الاِنسانُ والاِختيار
أصول الشيعة
إنّ اختيار الاِنسان، وحريّة إرادته، حقيقة مسلّمةٌ وواضحةٌ، وفي مقدور كلّ أحَدٍ أن يُدركَه، ويقف عليه من طُرُقٍ مختلِفةٍ نشير إليها فيما يأتي:
عدد الزوار: 174
الاَصلُ الواحدُ والخمسون: الاختيار حقيقة مسلّمة
إنّ اختيار الاِنسان، وحريّة إرادته، حقيقة مسلّمةٌ وواضحةٌ، وفي مقدور كلّ أحَدٍ
أن يُدركَه، ويقف عليه من طُرُقٍ مختلِفةٍ نشير إليها فيما يأتي:
ألف: إنّ وجدان كُلّ شخص يشهَد بأنّه قادرٌ ـ في قراراته ـ على أن يختارَ أحدَ
الطرفين: الفعلَ أو التركَ، ولو أنّ أحداً تردّد في هذا الاِدراك البديهي وجب أن لا
يقبل أيَّة حقيقةٍ بديهيةٍ أيضاً.
ب: إنَّ المدحَ والقدحَ للاَشخاص المختلفين في كلّ المجتمعات البشرية الدينيّة وغير
الدينيّة، علامةٌ على أَن المادحَ أو القادحَ اعتبر الممدوح، أو المقدوحَ فيه،
مختاراً في فعلهِ، وإلاّ لَما كانَ المدحُ والقدح منطقياً، ولا مُبرَّراً.
ج: إذا تَجاهَلنا اختيارَ الاِنسان وحرّية إرادته، كان التشريعُ أمْراً لَغواً وغيرَ
مفيد أيضاً، لاَنّ الاِنسانَ إذا كان مضطراً على سلوك دون اختياره، بحيث لا يمكنه
تجاوزه، والخروجَ عنه، لم يكن للاَمرِ والنهي والوَعد والوعيد، ولا الثواب والعقاب
أيُّ مَعنى.
د: نَحنُ نرى طوالَ التاريخ البشري أشخاصاً أقدَموا على إصلاح الفردِ، أو المجتمع
البشري وبذَلوا جهوداً في هذا السبيل فَحَصَلُوا على نتائجها وثمارها.
إنّ مِنَ البَدِيهي أنّ تحقّق هذه النتائج لا يتناسب مع كون الاِنسان مجبوراً،
لاَنّه مع هذا الفَرض تكونُ كلُ تلك الجهود لاغيةً وغيرَ منتجة.
إنَّ هذه الشواهدَ الاَربعةَ تؤكّدُ مبدأَ الاختيار، وحرية الاِرادة، وتجعله حقيقة
لا تقبل الشك والترديد.
على أنّنا يجب أن لا نستنتج من مبدأ حرية الاِنسان وكونه مختاراً أن الاِنسان متروكٌ
لحالهِ، وأن إرادته مطلقةُ العنان، وأنّه ليس لله أيّ تأثيرٍ في فعله، لاَنّ مثل
هذه العقيدة التي تعني التفويض تنافي أصل احتياج الاِنسان الدائم إلى الله، كما أنّ
ذلك يحدّد دائرةَ القُدرة والخالقية الاِلَهيّتين، ويقيّدهما، بل حقيقة الاَمر هي
على النحو الذي سيأتي بيانهُ في الاَصل التالي.
الاَصلُ الثاني والخَمسون: لاجبر ولاتفويض بل أمر بين أمرين
بعد وَفاة النبيّ الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) طُرحَت مسائل خاصّة في المجتمع
الاِسلامي منها مسألة كيفية صدورِ الفِعل من الاِنسان.
فقد ذَهَبَ فريق إلى اختيار عقيدةِ الجبر، وقالوا بأنَّ الاِنسان فاعلٌ مجبور،
مسيَّر.
وفي المقابل ذَهَبَ فريقٌ آخر إلى اختيار نظرية مخالفة، وقالوا إنّ الاِنسانَ كائن
متروكٌ لحاله، مفوّضٌ إليه، وأنّ أفعاله لا تستند إلى الله مطلقاً.
