يتم التحميل...

الحرص

المهتدون

قال الإمام أبو جعفر مُحمد بن علي الباقر عليه السلام موصياً صاحبه، وتلميذه النجيب جابر الجعفي: "وَانْزِلْ سَاحَةَ القَنَاعَةِ بِاتِّقَاءِ الحِرْصِ، وَادْفَعْ عَظِيمَ الحِرْصِ بِإِيثَارِ القناعةِ"

عدد الزوار: 429

نصّ الوصيّة:
• قال الإمام أبو جعفر مُحمد بن علي الباقر عليه السلام موصياً صاحبه، وتلميذه النجيب جابر الجعفي: "وَانْزِلْ سَاحَةَ القَنَاعَةِ بِاتِّقَاءِ الحِرْصِ، وَادْفَعْ عَظِيمَ الحِرْصِ بِإِيثَارِ القناعةِ"1.

تعريف الحرص لغة
قالَ الأَزْهَرِيُّ: "الحِرْصُ بالكَسْرِ: الجَشَعُ, وهو شِدَّةُ الإِرَادَةِ والشَّرَه إِلَى المَطْلُوبِ..، وقَوْلُ العَرَبِ: حَرِيصٌ عَلَيْكَ مَعْنَاه حَرِيصٌ عَلَى نَفْعِكَ. قُلْتُ: ومِنْهُ قَوْلُه تَعَالى: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم أَي: عَلَى نَفْعِكُم أَو شَفُوقٌ عليكم رَؤُوفٌ بكم، فالحِرْصُ في القُرْآنِ على وَجْهَيْن: فَرْط الشَّرَهِ كقَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ والشَّفَقَة والرَّأْفَة كقَوْلِهِ تعَالَى: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم .... قال: واللغة العالية حَرَصَ يَحْرِصُ، وأَما حَرِصَ يَحْرَصُ فلغة رديئة. قال: والقُراء مُجْمِعون على ولو حَرَصْت بمؤمنين ورجل حَرِيصٌ من قوم حُرَصاءَ وحِرَاصٍ وامرأَة حَريصةٌ من نسوة حِرَاصٍ وحَرائِصَ"2.

مناط الحرص
"المناط في الحرص هو حبّ الزيادة في الأمور المادّية. لكنّ كلمة "الحرص" لها مفهوم عامّ يُستعمل للأمور الحسنة أيض, فقد وُصف النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن الكريم بأنّه كان حريصاً على هداية الناس: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ3.

إذن فالمفهوم اللغويّ للحرص لا ينطوي على معنى سلبيّ، فالإنسان المحبّ للتطوّر والتكامل في أيّ بعد من الأبعاد والذي لا يرى للسير في هذا الطريق حدّاً يقف عنده يُسمّى حريصاً. لكنّ مصطلح الحرص الشائع في ثقافتنا ومباحثنا الأخلاقيّة يختصّ بالحرص على زخارف الدنيا، وهو لذلك مذموم، فالحرص في الأخلاق يعني حبّ الإنسان للزيادة في الأمور المادّية والدنيويّة, فالحريص على الثروة هو الذي لا يكتفي بأيّ مقدار منها، والحريص على الزواج هو الذي لا يقنع بأيّ زوج، والحريص على المنصب والمقام هو الذي لا يكتفي بأيّ منصب ويُحاول دائماً الحصول على منصب أعلى منه.

وبقرينة أنّ الحرص يُصنَّف ضمن الأخلاق الذميمة فلا بدّ من توفّر واحدة من اللوازم التّالية كي يكون مذموماً: فإمّا أن يكون نفس الأمر المطلوب حراماً، أو أن يكون السبيل للوصول إليه محرّماً، أو أن يحول السعي وراءه بين الإنسان وبين الواجبات والأعمال التي هي أفضل منه.

فأنْ يتقيّد شخصٌ - مثلاً - بكسب المال الحلال، بل وأن ينشغل ذهنه منذ الصباح وحتّى المساء في كيفيّة زيادة دخله، ولا يخلد إلى الرقاد ليلاً إلاّ وهذه الأفكار تعصف بمخيّلته، ويُشاهد في المنام رؤىً لها علاقة بهذا الأمر، فهذه الحالة - بحدّ ذاتها - ليست محرّمة أو مذمومة، لكن من حيث إنّها تزاحم أداء تكاليفه الواجبة وتحول دون سيره في طريق تكامله، وتُعيقه عن طلب العلم والعبادة وخدمة عباد الله وما إلى ذلك فإنّها تكون مذمومة بالعَرَض"4.

الحرص المذموم وسوء العاقبة
تُطالعنا الآيات القرآنية الكريمة بخبر من أخبار خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام وكيف أمر قومه بتوحيد الله عزّ وجلّ، ونهاهم عن بخس المكيال والميزان وطالبهم بإيفاء الحقوق لأصحابها، قال الله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ5، ولكن الخصال الذميمة التي كانت تحتويها نفوسهم حالت دون فلاحهم، فحرص القوم على المزيد من الملذّات الدنيوية، والطمع في التكاثر في الأموال والثروات دفعهم إلى أن يُديروا ظهورهم للحقّ، ويتركوا دعوة نبيّهم عليه السلام، ويُنكروا التعاليم الإلهية الّتي جاء بها هذا النبي الكريم قائلين له: ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ6، وفي كتاب الله تعالى العديد من الآيات القرآنية التي بيّنت كيف أنّ الحرص المذموم كان أحد أهمّ أسباب الكفر بالله تعالى، وبالتّالي سوء العاقبة في الدنيا والآخرة.

