يتم التحميل...

رقّة القلب والخلوة مع الله

المهتدون

قال الإمام أبو جعفر مُحمد بن علي الباقر عليه السلام موصياً صاحبه، وتلميذه النجيب جابر الجعفي: "وَتَعَرَّضْ لِرِقَّةِ الْقَلْبِ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ فِي الْخَلَوَاتِ"

عدد الزوار: 342

نصّ الوصيّة:
• قال الإمام أبو جعفر مُحمد بن علي الباقر عليه السلام موصياً صاحبه، وتلميذه النجيب جابر الجعفي: "وَتَعَرَّضْ لِرِقَّةِ الْقَلْبِ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ فِي الْخَلَوَاتِ"1.

رقّة القلب باب كلّ صلاح
إنّ رقّة القلوب وخشوعها، وانكسارها لخالقها وبارئها منحة من الرحمن، تستوجب العفو والغفران، فإنّه ما رقّ قلبٌ لله عزّ وجلّ إلا كان صاحبه مبادراً إلى الخيرات، مشمّراً في الطاعات، وما رقّ قلبٌ لله عزّ وجلّ وانكسر إلا وجدت صاحبه أحرص ما يكون على طاعة الله ومحبّته، فما ذُكِّر إلا تذكّر، ولا بُصِّر إلا تبصّر، وما دخلت الرقّة إلى القلب إلا وجدته مطمئنّاً بذكر الله، يلهج لسانه بشكره والثناء عليه سبحانه وتعالى، وما رقّ قلبٌ لله عزّ وجلّ إلا وجدت صاحبه أبعد ما يكون عن معاصي الله عزّ وجلّ.

فالقلب الرقيق قلبٌ ذليلٌ أمام عظمة الله تبارك وتعالى، والقلب الرقيق رفيقٌ ونعم الرفيق، والمتمعّن في كتاب الله تعالى والسيرة العطرة لنبيّ الرحمة مُحمد صلى الله عليه وآله وسلم يجد أنّ الله عزّ وجلّ أخبر مصطفاه أنّ رقّة القلوب يحتاجها أحبّ العباد إلى الله، وهم أنبياؤه، وأوصياؤهم والهداة والدعاة إلى الله، وطلّاب العلم، وعامّة الناس وخاصّتهم، قال سبحانه وتعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ2، أي لو كان قلبك قاسياً لانفضّت هذه الجموع من حولك يا رسول الله.

فصلاح أمور الدعوة إلى الله تقوم على رقّة قلب الداعي إلى الله تعالى، وإذا لم تلن القلوب لله تعالى، فلمن تلين القلوب؟ وإذا لم تذلّ القلوب لله فلمن تذلّ القلوب؟ وإذا لم ترقّ القلوب لكلام الله فلمن ترق القلوب؟ قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام "طوبى للمنكسرة قلوبهم من أجل الله"3.
كن مع الله تَرَ الله معَكْ واترك الكلّ وحاذر طمعَكْ
كلّما نابك أمـر ثـق به واحترز للغير تشكو وجعك


السعي إلى تطوير حالة القلب
"من الأمور الهامّة السعي في سبيل تطوير حالة القلب، وجعلها إلهية، وتوجيهها نحو الحقّ المتعالي وأوليائه ودار كرامته، ويتمّ هذا قطعاً بواسطة التفكّر في آلاء الذّات المقدّس، ونعمائه والمحافظة على طاعته وعبادته، ولكن يجب أن لا يعتمد الإنسان على نفسه ومساعيه، بل يستعين بالله على ذلك في جميع الأحوال، وخاصّة في حالات الخلوة مع الله بكلّ تذلّل وتضرّع وبكاء، ويطلب منه أن يُلقي حبّه في قلبه ويضيئه بنور محبّته ومعرفته، ويخرج حبّ الدنيا وما عدا الله من قلبه، ومن الواضح أنّ هذا الدعاء يكون في بدء الأمر من دون لبّ، ويكون صرف لقلقة لسان، لأن مطالبة زوال حبّ الدنيا من القلب مع كونه مفرطاً في التعلّق بها، مشكل جدّاً، ولكن نرجو بعد التمعّن في ذلك فترة من الزمن، والمراقبة، وإفهام القلب النتائج الحسنة لمحبّة الله، والنتائج السيّئة لحبّ الدنيا، أن يتحقّق ذلك إن شاء الله تعالى"4.