إنّ كلا الفريقين تصوّرا ـ في الحقيقة ـ أنّ الفِعل إمّا أنّه يجب أن يستند إلى
الاِنسان، أو يستند إلى الله، أي إمّا أن تكون القدرة البشرية لوحدها هي المؤثرة،
وإمّا أن تكون القدرةُ الاِلَهيّة هي المؤثّرةُ، ليس إلاّ.
في حين هناك طريق ثالث أرشدنا إليه الاَئمة المعصومون.
يقول الاِمامُ جعفر الصادق (عليه السلام): «لا جَبْرَ ولا تفويضَ، ولكن أمرٌ بَين
الاَمرين»1.
يعني أنّ فعل الاِنسان في حال كونه مستنداً إلى العبد، مستند إلى الله أيضاً، لاَنّ
الفعلَ صادرٌ مِن الفاعل، وفي نفس الوقت يكون الفاعلُ وقدرتهُ مخلوقين لله، فكيف
يمكن أن ينقطع عن الله تعالى؟
إنّ طريقة أهل البيت: في بيان حقيقة الفعل البشريّ تتطابق تماماً مع ما جاء في
القرآن الكريم.
فإنّ هذا الكتاب السماوي ربّما نَسَب فِعلاً ـ مع نِسبَتِه وإسناده إلى فاعلهـ إلى
الله تعالى أيضاً، يعني أنه يقبل كِلا الاِسنادين وكلتا النِسبتين، إذ يقول: (وما
رَمَيْت إذ رَمَيْتَ ولكنَّ اللهَ رَمى)2
والمراد هو أنّ النبيَّ الاَكرمَ (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما قام بفعل لم
يفعَلْه بنفسه، بل فَعَله بالقُدرةِ الاِلَهيّة، وعلى هذا الاَساس تصحّ كلتا
النسبتين.
الاَصلُ الثالثُ والخمسون: لاتنافي بين علم الله الاَزلي وحرية الاِنسان
نحن مع إعتقادنا باختيار الاِنسان، وحريّة إرادته، نعتقد انّ اللهَ كان عالماً
بفعلنا من الاَوّل، ولا منافاة بين العقيدتين، فإنّ على الذين لا يمكنُهم الجمعُ
بين هذين الاعتقادين أنّ يعلموا بأنَّ عِلم الله الاَزليّ تعلَّقَ بصُدُور الفِعلِ
مِن الاِنسانِ على نحو الاِختيار، ومِن الطبيعيّ أن لا يتَنافى مِثلُ هذا العلم مع
حريّة الاِنسان وكونهِ مختاراً.
وبعبارةٍ أُخرى؛ إنّ العلم الاِلَهيّ كما تعلّق بأصلِ صُدُور الفِعل مِنَ الاِنسان
تعلّقكذلك بِكيفيّة صُدُور الفِعل عنه (وهو اختيار الاِنسان وانتخابه بنفسه).
إنّ مثل هذا العِلم الاََزَليّ ليس فقط لا يتنافى مع اختيار الاِنسانِ بل يُثبتُ
ذلك، ويؤكّدُهُ، لاَنّ الفعلَ إذا لم يصدُر من إختيار الاِنسانِ لم يكن علمُ اللهِ
آنذاك كاشفاً عن الواقع، لاَنّ كاشفيّة العلمِ إنّما تكون إذا تحقّقت على النحو
الّذي تعلّق بالشيء. ومن الطبيعيّ انّ العلمَ الاِلَهيّ تعلّق بصدورِ الفِعل البشريِّ
على النحو الاختياريّ، يعني أن يقوم الاِنسانُ بهذا العَمَل بصورةٍ حرّة وباختياره
وإرادته، ففي هذه الصورة يجب أن يقع الفعل ويتحقّق بهذه الخصوصية، لا على نحو الجبر
والاِضطرار.
مِن هذا البَيان اتّضَحَ عدمُ تنافي إرادة اللهِ الاَزليّة مع اختيار الاِنسان،
وكونه حرّاً في إرادته.
1- التوحيد للصدوق: الباب 59
الحديث 8.
2- الانفال | 17.