اليهود والحرص المذموم
لا يُمكن لمن يُريد أن يستعرض أو يُشير إلى النتائج السلبية والعواقب الوخيمة لحالة الحرص والطمع وحبّ الدنيا على الإنسان من دون أن يمرّ على أعمال اليهود في هذا الشأن كونهم شربوا من قدح الحرص حتى الثمالة، فقد ذمّهم الباري عزّ وجلّ قائلاً: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُو7. فهم حريصون على جمع الثروات، حريصون على حيازة مقدّرات الشعوب والتسلّط على الدنيا، حريصون على الملك وتسلم زمام الأمور لإفساد الخلائق..، والعجيب أنّهم أحرص على ذلك من المشركين الّذين لا يلتزمون بأيّ دين، ولا يعتقدون بأيّة شريعة سماوية، في حين إنّ التعاليم الموسوية تذمّ هذه الحالة السلبية السيّئة، كما أنّ المفروض بالإنسان الملتزم بالدين والشريعة أن تؤثّر فيه التعاليم الإلهية، وتحدّ من حرصه على الدنيا: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ8 فهؤلاء من شدّة حرصهم على الدنيا، وبدافع الخوف من العذاب الإلهي الّذي ينتظرهم بسبب جرأتهم على الله وظلمهم الجائر، وعدوانهم وغصبهم لحقوق غيرهم، وسفكهم لدماء الأبرياء، فإنّه لا يوجد شيء يُبغضونه كما يُبغضون الموت: ﴿فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ9 كما أنّ حالتهم في هذا العصر لم تختلف عنها في العصور السابقة، بل يعيشون حالة الحرص الشديد أشدّ وأكثر من السابق.

والتاريخ المعاصر يشهد بأنّهم وراء كلّ الفتن الّتي احترقت الشعوب بسعير نيرانها،وحمم الجنايات المرافقة لها، فما أكثر الحروب الدامية الّتي أشعلوها بين أبناء المجتمعات البشرية، وما أكثر دماء الأبرياء المسفوكة، والّتي أُريقت من جرّاء مخطّطاتهم وتدابيرهم الخسيسة، وما أكثر الأسلحة والمواد المخدّرة الّتي تاجروا بها لإفساد وتدمير العلاقات الاجتماعية بين أبناء البشر، وما أكثر الكذب والدجل الذي يروّجونه بين الناس من خلال تحكّمهم بوسائل الإعلام العالمية الّتي يوجّهها الصهاينة واليهود ويقفون وراءها، كلّ ذلك في سبيل المزيد من الحرص على تدعيم أركان سيطرتهم على مقدّرات الأُمم والشعوب، وللأسف الشديد أن تجد الكثير من المسلمين في هذه الأيّام يُساعدونهم على إنجاح ما خطّطوا له، وما هم ماضون في تنفيذه.

إخبار وإنذار
إنّ أيّ عاقل من العقلاء يعلم علم اليقين أنّ الخصال الذميمة خطيرة على من لم يحذرها، فهي تُلاحق الإنسان ملاحقة شديدة، حتى في الأحوال التي تشيب فيها اللحية، وتُضعف فيها الهمّة، ويدنو فيها من انتهاء العمر، وزيارة القبر، ولأنّ الحرص المذموم من أخطر هذه الخصال، فقد خاف مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الخصال الذميمة على أمّته لأنّها لا تخضع للهرم أو الشيب، فهي كعجلة دائرة، لا يحول دونها إلا الموت، وقد حذّر منها بأسلوب الإخبار المتضمّن للإنذار، فقال أرواحنا له الفداء: "يهرم ابن آدم وتشبّ منه اثنتان، الحرص على المال، والحرص على العمر"10، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف"11.

وقال أخوه أمير المؤمنين عليه السلام: "من جمع له مع الحرص على الدنيا البخل بها، فقد استمسك بعمودي اللؤم"12، وأنشأ مولانا سيد الشهداء الإمام أبو عبد الله الحُسين عليه السلام قائلاً:
كَـفى بِالمَرءِ عاراً أَن تَراهُ *** مِنَ الشَأنِ الرَفيعِ إِلى اِنحِطاطِ
عَلى المَذمومِ مِن فِعلٍ حَريصاً عَلى*** الخَيراتِ مُنقَطِعَ النـشـاطِ
13.

وكان إمامنا السّجاد زين العابدين عليه السلام يستعيذ بالله تعالى من الخِلال الذميمة فيقول: "اللهم إنّي أعوذ بك مِنْ هَيجـانِ الحِرصِ وَسُورَةِ الغَضَبِ وَغَلَبَةِ الحَسَدِ وَضَعفِ الصَّبرِ وَقِلَّةِ القَنـاعَةِ..."14.
 

* كتاب المهتدون، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- العلامة مُحمد باقر المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، ج 75، ص 163 - 164، باب وصايا الباقر عليه السلام، الطبعة الثانية: مؤسسة الوفاء، بيروت لبنان، 1403 ه- 1983 م .
2- محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، لسان العرب، ج 7، ص 11، طبعة 1، دار صادر، بيروت.
3- سورة التوبة، الآية 128.
4- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 12 آب، 2011 م.
5- سورة الأعراف، الآية 85.
6- سورة هود، الآية 87.
7- سورة البقرة، الآية 96.
8- سورة البقرة، الآية 96.
9- سورة البقرة، الآيتان 94 و 95.
10- الشيخ الصدوق، مُحمد بن علي بن بابويه القمي، الخصال، ج 1، ص 273، طبعة 1، جماعة المدرسين، قم.
11- الشيخ محمد بن الفتال النيسابوري، روضة الواعظين، ج 2، ص 429، منشورات الرضي، قم.
12- عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ج1 ص261، اللؤم واللئيم، طبعة قم 1366 هـ.
13- ديوان الإمام الحُسين عليه السلام، ص 146.
14- الإمام علي بن الحُسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، الصحيفة السجادية، الدعاء 8.

2016-05-14