محور الوحدة في نظر الإمام الخمينيّ
الوحدة الإسلامية
إنّ الإسلام لا يعترف بأيّ محور للوحدة سوى محور العقيدة والدين، وذلك خلافاً لما تتبنّاه معظم دول العالم في العصر الحديث من محاور للوحدة
عدد الزوار: 194
إنّ الإسلام لا يعترف بأيّ محور للوحدة سوى محور العقيدة والدين، وذلك
خلافاً لما تتبنّاه معظم دول العالم في العصر الحديث من محاور للوحدة (مثل الشعب أو
البلد وبشكل عام كلّ ما يندرج تحت عنوان "القوميّة Nationalism")، وكذلك خلافاً
للمحاور الأخرى كمحور اللغة والعنصر والقبيلة والمنطقة، وهي محاور لها أتباعها
والمنادون بها في هذا العالم، والحركات التي قامت خلال القرن الأخير مثل القوميّة
التركيّة (pan - Turkism) والقوميّة العربيّة (pan - Arabism) والحركتين
الصّهيونيّة والنّازيّة وغيرها، بكلّ ما كانت تتضمّنه من قيم إيجابيّة وسلبيّة بحسب
كلّ حركة من هذه الحركات، وفي هذا الشأن يقول سماحة الإمام: "الوحدة هي تلك التي
يدعو إليها القرآن الكريم وهي نفسها التي حمل لواءها الأئمة الأطهار عليهم السلام
وكانوا يدعون المسلمين إليها. وفي الواقع إنّ الدعوة إلى الإسلام تعني الدعوة إلى
الوحدة أي أن يجتمع الجميع تحت راية الإسلام وكلمته. لكن وكما تعلمون لم يسمحوا
لهذه الوحدة بأن ترى النور"43.
وفي كلمته التي وجّهها إلى الدول الإسلاميّة، أشار سماحته إلى الاعتصام بحبل الله
والدين الإسلاميّ باعتباره محور الوحدة، مشيراً كذلك إلى التأثيرات الإيجابيّة
والبركات التي تحملها تلك الوحدة أشار إلى ذلك بقوله: لو اتّحدت هذه الأقطار
الإسلاميّة التي تملك كلّ شيء مع بعضها البعض فلن تكون بحاجة إلى أي شيء أو بلد أو
قوّة تحت راية ذلك الاتّحاد، بل إنّ الآخرين سيحتاجون إلى هذه البلدان. لو حافظ
المسلمون وحكوماتهم الإسلاميّة على الأواصر الأخويّة التي أمر بها الله - سبحانه
وتعالى - في القرآن الكريم لما تعرّضت (أفغانستان) ولا فلسطين ولا البلدان الأخرى
إلى الاعتداء والهجوم. ولو اتّحدت أيادي وقلوب المسلمين حول كلمة واحدة فما حاجتنا
إلى أن نمدّ أيدينا إلى أميركا أو الاتّحاد السوفياتي؟ إنّ الإسلام يطالبكم بالوحدة
والاعتصام بحبل الله. فلماذا لا تعتصمون بحبل الله بدلاً من أن يتعلّق كلّ منكم
بأذيال الغرب أو الشرق44.
ما تمّ عرضه حتى الآن عبارة عن تصريحات الإمام وأحاديثه في المناسبات المختلفة، وقد
وردت الوحدة في بعض عباراته بمعنى الانسجام والتمسّك بالدّين والاعتصام بالعقيدة
الأرقى، في حين ركّز في عبارته الأخيرة على أنّ الوحدة قائمة على أساس عقد اجتماعيّ
ونبذ الخلافات والسعي إلى التركيز عليها في اتّخاذ القرار والعمل.
وبشكل عام فإنّه في الحالات أو الظروف التي كان الإمام يطالب فيها الآخرين بالوحدة
بينهم، كالوحدة بين القوميّات والدول وكذلك الوحدة بين الأحزاب السياسيّة، كان
الهدف هو التقريب بين الجماعات استناداً إلى العقد الاجتماعيّ وقبول الرأي الآخر،
لكن حقيقة دعوته الإمام إلى الوحدة في الحالات الأخرى كانت، في الواقع، الدعوة إلى
الاعتصام بحبل الدين القويم الذي كان هو يؤمن به. وقد أدّت هذه المسألة إلى أن
يفسّر البعض خطأً أنّ الوحدة التي يدعو إليها هي تلك القائمة على مبدأ "الجميع معي"
بدلاً من "الجميع مع بعضهم".
وعلى أيّ حال، فإنّ محور الوحدة المعلن من قبل الإمام يمثّل المبادئ المهمة أو
العامّة نسبيّاً في الدين والحكومة الإسلاميّة، ولعلّ في هذه الرؤية تفسيراً لعزوفه
عن مبدأ الوحدة مع الماركسيّين أو القوميّين أو الليبراليّين، فهو بدلاً من أن
يُطلق شعار الوحدة مع هذه الفئات، كان يطالبها بالرجوع إلى أحضان الشعب - ذلك الشعب
الذي آمن بما كان يؤمن به سماحته - وتصحيح مسارها المنحرف نحو جادّة الصواب، جادّة
الإسلام.
يقول سماحة الإمام الخمينيّ في أوّل رسالة سياسيّة مدوّنة له: "إنّ الأنانيّة وعدم
الانتفاض في سبيل الله عاملان جرّا علينا كلّ تلك الويلات وأوصلانا إلى هذا اليوم
الأسود، وهما اللذان أطمعا فينا العالم كلّه، ودفعت البلدان الإسلاميّة إلى الوقوع
تحت سيطرة الآخرين... فالنهضة من أجل المصالح الشخصيّة هي التي أماتت الوحدة
والأخوّة بين الشعوب المسلمة وهي التي أزالت روح المساواة بينهم"45.
