الجلسة ومن الاختلاط. إبليس يبدأ معنا بالأمر السهل
والهيّن ضمن نطاق شبهات الحلال والحرام. وحدود الحلال والحرام أحياناً قد تكون
ضائعة عند الناس. لو كان هذا فقط من دائرة الشبهات، لأن هذا الموضوع – وأنا لم أدخل
إليه من الموضوع الفقهي – لأنه برأيي هذا الموضوع رسم حدوده غير سهل وتطبيقه غير
سهل ولذلك هو من موضوع الشبهات. إذا كان الإنسان بالفعل حريص على عائلته، على زوجته،
على نفسه، على أولاده، على دينه وعلى دين أهله، على
﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾
عليه أن يتجنّب حتى الشبهة، وحتى أن يدخل في موارد الشبهة ويبتعد عنها ويحطاط حتى
لا يتورط. لن أدخل في التفاصيل، أنتم بإمكانكم مشاهدة بعض البرامج الاجتماعية التي
تعرض على التلفزيونات. أما إذا نظرتم إلى الغرب فتوجد كوارث على هذا الصعيد.
ارجع إلى الأساسيات، من أين بدأت المشكلة، من أين بدأت القصة، بدأت من الاختلاط
الحرام، من النظرة الحرام... ابدأ المعالجة من البديهيات البسيطة لكي لا تواجه ما
هو أصعب ولما هو أسوأ. وفي هذا الزمن، طبعاً ــ كي أكون شافاً وصريحاً- مع
الفضائيات والتلفزيونات، والأقمار الصناعية، والإنترنت، ومع طول المدة يتلاشى إجاب
الزوج بزوجته، وإعجاب الزوجة بزوجها ــ وأنتم تعلمون مغزى كلامي، ثم لا يقوى أحد
يتحمل الآخر، ولا أحد يتقبّل الآخر. إذاً في هكذا مناخ ومخاطر نحن بحاجة أن ننتبه
أكثر إلى مظاهر العفّة، إلى مظاهر التحصين.
مثلاً؛ أحدهم لديه ابنة صبية عمرها 16-17 سنة يأتي لها بأستاذ عمره 20-30 سنة كي
يدرسها الرياضيات فيجلسان وحدهما ساعة أو ساعتين. سبق وقلت لكم بأن إبليس تحدّث مع
نوح ومع موسى، مع أنبياء الله العظام، مع أنبياء أولي العزم، عندما سُئل متى تمسك
بالإنسان؟ قال: عندما يخلو رجل بامرأة لا تحل له. إبليس من يقول هذا الكلام؛ إبليس
شخصياً، وليس جنوده أو ضباطه أو عسكره. هو شخصياً كما يقول في الرواية: فأنا صاحبه
دون أصحابي. إذاً هذا النوع من القضايا اليوم، يوجد تساهل وتسامح فيها: هو أستاذ
أدمي ومتديّن والبنت متديّنة وعفيفة وشريفة وخفيفة ونحيفة إلى آخره. هذا موضوع
يُبتلى فيه كبار القوم، الأولياء العظام، العبّاد، الزهّاد وكلها في الروايات
والأحاديث. لعن الله النفس الأمّارة بالسوء، والشيطان، ولحظة الضعف والوهن.
لماذا نضع أنفسنا وشبابنا وبناتنا وزوجاتنا وعائلاتنا في هكذا موقع؟ لماذا نورطهم
في هكذا ورطة؟ لماذا علينا أن نفتح هذا الباب؟ أحياناً هناك فساد عليك أن تحاربه
وتقتلعه، أحياناً يجب أن تسدّ باب الفساد حتى لا يدخل وتضطر إلى مواجهة هذا الفساد.
هذه أيضاً من الظواهر التي أحببت أن ألفت له، لأنه من الأمور المؤثرة جداً في
مجتمعنا. وهي تدمر المجتمع.