معنى رقّة القلب ومفهومها
استمراراً للحديث الشريف المنقول عن الإمام الباقر عليه السلام والذي يُخاطب به جابر بن يزيد الجعفيّ يقول عليه السلام لجابر: "من أجل الظفر برقّة القلب أكثِر من ذكر الله في الخلوات".

ورقّة القلب هي: حالة ينفعل فيها الإنسان بسرعة عند مواجهة بعض العوامل المثيرة للأحاسيس والمشاعر، ومن آثارها الظاهريّة ذرف الدموع.

بالطبع إنّ عوامل ذرف الدموع مختلفة، فقد يعتقد البعض أنّ البكاء لا يكون إلاّ نتيجة الخوف، وهو الخوف من نار جهنّم حصراً. بَيْدَ أنّ للبكاء أنواع، فقد يبكي المرء نتيجة للفرح المفاجئ والمفرط، فالأمّ التي فارقت ولدها لسنوات طويلة تبكي عند لقياه لفرط فرحها، وقد ينجم البكاء عن الحياء أيض، فإذا أهان الإنسان امرأً مثلاً فقد يبكي عند مواجهته من شدّة خجله، وقد يكون البكاء أيضاً بسبب اليأس من الحصول على نتيجة، وعلى أيّة حال فإنّه يُقال لحالة الانفعال في الإنسان هذه: "رقّة القلب"، وإنّ أثرها الظاهريّ هو البكاء"5.

القلب في القرآن الكريم
يُمكننا القول بشكل عامّ: إنّ القلب - وفقاً للمصطلح القرآنيّ - هو مركز للإدراك، ومركز للأحاسيس والعواطف في نفس الوقت. أمّا "الرقّة" فهي تتعلّق بقسم الأحاسيس والانفعالات. فهناك صنف من الناس يواجهون الأحداث السارّة - التي يُسَرّ لها الناس العاديّون كثيراً - بحالة من عدم الاكتراث واللامبالاة، ويتّصفون بالبرود الشديد عندما يتطلّب الموقف الغضب وحِدّة المزاج عادةً، وفي مجالس العزاء مثلاً لا يذرفون حتّى دمعة واحدة. هذه الحالة يُطلق عليها "قسوة القلب". وإنّ للقرآن الكريم تعبيراً ملفتاً عن هذه الحالة وهو قوله: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء6، أمّا قُساة القلوب فإنّ لهم قلوباً لا تنكسر أبداً وإنّ لهم أعيناً لا تذرف حتّى دمعة واحدة. وهذه الحالة تُمثّل شكلاً من أشكال الشذوذ، كأن يكون لامرئ عين لكنّه لا يُبصر. فالعين أداة البصر، فإن كانت لا تُبصر عُلِم أنّها مصابة بمرض. وهذا - بالطبع - يختلف عن قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَ7، فهو هنا يقصد أداة الباصرة الباطنيّة التي لا ترى الحقّ.

