الجزاء وأنواعه
فلسفات أخلاقية
الجزاء هو العنصر الثالث للخير والفضيلة، وبينه وبين المسؤولية علاقة المعلول بالعلة تماماً كالعلاقة بين المسؤولية والإلزام،، فهي معلولة للإلزام وعلة للجزاء في آن واحد لأن وضع المرء موضع المسؤولية يفترض من وجهة اخلاقية وجود الجزاء ثواباً على طاعة الإلزام المسئول عنه، وعقاباً على مخالفته.
عدد الزوار: 918
الجزاء وليد المسؤولية
الجزاء هو العنصر الثالث للخير والفضيلة، وبينه وبين المسؤولية علاقة المعلول
بالعلة تماماً كالعلاقة بين المسؤولية والإلزام،، فهي معلولة للإلزام وعلة للجزاء
في آن واحد لأن وضع المرء موضع المسؤولية يفترض من وجهة اخلاقية وجود الجزاء ثواباً
على طاعة الإلزام المسئول عنه، وعقاباً على مخالفته.
وهنا قاعدة أساسية راعتها واهتمت بها الشريعة الإسلامية والشرائع الوضعية معاً، وهي
إذا قام المكلف العاقل بعمل ظاهره الخير، استحق عليه الثواب والثناء بمجرد حدوثه،
ولا يسوغ بحال أن نستعجل بالسيئة قبل الحسنة حتى يثبت العكس، وأيضاً لا يجب البحث
والسؤال: هل أتي به لوجه الله أو لمنفعة شخصية حملاً للشيء على ما وضع له إلا مع
شاهد بالتحريف عن موضعه الأصيل. وكذلك يجب التوقف عن الحكم إذا لم يفعل المكلف ما
عليه من الواجب، ولا نسرع إلى القول بأنه عصى وترك عن عمد، فلعل له عذراً من عجز أو
نسيان، ولا جريمة مع التعذر والتعسر.
الجزاء وأخلاقية الفعل
وتسأل: ان أخلاقية الفعل ترفض فكرة الجزاء والثواب عليه مادياً كان الجزاء أم أدبياً،
وتحتم الإتيان بالواجب بداع من تقديسه في ذاته وكفى تماماً كقوله تعالى: (انما
نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً) (9 ـ الإنسان). ومن أوجب الجزاء
على الواجب فقد انحدر به عن مقامه، ونفى عنه صفة الأخلاقية من حيث يريد ثبوتها
تماماً كما لو قال قائل: لا تشرق الشمس إلا حين تغيب عن الأعين؟
الجواب:
يجب أن ندرك ونميز بين من يفعل الخير ويحسن لوجه الخير والإحسان، وبين من يحب
المحسنين ويكافئهم بجزاء الحسنى، أيضاً لوجه الله والخير، والكلام هنا فيمن يكافىء
على فعل الواجب، لا فيمن يفعله ويطالب بالأجر عليه.. ثم هل من العدل والأخلاق أن
نتجاهل الطيب المخلص في أفعاله وأخلاقه ولا نشجعه على فعله المحمود بما يغريه
بالاستمرار والمزيد عسى أن يقتدي به مقتد أو يهتدي به مهتد ويكثر الطيبون؟. وأخيراً
فان من ينكر الجزاء باسم الأخلاق هو الذي يفصل الشيء عن نفسه وينفي الوجود عن
الموجود لا من يقول بالجزاء.
ويضاف إلى ذلك أنه على الرأي القائل بنفي الجزاء ينبغي لله سبحانه أن لا يُدخل
الجنّة من عبد الله لذات الله، لا طمعاً في جنته، لأن ادخاله الجنة، وهذي هي الحال،
نقض للغرض المطلوب!. وعليه يكون غير الطامع أسوأ حالاً من الطامع.. ولا أدري من أي
نوع هذا المنطق!.
