مكانة الوحدة في الفكر السياسيّ للإمام الخمينيّ
الوحدة الإسلامية
اهتمّ سماحة الإمام على مدى مراحل حياته السياسيّة والدينيّة بموضوع الوحدة، ولم يكن هاجس الوحدة يؤرّق ضميره في الفترة التي سبقت انتصار الثورة الإسلاميّة
عدد الزوار: 111
اهتمّ سماحة الإمام على مدى مراحل حياته السياسيّة والدينيّة بموضوع الوحدة، ولم
يكن هاجس الوحدة يؤرّق ضميره في الفترة التي سبقت انتصار الثورة الإسلاميّة وحسب
عندما كان العدوّ المشترك يهدّد طبقات المجتمع كافّة، بل إنّه استمرّ في التأكيد
على أهميّة هذا الموضوع حتى بعد انتصار الثورة مبيّناً أنّ عامل الوحدة يمثّل
العلّة (المُحدثة) و(المبقية) للثورة الإسلاميّة كما مرّ.
الدعوة إلى الوحدة
ما أكثر ما سُمِعَت عبارات الدعوة إلى الوحدة على لسان الإمام قدس سره،
ولطالما حثّ مختلف طبقات الشعب ومسؤولي الدولة والحكومة والقوّات المسلّحة وغيرها
على اتّباع نهج الوحدة، وكان يستند في دعوته هذه أحياناً إلى الآيات القرآنية
ومقتضيات الدين. ومن كلامه حول الوحدة نستعرض ما يلي: "لعلّكم تعلمون بأنّ الإيمان
والمؤمنين هما اللذان أوصلا هذه النهضة وهذه الثورة إلى مشارف النصر كما صرّح بذلك
القرآن الكريم، فقد كانوا جميعاً إخواناً ولم يفرّقهم شيء أبداً... ولعلّكم تعلمون
كذلك بأنّ بلادنا بحاجة اليوم إلى قوّات مسلّحة متحدّة مع بعضها، وإذا لم يكن هناك
أيّ تفاهم أو تعاون بين اللّجان الأمنيّة وبين فالق الحرس - لا سمح الله - فلن
تصلوا قطّ إلى هدفكم الذي هو الإسلام، فلا يقولنّ أحدكم: أنا من اللجان واللّجان هي
الأفضل، ويقول رجل الحرس الشيء نفسه. فقط فكّروا في أن تؤدّوا واجباتكم بروح
أخويّة، واعملوا طبقاً للمبدأ القرآني القائل بأنّ المؤمنين إخوة، كونوا رفاقاً
متحابّين، وأحِبّوا بعضكم بعضاً وتمنَّوا الخير للجميع، وانبذوا الأفكار والخواطر
النفسيّة التي تسوّل للبعض الفصل بين الحرس واللّجان. هذا هو رمز نجاح المجتمع"9.
والواقع أنّ الإمام كان يدعو إلى الرجوع إلى الوحدة والاتّحاد كلما شعر ببروز خلاف
في مكان ما، وخلال سنوات الحرب بين القوى الداخلية. وذلك بسبب تداخل المهمّات
القتاليّة، وكانت تنتشر على أثر ذلك الكثير من الشائعات والشكاوى، كان الإمام يسارع
إلى دعوة جميع الأطراف للالتزام بالوحدة ونبذ الخلافات.
بعد انتصار الثورة الإسلاميّة وانفتاح المناخ السياسيّ في إيران على مصراعيه،
وتراخي قبضة الحكومة في السيطرة على جميع أمور البلاد آنذاك، أُتيحت الفرصة لتأسيس
العديد من الأحزاب والصحف المختلفة، ومنها الأحزاب التي كانت تعمل لتحقيق أهدافها
ومآربها تحت أغطية ومسمّيات متنوّعة. ومن جهة أخرى بدأت قوى الثورة وعناصرها تشعر
تدريجيّاً بعدم أولويّة عامل الوحدة بعدما اطمأنّت إلى الانتصار والنّجاح، فأدّى
ذلك إلى إثارة الخلافات الداخلية، وراح كلّ فرد أو مؤسّسة تُملي وجهة نظرها على
الآخرين ضمن دائرة نفوذها وسلطانه.
وما كان من الإمام إلّا أن انبرى للتصدّي لتلك التصرّفات، حيث كان ينبّه إلى تربّص
الأعداء في الداخل والخارج ومحاولاتهم إثارة الفتن والقلاقل، فقد صرّح في هذا الشأن
قائلاً: "إنّ بلادنا تخطو أولى خطواتها نحو العمل والبناء. وقد تحقّقت والحمد لله
كلّ المقوّمات اللّازمة لتأسيس الحكومة، ومع ذلك فإنّنا ما زلنا في أوّل الطريق.
