وصية علي عليه السلام في التعاطي مع القرآن
الفصل الثاني
بعد كلامه النوراني حول الإخبار بعالم القيامة والمعاد. ورضا أتباع القرآن عن أعمالهم وماضيهم. وابتلاء المتخلّفين عن القرآن في ذلك اليوم. يوصي الإمام عليه السلام الناس بما يلي:
عدد الزوار: 198
بعد كلامه النوراني حول الإخبار بعالم القيامة والمعاد. ورضا أتباع القرآن عن
أعمالهم وماضيهم. وابتلاء المتخلّفين عن القرآن في ذلك اليوم. يوصي الإمام عليه
السلام الناس بما يلي: "فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ
وَاسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ" فاعرفوا الله من خلال كلامه. واعرفوا أوصاف
الخالق عن طريق القرآن. فالقرآن دليل يهديكم إلى الله. واستعينوا بهذا الدليل
الإلهي لمعرفة رسول الله. وآمنوا بالله الذي يصفه لكم القرآن: "وَاسْتَنْصِحُوهُ
عَلَى أَنْفُسِكُمْ" فإنّكم أيّها البشر بحاجة إلى مَن ينصحكم. ويكون حريص
عليكم، كي يقدّم لكم النصح والموعظة عند الحالات الضرورية. فاتخذوا القرآن ناصحاً
لكم واعملوا بنصائحه الخيّرة، لأنّ القرآن ناصح حريص. لا يخونكم أبداً وهو يهديكم
على أفضل وجه إلى الصراط المستقيم.
بناءً على هذا، إنّ علياً عليه السلام يوصي المسلمين والتوّاقين إلى السعادة في
الدنيا والآخرة. أن يجعلوا القرآن دليلهم ويستمعوا إلى نصائحه المشفقة إذ:
﴿إِنّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلّتي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ
يَعْمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾
الإسراء: 9.. الأمر الذي يحظى بالتأكيد في هذا المقطع من البحث هو لزوم الإيمان.
والاعتقاد الممزوج بالروح بمضمون هذه الآية الكريمة، لأنّ مثل هذا الإيمان بالقرآن
إذا لم يتحكّم بروح الإنسان. وما لم يضع الإنسان نفسه تحت تصرف الله سبحانه وتعالى
بشكل كامل. ولا يزكّي نفسه من الأحكام المسبقة والأهواء النفسية. فربّما يقع في
مكيدة الوساوس الشيطانية. ويضلّ في كل لحظة. فعندما يرجع إلى القرآن يقوم دون إرادة
منه بالبحث في القرآن عن الموضوعات والآيات التي تبدو مطابقة لأهوائه النفسية.
من الطبيعي ليست جميع تعاليم القرآن وأحكامه تنسجم مع رغبات الإنسان النفسية
ونزعاته الحيوانية. فللإنسان بمقتضى طبيعته أهواء ورغبات. ويرغب بأن يتحدث القرآن
وفقاً لهواه. وعليه فمن الطبيعي أن لا يُقبل الإنسان على القرآن بوجه صبوحٍ عندما
يتحدث خلافاً لنزعاته الحيوانية والنفسية. ويواجهه بوجه بشوش حينما تكون الآيات
متطابقة مع أهوائه النفسية. وبالطبع فإنّ كلّ هذه الانفعالات والتفاعلات تجري
بالخفاء وفي الباطن لكن آثارها تظهر في أفعال الإنسان وسلوكه، لذلك فإنّ العقل يقضي
بأن يفرّغ الإنسان عقله من كل حكم مسبق قبل الرجوع إلى القرآن. ويتخلى عن كل أهوائه
ورغباته النفسية ليدخل مدرسة القرآن بروح ملؤها محورية الله. في مثل هذه الحالة
ينحني الإنسان تأدباً. ويستعد لتقبّل المعارف الإلهية بكل اندفاع.
التفسير بالرأي
بديهي أنّ التخلّي عن الأهواء والرغبات النفسية. والتسليم المحض أمام التعاليم
والأحكام الإلهية والمعارف القرآنية. ليس لا يُعد أمراً متيسراً فحسب بل أنّ
التغاضي عن النزوات والرغبات النفسية أمرٌ صعب جداً. بالنسبة للذين لا يمتلكون
روحاً صلبةً من العبودية، لذلك أطلقوا على هذا العمل الجهاد الأكبر.