فالشخص الذي لا يحترق قلبه على شيء أبداً ولا تذرف عينه دمعة إطلاقاً ولا يطرأ على قلبه تأثّر بتاتاً فإنّ قلبه مريض، وهذا المرض يُطلق عليه القرآن الكريم "قسوة القلب"، وهناك عوامل مختلفة لهذا المرض، لكن ممّا لا شكّ فيه فإنّ للعوامل التربويّة أثراً في ظهوره. فرقّة القلب تحدث - بشكل طبيعيّ وفي ظروف خاصّة - لكلّ إنسان يمتلك قلباً سليماً. وبالطبع هناك اختلاف بين الذكر والأنثى من هذه الناحية، إذ إنّ أحاسيس النساء أقوى من الرجال، وقلوبهنّ أرقّ منهم، وهنّ أسرع إلى البكاء مقارنة بالرجال، بَيْدَ أنّه لكلّ جنس نصابه الطبيعيّ، ولا بدّ من ظهور هذا الأثر ضمن هذا النصاب وهذه الحدود. لكنّ السؤال هنا هو: هل ينبغي - كقيمة أخلاقيّة - أن يكون قلب المرء شديد الرقّة أم قليلها؟8.

القرب من الله مناط القيمة الأخلاقيّة في الإسلام
وفقاً لنظام أخلاقيّ قديم منقول عن فلاسفة اليونان فإنّ "الاعتدال" هو أساس القيم وإنّ جميع الصفات تُقاس بهذا الميزان. وعلى أساس هذا المعيار، فإنّه ينبغي للمرء أن يتّخذ حالة معتدلة، فلا يكون قلبه شديد الرقّة إلى درجة الانفجار بالبكاء عند مشاهدة أيّ مشهد، ولا قاسي القلب إلى درجة عدم تأثّره بأيّ حادثة. فميزان القيمة في هذا النظام الأخلاقيّ هو الاعتدال، وكلّ ما ينحرف إلى هذا الطرف أو ذاك فهو يُعدّ إفراطاً أو تفريطاً.

أمّا مناط القيمة وفقاً للأخلاق الإلهيّة أو الإسلاميّة، فهو أرفع من ذلك بكثير. ذلك أنّ الصفات القيّمة حسب الأخلاق الإلهيّة هي تلك التي تُقرّب الإنسان إلى الله تعالى. أمّا في الأخلاق الفلسفيّة المذكورة فإنّ العلاقة المذكورة مقطوعة وإنّ الارتباط مع الله غير مراعىً فيها.

وبناءً عليه فإنّ رقّة القلب لا تكون ذات قيمة في الأخلاق الإسلاميّة إلاّ إذا ظهر أثرها فيما يتعلّق بالله عزّ وجلّ وفي القرب منه. فإنّ ما يكون مفيداً للإنسان المؤمن حتماً هو أن لا يكون غير مبال إذا ذكر عظمة الباري تعالى، أو عفوه وتجاوزه، أو ذكر عذابه. يقول القرآن الكريم في ذكر إحدى صفاته: ﴿كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ9، فإنّ من جملة صفات كلام الله هي أنّه إذا سمعه المؤمنون اقشعرّت جلودهم وشعروا برعدة في أوصالهم.

هذه الحالة العاطفيّة هي حالة انفعاليّة يظهر أثرها على الجلد. كما أنّه يقول تعالى في صفات المؤمنين: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ10، فمن خصائص المؤمن هي أنّ قلبه يرتجف إذا ذُكر الله عنده، وهي علامة الإيمان. فلا بدّ لقلب المؤمن أن يشعر بالحقارة في مقابل عظمة الباري عزّ وجلّ. بل يتحتّم على المؤمن أن تنتابه حالة الخجل وأن تسيل دموعه عندما يتذكّر أنعم الله عليه لا سيّما عندما يغيثه الله وينصره مع كلّ ما هو عليه من تقصير وغفلة.

فقد جاء في الدعاء الوارد بعد زيارة الإمام الرضا عليه السلام ما نصّه: "ربِّ إنّي أستغفرك استغفار حياء"11، فأوّل ما يستغفر العبد ربّه هو الاستغفار الناشئ عن الحياء، فكأنّه يريد أن يقول: إلهي! إنّني لأستحي أن أواجهك أساساً. فبمجرّد أن ينوي العبد - مع كلّ أعماله المخزية وما يتّصف به من عدم الأهليّة - الجلوس بين يدي ربّه الرؤوف الرحيم الرحمان تنحدر دموعه على وجنتيه قبل أن يذكر جهنّم والعذاب.