كربلاء هي الصبر الجميل والصبر العزيز
في كل الأحوال، نحن نحتاج في مواجهة حياتنا للصبر، وأعظم درس من كربلاء –إذا أردنا
اختصار كربلاء كلها- من المدينة؛ من اللحظة التي قال فيها الحسين (عليه السلام)
لوالي المدينة "ومثلي لا يبايع مثله"، بدأت المواجهة من هذه اللحظة. حتى
عندما كان الحسين (عليه السلام) يستمع إلى كلام الوالي لم تكن المواجهة قد بدأت،
ولكن عندما سمع الكلام وقال بأن يزيد كيت وكيت ومثلي لا يبايع مثله، بدأت المعركة
والمواجهة. ومن هنا بدأ الصبر: الصبر على الموقف، وعلى تبعات الموقف وعلى تداعيات
الموقف في المدينة. من هذه التداعيات أن يجمع عياله وأنصاره وأصحابه وأمواله مباشرة،
ويغادر وطنه وبيته وبقية أهله ويخرج من المدينة. والتحدي أيضاً أنه سار على الطريق
العام علناً، وكل الناس رأته عند خروجه من المدينة وكان من الممكن خلال الطريق أن
يتعرّض للمخاطر: أمنية وعسكرية. ودخل إلى مكّة علناً، والمكان الذي أقام فيه كان
معلناً، والتقى مع كل الناس علناً. ولذلك ضاق صدر يزيد به فأرسل له من يقتله في مكة
ولو وجدوه معلقاً بأستار الكعبة.
إذاً تداعيات الغربة، الهجرة، ترك الوطن، تحمّل مشاق الطريق، مخاطر الطريق، كل هذا
يحتاج إلى صبر من الرجال ومن النساء ومن الولدان.
من مكة إلى الكوفة، وصولاً إلى كربلاء وما جرى في كربلاء من بطولات، وحماسة،
وتحديات، ومواجهات دامية، وأيضاً من أحداث مؤلمة ومحزنة ومأساوية، في كل مشهد
كربلاء يوجد صبر. وبعد كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى دمشق، إلى الشام، ومن
الشام إلى المدينة، كله مشهد صبر، ثبات، تحمّل، تحدّي. طبعاً –بين هلالين- الخطباء
عندما يقدمون الأحداث بشكل محزن هي محزنة لكن أحياناً، مقتضيات المجلس والخطابة
يحدث الكثير من المبالغات بالتعبير عن البُعد الإنساني، كي تبكي الناس، لكن بالدقّة،
كلا. نعم، كانوا يبكون، وكانوا يقولون شعارا، كانوا يوجهون نداءً، لكن الصفة العامة
هي الصبر، الثبات، تمكين، وتحدّي.
أحدهم نقل لي –وليسمح لي كائن من كان- أنّ السيدة زينب (عليها السلام) بعد استشهاد
الحسين (عليه السلام) كشفت عن رأسها أمام الناس وخلعت حجابها. العياذ بالله. ما هذا
الكلام؛ وعلى المنبر الحسيني! أهكذا نقدّم السيدة زينب للعالم؟ زينب التي لا يوجد
نظير لها في الصبر. هذه زينبكم وليست زينبنا. هذه ليست زينب بنت عليّ بن أبي طالب.
هذه ليست زينب بنت فاطمة الزهراء. هذه ليست زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم).
في مكان ما، تحدث الإساءة لأهل البيت وللحسين وللنبي وللسيدة زينب ولبنات الحسين (عليهم
السلام)؛ إساءة لا تُطاق ولا تُحتمل. وهو أمر مُخجل ومعيب ومؤلم.
كربلاء هي الصبر الجميل، كربلاء هي الصبر العزيز، كربلاء هي صبر المنتصرين، صبر
الشامخين، صبر الأقوياء، صبر المؤمنين الذين حفظوا لنا هذا الإسلام وحفظوا لنا هذه
الأمة.