ويتميّز العمل في هذه الفترة الحرجة بميزة فريدة قد لا تتوفّر بعد هذا. إنّ بلادنا
تشهد هجمة شرسة من الداخل والخارج، فهناك من يثيرون الفتن والقلاقل في الداخل
بأقلامهم ومجلاتهم وخطبائهم وعملائهم، لتعمّ البلوى في كل مكان، فتثار المشاكل
وتنتشر الفوضى. أمّا في الخارج فتعمل القوى الكبرى على تصدير المشاكل والكوارث
إلينا، فإذا أردنا تحقيق النصر لبلادنا وللإسلام، فينبغي أن لا نضع العراقيل
والعقبات في طريق بعضنا. علينا أن نكون جميعاً صوتاً واحداً10.
الواجب الشرعيّ والحفاظ على الوحدة
بما أنّ العمل السياسيّ يمثّل أساساً مسؤوليّة شرعيّة من وجهة نظر
الإمام التكليفيّة، فإنّ الكثير من الأمور الخاصّة بالمشاركة السياسيّة، كالمشاركة
في العملية الانتخابية أو تأييد النظام (الحاكم) من خلال التجمّعات والمؤتمرات
والمسيرات وغيرها، إنّ هذه الأمور ربّما تُعتبر حقّاً من حقوق الشعب من وجهة نظر
المفكّر السياسيّ، إلّا أنّها تمثّل برأي الإمام تكليفاً وواجباً ينبغي للفرد
القيام به.
وما من أحد ينكر تأكيدات سماحته على عواقب إهمال عامل الوحدة والاتّحاد والألفة بين
أفراد المجتمع، إذ كان يعتبر إضعاف الوحدة والمساس بمقوّماتها يعادل (كبائر
الذنوب)، ويُعدّ (جريمة كبرى)، وهي تعابير قلّما تُستخدم حتى في الحالات التي يتمّ
فيها مخالفة الأحكام الشرعيّة الابتدائيّة كما هو واضح.
وفي ذلك يقول الإمام قدس سره: "... وإذا صادف أن حدث مثل هذا الشيء في وقت ما، فإنّ
ذلك يُعدّ جريمة، إنّ هذه المسألة (إضعاف أركان النظام ونشر الفُرقة) تمثّل اليوم
جريمة كبرى"11.
وخلال لقائه بالمحافظين في السنوات الأخيرة من الحرب المفروضة، أشار إلى الآراء
المختلفة والتعليقات المتعدّدة التي كانت تُثار حول تلك الحرب، بقوله: "يجب على
السادة المحافظين تعزيز الوحدة بينهم من جهة، وبينهم وبين أفراد الشعب من جهة أخرى،
لأنّ كلّ ما نمتلكه هو ببركة الله ورعايته لهذا الشعب... لا بدّ لكم من التمسّك
بالوحدة كي تظلّوا مصانين. إنّ الهدف من الدّسائس هو نشر بذور الفرقة والتشتّت،
واعلموا أنّ كلمة واحدة تتسبّب في شقّ وحدة الصفّ تُعتبر (إثماً كبيراً) وقد لا
يغفر الله تبارك وتعالى لصاحبها، سواء أكانت تلك الكلمة صادرة عن أعدائنا أم عن
أصدقائنا، أو من الذين يدّعون القداسة، أو من الذين لا يدّعون ذلك. إنّ صدور كلمة
واحدة مثيرة للاختلاف والفرقة تعدّ كفراً، لا سيّما في مثل هذه الظروف التي تُهدِّد
كيانَ الإسلام. إنّ هذا العمل هو إثم لا يمكن الصّفح عنه بسهولة"12.