وفي هذه الحالة سيدعوه الله عزّ وجلّ لضيافته ويضيّفه. وكذا عندما يُنذر الله عبده من عذاب الآخرة فعلى الأخير أن يحمل إنذاره على محمل الجدّ. فعدم الاكتراث لهذه الإنذارات هو عدم اكتراث لله جلّ وعلا. فإن تلا المرء هذه الآيات من دون أن توقع في قلبه أيّ تأثير فليعلم أنّه مصاب بقسوة القلب. فالمؤمن يتأثّر عندما يلتفت إلى هذه الآيات وتجري دموعه من عينيه: ﴿يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدً12 و ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعً13، فعندما تُتلى آيات القرآن الكريم على المؤمنين الصالحين يهوون بوجوههم على الأرض وتلتصق جباههم بها من أثر الخضوع والخشوع.

على كلّ حال فقد وهب الله الإنسان قلباً كي تظهر هذه الآثار منه في الوقت المناسب. أمّا إذا اقتصر التفاتنا أثناء قراءة القرآن الكريم، أو حتّى تلاوة آيات العذاب، إلى الصوت والأجهزة الصوتيّة من دون أن ننتبه بتاتاً إلى الهدف من نزول تلك الآيات أو إلى معانيها فسنُبتلى بقسوة القلب.

إذن فرقّة القلب المطلوبة للإنسان المؤمن هي ما يحصل في مثل هذه الحالات، وبشكل عامّ فإنّ الاتّصاف برقّة القلب من دون الوقوع في الإفراط والتفريط هي حالة حسنة، لكنّها لا تُعدّ قيمة إسلاميّة إلاّ إذا ارتبطت بالله جلّ وعلا"14.

السبيل لمعالجة قسوة القلب
فما العلاج إذن إذا ابتُلينا بقسوة القلب؟ يُقدّم إمامنا الباقر عليه السلام النصح لجابر في هذا الصدد فيقول: "وَتَعَرَّضْ لِرِقَّةِ الْقَلْبِ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ فِي الْخَلَوَاتِ"، فإنْ أردت حصول الرقّة في القلب فأكثر من الذكر في الخلوات. والمراد من الذكر هنا هو ما يكون في مقابل الغفلة، أو خصوص الالتفات القلبيّ، أو الذكر اللفظيّ المقترن بالالتفات القلبيّ. فلا بدّ للقلب من التذكّر.

قال مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "سبعة يُظلّهم الله عزّ وجلّ في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه... وفي آخره:..، ورجل ذكر الله عزّ وجلّ خالياً، ففاضت عيناه من خشية الله عزّ وجلّ"15.

محاربة حالة الغربة عن الذّات
"قد ينشغل الإنسان أحياناً بما هو خارج عن وجوده إلى درجة الغفلة عن نفسه وعن سعادته وشقائه. يقول القرآن الكريم: ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ16، فهناك آيات إلهيّة كثيرة في هذا الكون لكنّ الناس يمرّون أمامها من دون أن يعيروها أيّ أهمّية.

بل وقد يصل الأمر إلى نسيان حقيقة أنفسهم أيضاً: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ17، يُقال في علم النفس الحديث: هناك من يُصاب بنسيان النفس نتيجة تعلّقه بالمال والجاه والأوهام والخيالات، فهو ملتفت إلى كلّ شيء سوى السؤال التّالي: أيّ موجود هو؟ من أين أتى وأين هو؟ ما الذي عليه صنعه وإلى أين يتعيّن عليه الذهاب؟

وبتعبير آخر: يُصبح غريباً عن ذاته. ومن علامات الغربة عن الذّات هي الخوف من النفس. فعندما يكون المرء وحيداً ينتابه الخوف والوحشة فيحاول التلهّي بشيءٍ مّا، وإذا حُلِّلت هذه الحالة بدقّة فسيُكتشَف أنّ هذا الشخص لا يريد فهم نفسه أو معرفتها أساساً، وسيكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ18.

