كف الأذى أصل لا فرع
فلسفات أخلاقية
والقصد الأول من هذا الاهتمام والتركيز على النهي عن كف الأذى بعامة وعن الظلم والعدوان بخاصة، هو الإشارة والتنبيه إلى ان المحبة وحسن التعاون بين الناس
عدد الزوار: 192والقصد الأول من هذا الاهتمام والتركيز على النهي عن كف الأذى بعامة وعن الظلم والعدوان بخاصة، هو الإشارة والتنبيه إلى ان المحبة وحسن التعاون بين الناس ليس شرطاً من شروط الإيمان أو لازماً من لوازمه وكفى، بل هما عصب الحياة الاجتماعية، وعليهما يقوم ويستقيم كل جانب من جوانبها حتى الحياة بين أخوين أو أبوين فضلاً عن حياة المجتمع والجماعة، وعليه فليس هذا المبدأ وضعياً أو شرعياً بل عقلياً وطبيعياً، والإسلام كشف عنه وأقره وحث على التمسك به، واليه أشار القرآن بقوله: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع صلوات ومساجد) (40 ـ الحج) يضاف إلى ذلك الحرص على حرية الإنسان وحقوقه وكرامته، ولولا هذا المبدأ لكان الحق للسيف والقوة لا للقانون والعدالة.
والآن تعيش البشرية كلها
إلى جانب قوتين عالميتين رهيبتين تتسابقان إلى السلاح الأكثر فتكاً وسفكاً حتى
حولتا إليه قرص الجائع وطمر العاري وكوخ المشرد، وكل منهما تزهو بأسلحتها الجهنمية
وترهب بها عباد الله وعياله، أما مثلهما الأعلى فواحد، وهو أن تكون كل منهما أشد
قوة وأكثر جمعاً، وبهذا يمكننا أن نعرف ما هي الآثار والأضرار التي يتركها هذا
المثل أو المبدأ على العالم كله بلا استثناء.
وإذا كانت فلسفة نيتشه القائلة بأن القوة هي الحق والعدل والقانون والأخلاق، وأن
الضعيف يجب أن يكون رقاً مؤبداً للقوي تماماً كالحيوان أو يجب أن يقتل كالديدان،
إذا كانت هذه (النيتشية) باطلة عند أهل الشرق والغرب فان قوى الشر في عصرنا تطبقها
بدقة وأمانة، وكفى شاهداً على ذلك مساعدتها على تشريد شعب بمجموعه، وغزو شعب في عقر
داره، والمكر بكل بلد لا يخضع للقوة.. والتآمر عليه بايقاظ الفتنة من الداخل، أو
بانقلاب عسكري أو بتحريض شعب مجاور.. إلى أشكال وألوان من الاغتيال والاحتيال،
ويبدو أن هذه القوى لا تبلغ غاياتها إلا على حساب الضعفاء والأبرياء.
ومشكلة البشرية مع أقوياء هذا الزمان أعصى من أن تحل بطول الكلام والشكوى من أولاد
الحرام.. ولكن للحق سلاحاً لا تراه الأعين، وهيهات أن تنام الشعوب على الضيم وإن
طال بها الزمن.. وعلى أية حال فهذا الكلام لا يمتّ إلى ما نحن فيه بسبب، وهو أشبه
بنفثة مصدور، لأن حديثنا يختص بمن يؤمن بالإلزام الخلقي والواجب الإنساني، ولكن
نفسه الأمارة تعاكس وتشاكس، وعليه أن يكافحها ويكبحها، وقوى الشر في عصرنا لا تخاف
المعاد، ولا تعترف بعقل وضمير، ولا ترى الا منافعها الشخصية.
3 ـ من تعاليم الهداة ((ذمك لنفسك أفضل من عبادة أربعين سنة.. من مقت نفسه دون مقت
الناس أمنّه الله من فزع يوم القيامة. سيئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك..
والله لا ينجو من الذنب إلا من أقر به)).
قد يسهل على المرء أن يعترف بالخطأ ويعتذر منه لمجرد التخلص من مشكلة لا سبيل إلى
انهائها إلا بالاعتراف والاعتذار، ولكن لا يسهل عليه أبداً أن يمقت نفسه ويعترف
بخطئها، ويشعر بالحاجة الماسة إلى محاسبتها أو اصلاحها إلا أن يكون واقعياً ومعقولاً،
ولا يكون واقعياً ومعقولاً إلا أن يتهم نفسه في صواب ما أحبت وتحسين ما اشتهت.
وهذا الإحساس والشعور لا يُعدّ جهاداً للنفس، ولكنه يمهد الطريق اليه، ويبشر بالعزم
والتصميم على بذل الجهد لحياة أكمل..
أما الذي يرى نفسه على صواب دائم فميئوس منه، بخاصة إذا اعتقد أن صوابه جاء من وحي
العبقرية والإلهام، وان من كان على موهبته وشاكلته فهو في غنى عن الدرس والعلم
والتجربة والممارسة.
ونختم هذا الفصل بكلمة جاءت في آخر الخطبة 88 من خطب النهج، وفيها غنى عن كل ما قيل
ويمكن أن يقال عن جهاد النفس: ((من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر لم
يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ)). وهذا الواعظ والزاجر هو الذي عناه الأخلاقيون
بالحاسة الخلقية والضمير الأخلاقي.
والخلاصة أن الدين عند أهل البيت(عليه السلام) ليس مجموعة من الاعتقادات والعبادات والمعاملات
وكفى، أي اعتقاد مجرد عن العمل وكلام يردده اللسان دون أن يترك أثراً، وانما الدين
في جوهره فعل الخيرات والكف عن المحرمات، وبدون هذين الأصلين لا دين ولا أخلاق لأن
الحياة التي عناها سبحانه بقوله: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا
دعاكم لما يحييكم) (24 ـ الأنفال) لا تستقيم إلا بالأمن والسلام والحرية والمساواة
والحق والعدل، ولا يوجد شيء من ذلك إلا بكف الظلم والأذى وحجز المطامع والشهوات،
وما من إنسان إلا وهو قادر على هذا الكف والحجز.