ولا ريب في أنّ المزايا التي كان يتحلّى بها الإمام الخمينيّ وخاصّة أنّه كان
مرجعاً دينيّاً قبل انتصار الثورة الإسلاميّة، هي التي جعلت عموم أفراد الشعب
المسلم يتقبّلون بسهولة إعلانه لـ(حكم الشريعة) في مثل هذه المسائل. ولعلّ ذلك كان
السبّب الرئيس الذي دفع بالكثير من المسؤولين العسكريّين والرسميّين في ذلك الوقت
(1987م) إلى الصمت، وعدم إبراز آرائهم المتمثّلة في القبول بدعوات وقف القتال،
والتحذير من مغبّة الاستمرار في التقدّم في أراضي العدوّ.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ التكليف الإلهيّ والشرعيّ يتمثّل في فعل المكلّف،
ولذلك فإنّ الإمام لم يعتبر التوافق الفكريّ والقبول الضمنيّ أمرين متعلّقين
بالتكليف الشرعيّ، ولم يرَ في مجرّد الاختلاف في وجهات النظر "إثماً" أو "معصية"
على الإطلاق، إلّا أنّ الحرام في نظره كان "إظهار" الخلاف والتصريح بما يثير
الفرقة، وكلماته التالية تبيّن بوضوح هذا المعنى الذي أشرنا إليه: "بالطبع، نحن لا
نستطيع تجنّب ما يدور في خلجات أنفسنا بشكل مطلق، فليست لنا مثل هذه القدرة، لكنّنا
نمتلك القدرة على التحكّم بأنفسنا وعدم إظهار ما نضمر في ضمائرنا. ربما لا نستطيع
تجنّب معارضة شخص داخل قلوبنا، لكنّنا نمتلك القدرة بطبيعة الحال على عدم إظهار تلك
المعارضة في العمل. إنّنا اليوم مكلّفون شرعاً وهو تكليف إلهيّ بأنّنا حتى لو كنّا
لا نودّ بعضنا فلا بدّ لنا من التصرّف والعمل خلاف ما نضمر أنفسنا في الفعل والذّكر
والتبليغ. وهذا شيء يمكن لأيّ إنسان أن يفعله. فالإنسان يمتلك القدرة على الفعل
والعمل ولذلك فإنّ الله (سبحانه) سيؤاخذه على الفعل"13.
"وهناك روايات كثيرة أشارت بشكل مفصّل إلى النقطة التي ذهب إليها الإسلام في كلامه،
وهي روايات دلّت على عدم مؤاخذة الإنسان ومعاقبته على نيّته وقصده وما يضمره في
قلبه، بل على ما يقوم به من الأعمال ويؤدّيه من الأفعال"14.
الوحدة رمز انتصار الثورة واستمرارها
عند تحليله العوامل الأساس التي عجّلت في انتصار الثورة الإسلاميّة في
إيران، يشير سماحة الإمام إلى عامليّن رئيسيّيْن من تلك العوامل، هما: أوّلاً:
الإسلام، وثانياً: الوحدة والتضامن بين طبقات الشعب جميعاً. فقد كان يعتبر عامل
(الوحدة والألفة) مفتاح النّجاح والتوفيق. وفي ظروف الحرب الصعبة التي عصفت
بالجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، كان يطرح المشاكل العديدة التي تعترض النظام
ونقاط الضعف التي يعاني منها في تلك الظروف، بيد أنّه لم يكن يشعر إطلاقاً بأيّ قلق
بسبب الحملات العسكريّة أو الحظر الاقتصاديّ الذي كان يفرضه العدوّ الخارجي، بل كان
قلقة الشديد ينصبّ على احتمال بروز الشقاق والخلاف في صفوف الأمّة والمسؤولين في
النظام الإسلاميّ. كان سماحته يشير إلى الوحدة وهدفها باعتبارهما مفتاحي النصر
والنجاح، معنى ذلك أنّ الوحدة لا تمثّل مجرّد تكتيك لتحقيق النصر بل هي تُهيّئ
الأرضيّة المناسبة للنصر، أمّا ما بعد ذلك فهو وجوب ترسيخ ذلك النصر وتعميقه والسعي
إلى المحافظة عليه. في ذلك يقول سماحته: "إنّ الطموح الأعظم بعد النصر هو تثبيت
أركان الوحدة"15.
* كتاب الوحدة الإسلامية، نشر دار المعارف الإسلامية الثقافية.
9- صحيفة النور، ج 7، ص 40.
10- صحيفة النور، ج 12، ص 117.
11- صحيفة النور، ج 12، ص 118.
12- م.ن، ج 20، ص 84.
13- صحيفة النور، ج 20، ص 73 - 74.
14- انظر على سبيل المثال: وسائل الشيعة، ج 11، باب ممّا عُفيّ عنه، ص 295، عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وُضِعَ عن
أمّتي تسع خصال: الخطأ، والنسيان، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه،
وما استُكرِهوا عليه، والطيرة، والوسوسة في التفكّر في الخلق، والحسد ما لم تظهر
بلسانٍ أو يد".
15- صحيفة النور، ج 11، ص 50، بتصرّف.