فمع أنّ الإنسان يُحبّ نفسه أكثر من أيّ شيء آخر، إلاّ أنّه لا يريد التفكير في ذاته. وحالة الغفلة هذه تؤدّي إلى ضعف خصوصيّات القلب، فيضعف ويضمحلّ إدراك الإنسان للحقائق ويمتلئ عقله وذهنه بالتفاهات، فهو في هذه الحالة يُفكّر بكلّ شيء إلاّ بنفسه، وتبعاً لتفاهة العقل والذهن تضعف الأحاسيس والعواطف أيضاً، فلا يعود يتأثّر كثيراً بأحوال الآخرين، ومن أجل إزالة هذه الحالة، على الإنسان أن يُقلّل من التفاته إلى الخارج ويلتفت أكثر إلى داخله وذاته، وهنا توجد مسألتان:
الأولى: هي عندما يلتفت المرء إلى نفسه، فإنّه ينتبه إلى الزاوية التي تفصله عن ربّه، فأصل جميع كمالات الإنسان يكمن في تقوية هذه العلاقة، وإنّ تعزيز هذه العلاقة ينتهي إلى القرب من الله عزّ وجلّ. كما أنّ أسمى درجات كمال الإنسان هي في قربه من ربّه، ولذا فعلى الإنسان أن يلتفت إلى هذه العلاقة. الثانية: هي أن يُبعِد عن نفسه ما يُعيق هذا الالتفات، والخلوة هي أفضل فرصة لذلك، إذ لا ينبغي أن نتوقّع من المرء التركيز، وليجدَ ذاته وهو بين الناس"19.

الخلوة في جوف الليل هي أفضل فرصة
يقول الإمام الباقر عليه السلام: إذا أحببت أن تكون رقيق القلب فاسعى لأنْ تطرد الغفلة عنك، وذلك عبر كثرة الذكر والالتفات، ومن أجل أن تُحافظ على حالة الالتفات، وأن لا تسمح للعوامل الخارجيّة بأن تصرفك عن نفسك، فكن من أهل الخلوة بالله!

فمن المناسب جدّاً أن يُرتّب المرء لنفسه خلال اليوم والليلة - لا سيّما أثناء الليل - برنامجاً للخلوة: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلً20، ففترة الليل هي أكثر استقامة وثباتاً وتأثيراً، فعلى الإنسان أن يخلو بنفسه في الليل ويدرس علاقته بربّه، فكلّما أطال التفكير في هذا الأمر ازداد قلبه رقّة، فقد جاء في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "عوّدوا قلوبَكم الرقّة"21، والتعبير ب "عوّدوا" هنا ينطوي على التفاتة.

فالأمور البدنيّة تبدأ عادة من القليل حتّى يتعوّد الإنسان عليها تدريجيّاً فيتمكّن فيما بعد من إنجاز أعمال أضخم. والرياضيّون خير مثال على ذلك. والقضيّة ذاتها تنطبق على المسائل المعنويّة، فإذا رغب المرء في اكتساب حالة رقّة القلب في الخلوات فلا ينبغي أن يظنّ أنّه سيتحوّل منذ اليوم الأوّل حتماً إلى واحد من بكّائي العالم، بل عليه أن يعوّد نفسه على هذه الحالة بشكل تدريجيّ.

عليه أن يُفكّر في الموضوعات التي توجب خجل وحياء الإنسان من الله سبحانه، فلو طلب صديق الإنسان الحميم منه شيئاً قائلاً: امتنع عن هذا الفعل لأجلي، لكنّ هذا الإنسان فعل ذلك الفعل ظنّاً منه أنّ صديقه لا ينظر إليه، فاكتشف فجأة أنّه يُشاهده، فأيّ حال سيطرأ عليه يا تُرى؟ فما بالك بالله العظيم الشأن الذي لا يملك الإنسان شيئاً إلاّ منه، وقد طلب من الإنسان أمراً لا يصبّ إلاّ في صالح الإنسان نفسه، وليس له من أثر عليه تعالى على الإطلاق، لكنّ هذا الإنسان نسي ربّه وأصرّ بلا حياء على ما نهاه الله عنه، فإن التفت إلى أنّ الله حاضر وناظر وهو يراه، فإلى أيّ حدٍّ ينبغي أن يشعر بالخجل؟! فإذا خلى الإنسان بنفسه وجسّد هذه الحالة في مخيّلته، فإنّ لذلك أثراً عظيماً. إذن عليه أن يُمارس هذا التمرين باستمرار، ويعوّد نفسه عليه، وعندها ستحصل عنده حالة البكاء والتأوّه والأنين شيئاً فشيئاً"22.

الخلوة القلبية
والمقصود من الحديث الشريف الذي يقول الحقّ تعالى فيه أنا جليس من جالسني.. هذه هي الخلوة القلبية، وهذه الخلوة هي أفضل الخلوات، والخلوات الأخر مقدّمة لحصول هذه الخلوة، فمن اتّصف بجميع مراتب التقوى يسلم دينه وعقله وروحه وقلبه، وجميع قواه الظاهرة والباطنة، وتسلم حفظته الموكلة به، ولا تملّ ولا تضجر ولا تتوحّش منه، ومن كان بهذه الصفة تكون معاملاته ومعاشرته مع صديقه وعدوّه بطريق السلامة. بل ينقطع جذر العداوة عن باطن قلبه، وإن كان الناس يُعادونه23.

وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: "اشحن الخلوة بالذكر، واصحب النعم بالشكر"24.

فاحذر أيها القارئ الكريم ممّا يُسبّب لك قسوة القلب، وأكثِر من ذكر مولاك، وسله في خلواتك شفاء قلبك. رزقنا الله وإيّاكم رقّة القلب وسكينته وإخباته لربّه، وتذلّل بين يديه تعظيماً وإجلالاً، فإن ذلك منزلة رفيعة من منازل المؤمنين، تتقاصر أمامها نفوس الضعفاء، وأعاذنا الله وإيّاكم من القسوة، وصلى الله على أرحم الخلق سيّدنا مُحمد وآله الطيّبين الطاهرين.

* كتاب المهتدون، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص164، باب وصايا الباقر عليه السلام.
2- سورة آل عمران، الآية 159.
3- الآمدي التميمي، غرر الحكم و درر الكلم،الفصل الثالث: في خشية الله، الحكمة 3715.
4- الإمام الخميني قدس سره، الأربعون حديثاً، الحديث الثامن والعشرون، في بيان انكشاف بعض الأحوال الغيبية على الإنسان لدى موته.
5- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 16 آب ، 2011 م.
6- سورة البقرة، الآية 74.
7- سورة الأعراف، الآية 179.
8- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 16 آب ، 2011 م.
9- سورة الزمر، الآية 23.
10- سورة الأنفال، الآية 2.
11- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج99، ص56.
12- سورة الإسراء، الآية 107.
13- سورة الإسراء، الآية 109.
14- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 16 آب ، 2011 م.
15- الشيخ الصدوق، الخصال، ج2، ص 243-244.
16- سورة يوسف، الآية 105.
17- سورة الحشر، الآية 19.
18- سورة الحشر، الآية 19.
19- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 16 آب ، 2011 م.
20- سورة المزمل، الآية 6.
21- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج70، ص81.
22- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 16 آب، 2011 م.
23- الإمام الخميني قدس سره، الآداب المعنوية للصلاة، ص554 - 555، الفصل الثاني آداب السلام عند الصادق عليه السلام.
24- الآمدي التميمي، غرر الحكم و درر الكلم،الفصل الثاني: في الذكر، الحكمة 3606.

2016-03-18