يبدو أنّ الدافع الروحي والنفسي للتفسير بالرأي ينشأ من، أنّ الإنسان وبسبب ضعف روح
العبودية لديه يعجز عن تجاوز أهوائه ورغباته النفسية من جهة. ومن جهة أخرى أنّ
الشيطان يستغل هذه الفرصة المؤاتية. ويحاول من خلال الإيحاءات الشيطانية توجيه عقل
وتفكير مثل هذا الإنسان في فهمه المنحرف والخاطئ للقرآن والدين وإضلاله. لا سيما
إذا كان الشخص يتمتع من حيث الوجاهة الاجتماعية بموقع ثقافي، إذ تتضاعف فعالية
ووسوسة الشيطان وتزداد مطامع هذا العدو المتربص في إضلال مثل هذا الإنسان، لأنّ
الشيطان يعرف أنّه وبتضليله لهذا الشخص ربّما يستطيع تضليل جماعة أو فئة لهم آذان
صاغية له عن دينهم. فلم يكونوا وليسوا قلّة الذين يصدرون فتوى دون تهذيب لأنفسهم
ووفقاً لأحكام مسبقة وقبل الرجوع إلى القرآن. ويدلون بآرائهم دون أن يتوفروا على
أدنى جدارة وأهلية علمية وتخصص ضروري. فيقولون إنّ رأي القرآن هو عين رأينا. ومن
الطبيعي أن يتشبث مثل هؤلاء بالآيات المتشابهة والغامضة حسب الظاهر، ليضفوا على
آرائهم وأهوائهم النفسية صبغةً دينية وقرآنية. وبديهي أن لا يكون هنالك أي ضمان
للفهم الصحيح والصائب للقرآن مع وجود مثل هذه الروحية وإصدار الأحكام سلفاً. بل من
الطبيعي أنّه سيخلّف سوء فهم وانحرافٍ عن الحق.
هذا النمط من الفهم والتفسير للقرآن يُعبّر عنه في القاموس الديني بالتفسير بالرأي.
وهو يُعد أسوء صنوف المواجهة مع الدين والقرآن. والقرآن يصف هذا النمط من التعامل
مع الدين وآيات الله بأنّه استهزاء وينهى عنه بصراحة فيقول:
﴿وَلاَ
تَتّخِذُوا آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا
أَنْزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتّقُوا اللّهَ
وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾1.
كما تقدّمت الإشارة أنّ الذين يتنعّمون بهداية القرآن هم المؤمنون به. أمّا الذين
ينبرون محمّلين بالسوابق الذهنية والأحكام المسبقة، لاختلاق مبرّراً دينياً
وقرآنياً لمآربهم وأهوائهم النفسية. ويفسّرون كلام الله ويوجّهونه برأيهم. فلا نصيب
لهم من الإيمان بالله. من المناسب هنا أن نتأمل ببضع روايات في هذا المجال: قال
رسول الله: قال الله جلّ جلاله: "ما آمن بي مَن فسّر برأيه كلامي"2.
وفي حديث آخر روي عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه قال: "مَن فسّر القرآن
برأيه فقد افترى على الله الكذب"3 وكلام رسول الله صلّى الله عليه
وآله وسلم هذا مبعثه أنّ الذي يتصدى محمّلاً بأحكام مسبقة لتوجيه آيات الله لصالحه.
ويصوّر ذلك على أنّه تفسير للقرآن وكلام الله. إنّما يجعل رأيه هو الملاك في الواقع
وينسبه إلى الله سبحانه وتعالى. وهذا النمط من الرجوع إلى القرآن والفهم لكلام الله
مذموم وخطير. ويؤدي إلى الضلال والانحراف بحيث إنّ مرتكبي مثل هذه المعصية يبتلون
بأشد أنواع العذاب يوم القيامة. يقول النبي صلّى الله عليه وآله بهذا الصدد أيضاً:
"مَن فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار"4.
بناءً على هذا لغرض الأمان من أسوء العذاب. وتجنّب الافتراء على الله تبارك وتعالى.
وتحاشي الانحدار في أودية الضلال. يجب التخلي عن الأهواء النفسية. والإيمان بالذات
المقدسة التي هي خير محض. ولا تريد إلاّ الخير للإنسان. ونبذ محورية الذات، وتحكيم
محورية الله في النفس وتسليم النفس له.
* تجلي القرأن في نهج البلاغة / العلامة محمد تقي مصباح اليزدي.
1- البقرة: 231.
2- توحيد الصدوق: ص 68.
3- بحار الأنوار: ج36. ص227.
4- عوالي اللآلئ: ج4. ص104.