الكلام الأخير
مؤمن آل فرعون
آخر مرحلة يزيل مؤمن آل فرعون الحجب والأستار عن هويته، إذ لم يستطع التكتم ممّا فعل، فقد قال كلّ ما هو ضروري، أمّا القوم من ملأ فرعون، فكان لهم كما سنرى ذلك قرارهم الخطير بشأنه!
عدد الزوار: 132
آخر مرحلة يزيل مؤمن آل فرعون الحجب والأستار عن هويته، إذ لم يستطع التكتم ممّا
فعل، فقد قال كلّ ما هو ضروري، أمّا القوم من ملأ فرعون، فكان لهم كما سنرى ذلك
قرارهم الخطير بشأنه!
يفهم من خلال القرائن أنّ أولئك المعاندين والمغرورين لم يسكتوا حيال كلام هذا
الرجل الشجاع المؤمن، وإنّما قاموا بطرح «مزايا» الشرك في مقابل كلامه، ودعوه كذلك
إلى عبادة الأصنام.
لذا فقد صرخ قائلا:
﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ
وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾.
إنني أطلب سعادتكم وأنتم تطلبون شقائي ; إنني أهديكم إلى الطريق الواضح الهادي
وأنتم تدعونني إلى الإنحراف والضلال!
نعم، إنّكم:
﴿تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ
عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ﴾.
نستفيد من الآيات القرآنية المختلفة، ومن تأريخ مصر، أنّ هؤلاء القوم لم يقتصروا في
عبادتهم وشركهم وضلالهم على الفراعنة وحسب، وإنّما كانت لهم أصنام يعبدونها من دون
الواحد القهار، كما نستفيد ذلك بشكل مباشر من قوله تعالى في الآية (127) من سورة «الأعراف»
حيث قوله تعالى:
﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ
وَآلِهَتَكَ﴾ والآية تحكي خطاب أصحاب فرعون والملأ من قومه لفرعون.
وقد تكرّر نفس المضمون على لسان يوسف (ع)، إذ قال لرفاقه في سجن الفراعنة:
﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾.
لقد ذكّرهم مؤمن آل فرعون من خلال مقارنة واضحة أنّ دعوتهم إلى الشرك لا تستند على
دليل صحيح، والشرك طريق وعر مظلم محفوف بالمخاطر وسوء العاقبة والمصير، بينما دعوته
(مؤمن آل فرعون) دعوة للهدى والرشاد وسلوك طريق الله العزيز الغفّار.
إنّ عبارة (العزيز) و (الغفار) تشير من جانب إلى مبدأ (الخوف والرجاء) ومن جانب ثان
تشير إلى إلغاء ألوهية الأصنام والفراعنة، حيث لا يملكون العزة ولا العفو.
ينتقل الخطاب القرآني على لسان مؤمن آل فرعون إلى قوله تعالى:
﴿لا جَرَمَ أَنَّمَا
تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ﴾
فهذه الأصنام لم ترسل الرسل إلى الناس ليدعوهم إليهم، وهي لا تملك في الآخرة
الحاكمية على أي شيء.
إنّ هذه الموجودات لا تملك الحس والشعور، إنّها أصنام لا تتكلم ولا تضر ولا تنفع،
وإنّ عليكم أن تعلموا:
﴿وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ﴾.
فهو سبحانه وتعالى الذي أرسل رسله إلى الناس لأجل هدايتهم، وهو الذي يثيبهم
ويعاقبهم على أعمالهم.
ويجب أن تعلموا أيضاً:
﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾.
وهكذا كشف مؤمن آل فرعون ما كان يخفي من إيمانه، وبذلك فقد انكشف هنا خطّه الإيماني
التوحيدي، وانفصل علناً عن خط الشرك الملوث الذي يصبغ بآثامه وأوحاله الحكّام
الفراعنة ومن يلف حولهم، لقد رفض الرجل دعوتهم ووقف لوحده إزاء باطلهم وانحرافهم.
في آخر كلامه وبتهديد ذي مغزى يقوله لهم:
﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ﴾.
إنّ ما قلته لكم ستذكرونه في الدنيا والآخرة، وستعلمون صدقي عندما تصيبكم المصائب،
وينزل بساحتكم الغضب الإلهي، لكن سيكون ذلك كلّه بعد فوات الأوان، فإن كان في
الآخرة فلا طريق للرجوع، وإن كان في الدنيا فهو لا يتم إلاّ حين يحل بكم العذاب
الإلهي، وعندها ستغلق جميع أبواب التوبة.
ثم تضيف الآية على لسان الرجل المؤمن:
﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾.
لهذا كلّه لا أخشى تهديداتكم، ولا أرهب كثرتكم وقوتكم، ولا تخيفني وحدتي بيّن
أيديكم، لأني وضعت نفسي بين يدي المطلق ذي القدرة اللامتناهية، والمحيط علمه بكل
شيء، وبأحوال عباده أينما كانوا وحلّوا.
إنّ هذا التعبير يستبطن في طياته دعاء مهذباً انطلق من الرجل المؤمن الذي وقع
أسيراً في قبضة هؤلاء الأشقياء الظالمين.لذلك طلب بشكل مؤدب من خالقه (جلّ وعلا) أن
يحميه بحمايته وينقذه ممّا هو فيه.
الله تبارك وتعالى لم يترك عبده المؤمن المجاهد وحيداً وإنّما:
﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُو﴾.
إنّ التعبير بـ (سيئات ما مكروا) يفيد أنّهم وضعوا خططاً مختلفة ضدّه... ترى ما هي
هذه الخطط؟
في الواقع، إنّ القرآن لم يذكرها بل تركها مجهولة، لكنّها حتماً لا تخرج عن ألوان
العقاب والتعذيب ينزلونه بالرجل قبل أن يحل به القتل والإعدام، إلاّ أنّ اللطف
الإلهي أبطل مفعولها جميعأ وأنجاه منهم.
تفيد بعض التفاسير أنّ مؤمن آل فرعون انتهز فرصة مناسبة فالتحق بموسى (ع)، وعبّر
البحر مع بني إسرائيل. وقيل أيضاً: أنّهُ هرب إلى الجبل عندما صدر عليه قرار الموت،
وبقي هناك مختفياً عن الأنظار. ومن الطبيعي أن لا يكون هناك تعارض بين الرأيين، إذ
يمكن أن يكون قد هرب إلى الجبل أولا، ثمّ التحق ببني إسرائيل.
وقد يكون من مؤامراتهم عليه، محاولتهم فرض عبادة الأصنام عليه وإخراجه من خط
التوحيد، إلاّ أن الله تبارك وتعالى أنجاه من مكرهم ورسخ قدمه في طريق الإيمان
والهدى.
أمّا القوم الظالمون فقد كان مصيرهم ما يرسمه لنا القرآن الكريم:
﴿وَحَاقَ بِآلِ
فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾.
إنّ العذاب والعقاب الإلهي أليم بمجمله، إلاّ أنّ تعبير «سوء العذاب» يظهر أنّ الله
تبارك وتعالى انتخب لهم عذاباً أشد إيلاماً من غيره، وهو ما تشير إليه الآية التي
بعدها، حيث قوله تعالى:
﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّ﴾ ثم:
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾.