لا يقنعون أبدا أنهم على طريق الحق
إضاءات إسلامية
وأخيرا فالصفة الرفيعة الثالثة عشر لعباد الرحمن التي هي أهم هذه الصفات من وجهة نظر معينة : هي أنهم لا يقنعون أبدا أنهم على طريق الحق ، بل أن همتهم عالية بحيث يريدون أن يكونوا أئمة وقدوات للمؤمنين ، ليدعوا الناس إلى هذا الطريق أيضا .
عدد الزوار: 79
وأخيرا فالصفة الرفيعة الثالثة عشر لعباد الرحمن التي هي أهم هذه الصفات من وجهة
نظر معينة : هي أنهم لا يقنعون أبدا أنهم على طريق الحق ، بل أن همتهم عالية بحيث
يريدون أن يكونوا أئمة وقدوات للمؤمنين ، ليدعوا الناس إلى هذا
الطريق أيضا .
إنهم ليسوا كالزهاد المنزوين في الزوايا ، وليس همهم انقاذ أنفسهم من الغرق ، بل إن
سعيهم هو أن ينقذوا الغرقى .
لذا يقول في آخر الآية ، إنهم الذين يقولون : واجعلنا للمتقين إماما .
ينبغي الالتفات إلى هذه النكتة أيضا ، إنهم لا يدعون ليكونوا في موقع العظماء جزافا
، بل إنهم يهيئون أسباب العظمة والإمامة بحيث تجتمع فيهم الصفات اللائقة بالقدوة
الحقيقية ، وهذا عمل عسير جدا ، وله شرائط صعبة وثقيلة .
ولا ننس أن القرآن لا يذكر في هذه الآيات صفات جميع المؤمنين ، بل أوصاف نخبة
ممتازة من المؤمنين في الصف المتقدم بعنوان " عباد الرحمن " . نعم ، إنهم عباد
الرحمن ، وكما أن رحمة الله العامة تشمل الجميع فإن رحمة الله بهؤلاء
العباد عامة أيضا من أكثر من جهة ، فعلمهم وفكرهم وبيانهم وقلمهم ومالهم وقدرتهم
تخدم بلا انقطاع في طريق هداية خلق الله .
أولئك نماذج وأسوات المجتمع الإنساني .
أولئك قدوات المتقين .
إنهم أنوار الهداية في البحار والصحاري . ينادون التائهين إليهم لينقذوهم من الغرق
في الدوامة ، ومن السقوط في المزالق .
نقرأ في روايات متعددة أن هذه الآية نزلت في علي ( عليه السلام ) وأئمة أهل البيت (
عليهم السلام ) .
ونقرأ في رواية أخرى عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : " إيانا عنى " . )
ولا شك أن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) من أوضح مصاديق هذه الآية ، لكن هذا لا
يمنع من اتساع مفهوم الآية ، فالمؤمنون الآخرون أيضا يكون كل منهم إماما وقدوة
للآخرين بمستويات متفاوتة .
واستنتج بعض المفسرين من هذه الآية أن طلب الرئاسة المعنوية والروحانية ليس غير
مذموم فقط ، بل إنه مطلوب ومرغوب فيه أيضا . وينبغي الالتفات ضمنا إلى أن كلمة "
إمام " وإن كانت للمفرد ، إلا أنها تأتي بمعنى الجمع ، وهكذا هي في الآية .
جزاءهم الإلهي
بعد إكمال هذه الصفات الثلاثة عشرة ، يشير تعالى إلى عباد الرحمن هؤلاء مع جميع هذه
الخصائص ، وفي صورة الكوكبة الصغيرة ، فيبين جزاءهم الإلهي أولئك يجزون الغرفة بما
صبروا .
" غرفة " من مادة " غرف " ( على وزن حرف ) : بمعنى رفع الشئ وتناوله ، ويقال لما
يغترف ويتناول " غرفة " ( كاغتراف الإنسان الماء من العين بيده للشرب ) ثم أطلقت
على الأقسام العليا من البناء ، ومنازل الطبقات العليا ، وهي
هنا كناية عن أعلى منازل الجنة .
لذلك فإن " عباد الرحمن " بامتلاكهم هذه الصفات ، يكونون في الصف الأول من المؤمنين
، وينبغي أن تكون درجتهم في الجنة أعلى درجة أيضا .
المهم أنه يقول : إن هذا المقام العالي قد أعطي لهم بسبب ما قدموا من ضريبة الصبر
والاستقامة في طريق الله ، ومن الممكن أن يتصور أن هذا وصف آخر من أوصافهم ، لكن
هذا في الحقيقة ليس وصفا جديدا ، بل هو ضمانة تطبيق جميع
الصفات السابقة ، وإلا فهل يمكن أن نتصور عبادة الخالق ، ومواجهة الطغيان والشهوات
، وترك شهادة الزور ، والتواضع والخشوع وغيرها من الصفات بدون صبر واستقامة .
هذا البيان يذكر الإنسان بالحديث المعروف عن أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) حيث
يقول : " والصبر من الإيمان كالرأس من الجسد " فبقاء الجسد من بقاء الرأس ، ذلك لأن
قيادة جميع أعضاء البدن تستقر في دماغ الإنسان .
وعلى هذا فللصبر هنا مفهوم واسع ، فالتحمل والصمود أمام مشكلات طريق الحق ، والجهاد
والمواجهة ضد العصاة ، والوقوف أمام دواعي الذنوب ، تجتمع كلها في ذلك المفهوم ،
وإذا فسر في بعض الروايات بالصبر على الفقر والحرمان المالي ، فمن المسلم أن ذلك من
قبيل بيان المصداق .
ثم يضيف تعالى : ويلقون فيها تحية وسلاما .
أهل الجنة يحي بعضهم بعضا ، وتسلم الملائكة عليهم ، وأعلى من كل ذلك أن الله يحييهم
ويسلم عليهم ، كما نقرأ في الآية ( 58 ) من سورة يس سلام من رب رحيم ، ونقرأ في
الآية ( 23 و 24 ) من سورة يونس والملائكة يدخلون
عليهم من كل باب سلام عليكم . . . .
ترى هل ل " التحية " و " السلام " هنا معنيان ، أم معنى واحد ! ؟ ثمة أقوال بين
المفسرين ، لكن مع الالتفات إلى أن " التحية " في الأصل بمعنى الدعاء لحياة الغير ،
و " سلام " من مادة السلامة ، وبمعنى الدعاء للغير .
على هذا نستنتج : أن الكلمة الأولى بعنوان طلب الحياة ، للمخاطب والكلمة الثانية
طلب اقتران هذه الحياة مع السلامة ، ولو أن هاتين الكلمتين تأتيان بمعنى واحد
أحيانا .
" التحية " في العرف لها معنى أوسع ، فهي كل ما يقولونه في بيان اللقاء مع الآخرين
، فيكون سببا في سرورهم واحترامهم وإظهار المحبة لهم .
ثم يقول تبارك وتعالى للتأكيد أكثر : خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما .
تفسير الأمثل سورة الفرقان
/ اية الله مكارم الشيرازي.