وفي موضع آخر يشير سماحته إلى الشيطان باعتباره عاملاً آخر من عوامل الاختلاف
والفُرقة، فيعلنها صراحة:
"عندما يصدر الاختلاف عن أيّ شخص أو على لسان أيّ مخلوق فإنّما يصدر ذلك على لسان
الشيطان نفسه، سواء أكان رجل الدين هو الناطق بذلك الاختلاف أم شخصاً مقدّساً، أو
أحد المصلّين، أو أيّ لسان آخر، واعلموا أنّ هذا إنّما هو لسان الشيطان، وقد لا
يكون المتحدّث أحياناً واعياً لهذا الأمر، بل واقعاً تحت تأثير الشيطان أو لسانه
وهو الذي يدفعه إلى القيام بتلك الأفعال46.
وقد أشار الإمام كذلك إلى أُولى السُّور وأُولى الآيات الشريفة التي نزلت على
النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة، ومنها الآية الشريفة: ﴿كَلَّا
إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾47، موضّحاً أنّ الاختلاف
إنّما هو بسبب طغيان الإنسان، ويضيف سماحته قائلاً: جميع الاختلافات الموجودة سببها
أنّ الأساس لم تتمّ تزكيته وتنقيته بعد، فالغاية من البعثة هي تزكية الناس لكي
يتمكّنوا من خلالها تعلّم الحكمة والقرآن الكريم والكتاب، فعندما تتمّ تزكيتهم فلن
يكون هناك أيّ إمكان للطغيان48.
ويبدو أنّ كلام الإمام هذا لا يمثّل مجرّد خطاب وحسب وذلك لأنّ "الأخطاء"
و"الاجتهادات المختلفة" هي من جملة العوامل الجوهريّة التي تتسبّب في بروز
الاختلافات. فمثلاً النزاع بين المدرستين "الأخبارية" و"الأُصوليّة" الذي أُثير في
القرون السابقة إنّما هو نزاع يستند في جوهره إلى تعدّد الاجتهادات قبل استناده إلى
الأهواء والميول، وقد كان لهذه المسألة دور كبير في الاختلافات التي برزت في وجهات
النظر بين أنصار للثورة. فالإمام الخمينيّ كان يعزو معظم تلك الاختلافات إلى أهواء
النفس، وربما كان هدفه من هذا هو الوصول إلى الوحدة ما أمكن ذلك، وعلى الرغم من
أنّه كان يعتبر السبب في بعض الاختلافات هو الاجتهادات والأخطاء الشخصيّة لكنّه لم
يرَ أيّ دور فعّال لذلك النوع من الاختلافات في الظروف الاجتماعيّة الخاصّة التي
كانت سائدة آنذاك.
العوامل الاجتماعيّة
بصرف النظر عن العوامل النفسيّة والشخصيّة التي تتسبّب في الفُرقة، هناك
عوامل اجتماعية أيضاً قد تترك تأثيرها في هذا المجال.
فالقرآن الكريم مثلاً يرى أنّ "ولاية" الحكّام الظالمين هي السبّب في تشتيت المجتمع
وتفرّقه، ويقول القرآن في (فِرعون) ونهجه في الحكم يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ
فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾49.
وفي آيات شريفة أخرى يدعو القرآن الكريم المسلمين إلى طاعة الله سبحانه ورسوله صلى
الله عليه وآله وسلم وأُولي الأمر، وإلى التمسُّك بالوحدة عند بروز أيّ خلاف بينهم،
وإرجاع الأمور إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وعدم اللّجوء إلى قصور
الطغاة والجبّارين.
وقد أشار الإمام مراراً وتكراراً إلى المؤامرات الشيطانيّة التي تهدف إلى بثّ
الفرقة والشّقاق داخل الأمّة الإسلاميّة، وكان يرى أنّ الفُرقة إنّما تصبّ في مصلحة
الإمبرياليّين حيث شاهد بأمّ عينيه سعي هؤلاء إلى إيجاد الخلافات بين الجماعات
الإسلاميّة، وكان يؤكّد على ضرورة حرمان القوى العظمى من الوصول إلى تلك الأهداف
المشؤومة.
من جهة أخرى، كان الإمام يعتقد بوجود عامل خارجيّ آخر يلعب دوراً رئيساً في إيجاد
تلك الخلافات ألا وهو تخلّف المجتمع وافتقاده إلى الحدّ الأدنى من الوعي. وكان يحمل
على بعض الأصدقاء الجهلة الذين كانوا منشغلين في الاختلافات الداخلية أيّام الحكم
الشاهنشاهي الظالم. يقول الإمام: "إنّ انغماس البعض في الاختلافات وتفرُّقهم
وتشتّتهم أمر يدعو إلى الأسف خاصّة في هذه الظروف التي أصبحت فيها أصول الأحكام
أُلعوبة في أيدي الغرباء وعملائهم، وإن دلّ هذا على شيء فإنّما يدلّ على تخلّف
المجتمع وعدم بلوغه الوعي المطلوب"50.
* كتاب الوحدة الإسلامية، نشر دار المعارف الإسلامية الثقافية.
43- م.ن، ج 16، ص 54.
44- صحيفة النور، ج 15، ص 271 - 272.
45- صحيفة النور، ج 1، ص 3.
46- م.ن، ج 20، ص 12 - 13.
47- سورة العلق، الآيتان 6 - 7.
48- صحيفة النور، ج 14، ص 251 - 256.
49- سورة القصص، الآية 4.
50- صحيفة النور، ج 22، ص 107.