أنواع الجزاء
للجزاء أنواع نذكر منها ما يلي:
1 ـ الجزاء الأخلاقي أو الوجداني، والمراد به شعور الفاعل بالغبطة والارتياح
لفعل ما يعتقده خيراً وصلاحاً، وبالحسرة والكآبة لفعل ما يعتقده شراً وفساداً،
وبديهي أن هذا الشعور يختص بالذين يتميزون بالنبل والإنسانية، ويحبون الخير وأهله
لوجه الخير، وينتكرون للشر وفاعله لأنه شر، أما الذين لا يفرقون بين حلال وحرام،
ولا وزن عندهم إلا لما يدخل في جيوبهم وبطونهم ـ فيسخرون من الضمير ووحيه، ويسمون
من يتحدث عنه أو باسمه، خرافياً ورجعياً.
وقال هؤلاء: ان الشعور بالتأنيب على الذنب قد يحدث، ولكنه لم ينبع من داخل المذنب
واعماقه، بل تسرب اليه من محيطه وبيئته وثقافته وتربيته.
ونحن لا نشك في أن للمحيط والتربية أثرهما الملموس، ومع ذلك نؤمن بالحياة الشعورية
المستقلة ووجود الذات الغيرية التي تُؤْثر غيرها على نفسها، والذات اللا أخلاقية
الأنانية، وانهما طبيعة ومزاج تماماً كالخبث والنبل، والجبن والشجاعة، والبلادة
والذكاء، والعجلة والأناة، والحلم والنزق، وقوة الإرادة وضعفها، والجمود والأريحية..
إلى ذلك من اشكال بني آدم وبنات حواء، قال سبحانه: (قل كلّ يعمل على شاكلته) (84 ـ
الإسراء) وقال نبيه الأكرم: ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة.. تخيروا لنُطّفكم)).
ونشرت مجلة عالم الفكر الكويتية في العدد 3 من المجلد 5 مقالاً قيماً وشيقاً،
بعنوان الجريمة والمجرم، جاء فيه: ((اندفع أطباء أوربا يبحثون عن نموذج الإنسان
المجرم، وفحصوا كل جزء من اجزاء الجسم، وقوة السمع والشم والأبصار... وقدرة المجرم
العقلية والنفسية والمزاجية... وطلعوا بعشرات الفرضيات، وكانت جميعها تقف على أرضية
واحدة هي أن المجرم يتميز بصفات عن سواه)).
وبعد صفحات من هذا المقطع قال الكاتب: ظن كثيرون أن للوراثة علاقة بالسلوك الإجرامي..
وقالوا: حين يكون أحد التوأمين مجرماً لا بد أن يكون التوأم الآخر كذلك، ولكن سرعان
ما ظهر ضعف قيمة دراساتهم من الناحية العلمية.
وبعد، فقد انتهينا من هذه الأقوال وغيرها في الجريمة والمجرم ومن المشاهدات الحسية،
إلى أن المجرمين على أنواع: منهم مجرم عدواني شرير بذاته وجبلته، ومنهم محترف قد
اتخذ الجريمة مهنة وصنعة، وثالث لا ذا ولا ذاك، بل تأثر بالظروف والحاجة الملحة.
والأول لا أمل في اصلاحه إلا بمعجزة، والثاني ربما ولعل الله يحدث بعد ذلك أمراً،
ودواء الثالث عمل يسد به حاجته، وينتهي كل شيء.
وعلى كل حال فان جزاء الضمير لا يصلح كمبدأ عام وقاعدة كلية ما دام هناك من يحيا
بغير ضمير، يضاف إلى ذلك أن الضمير سلطان بلا عدة.
2 ـ الجزاء القانوني والقانون (مجموعة من القواعد العامة الملزمة تنظم سلوك الأفراد
في المجتمع) وهو يعاقب المسيء، ولا يثيب المحسن لأنه يستهدف الردع والتحذير من
ارتكاب الجرائم.. هذا إلى أن القانون لا ينص على عقوبة الكذب والنفاق والغيبة وعقوق
الوالدين وينص صراحة على أنه لا عقوبة بلا نص، وهذا تعبير ثان عن قولنا نحن
الأصوليين: لا عقاب بلا بيان.. وبعض القوانين تحمي الزنا واللواط والمتضاجعين علناً
في الحدائق العامة ـ باسم حرية الإنسانية وتصرفاته، وفي نفس الوقت تحمي أقطاب
التفرقة العنصرية وابطالها والأفراد الذين يستغلون الجماعة وينهبون أقوات الشعوب
وثرواتها، تحمي هؤلاء وتعاقب من يسير بسيارته أكثر من السرعة المسموح بها، أو يضيء
نورها المبهر الذي يغلب البصر وإن لم يُلحق ضرراً بأحد!.
ومن القواعد الأساسية في القانون أنه يُطبق على جميع الأفراد دون استثناء بمجرد
نشره في الجريدة الرسمية، ولا يُعذر أحد بجهله، والمبرر لذلك أولا استقرار القانون
واطراده من غير توقف على بحث العروض الطارئة على الأفراد الذين لم يتوفر لهم العلم
بالقانون. ثانياً ان العلم بالقانون بعد نشره سهل يسير على كل طالب وراغب.
ويتفق هذا مع الفقه الإسلامي في الأحكام الوضعية بالخصوص كعدم صحة البيع والطلاق
إذا لم تتوافر فيهما الشروط المقررة، فقد أفتى الفقهاء المسلمون بالفساد في هذه
الحال حتى ولو كان الجهل عن قصور لا عن تقصير.
3 ـ الجزاء الاجتماعي، والمراد به هنا حب الناس وولاؤهم وتقديرهم واحترامهم لمن
يعمل لخدمة الإنسانية جمعاء أو لخدمة بلده وأبناء وطنه، أما من أساء وخادع وراوغ
فجزاؤه عندهم السخط والمقت والازدراء والاحتقار، وقد يتحول السخط إلى ثورة دامية.
وكل رئيس وزعيم لا يثق بنفسه يظهر أمام الناس بمظهر زائف ومخالف لحقيقته وواقعه،
وأهل الحاجات بدورهم يظهرون أمامه بمظهر زائف ومخالف، فيصفقون له ويهتفون كذباً
ورياء. وليس هذا حباً واحتراماً كي يسمى جزاء وثواباً، بل ضلالا واحتيالا، قال
فيلسوف صيني: كلما زاد عدد المصفقين والهاتفين زاد عدد الدجالين والمنافقين.
والإسلام لا يقبل للفاسق شهادة، ولا يأتمنه على أي عمل وشأن من شئون المسلمين،
وأسقطه عن الاعتبار إذا أعلن الفسق وجهر به حيث أباح الإسلام غيبته والتشهير به،
قال الإمام الصادق: إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة. وقال رسول
الله(صلى الله عليه وآله): إذا رأيتم أهل البدع من بعدي فاظهروا البراءة منهم. وقال الإمام
الصادق(عليه السلام): ((لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم، فتصيروا كواحد منهم)) ومصدر هذا
القول الآية 140 من النساء التي جاء فيها (انكم إذن مثلهم) ومعنى هذا أن الساكت على
أية جريمة شريك فيها، وفي نهج البلاغة: الوفاء لأهل الغدر غدر، والغدر بأهل الغدر
وفاء. وفي كتب الحديث: العامل بالظلم، والمعين له، والراضي به شركاء.
4 ـ الجزاء الألهي، وهو الأصل والأساس، وما عداه ظل زائل تماماً كوجبة من طعام إن
كان ثواباً، أو كضربة أو كلمة مؤلمة إن يك عقاباً، أما ثواب الله غداً فباق ببقائه،
وقد أخبر سبحانه عن عذابه بقوله: (وان عذابي هو العذاب الأليم) (50 ـ الحجر)
وبالحكمة والعدالة الإلهية والفطرة الصافية النقية اكتشفنا الجزاء الإلهي، وبلسان
هذه الفطرة نطق افلاطون حين قال: ((لو لم يكن لنا معاد نرجو فيه الخيرات لكانت
الدنيا فرصة الأشرار، وكان القرد أفضل من الإنسان)).
وأكد سبحانه هذا المعنى الذي يختلج في كل قلب وإن ذهلت عنه بعض النفوس، وكرره في
العديد من آياته، منها: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً
يره) (8 ـ الزلزلة).. (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) (60 الرحمن).. وجزاء سيئة سيئة
مثلها ـ 40 الشورى). وليس من شك أن العقاب على المعصية حق وعدل، ولكن هل الثواب من
الله سبحانه على الطاعة استحقاق أو فضل؟.