التوحيد
آيات التوحيد
ترتكز الأديان السماوية كلها على أصول ثلاثة: التوحيد ، والنبوة ،والبعث ، وما من نبي من آدم إلى محمد ( صلى الله عليه واله ) إلا وتقوم دعوته على هذه الأصول
عدد الزوار: 263
ترتكز الأديان السماوية كلها على أصول ثلاثة: التوحيد ، والنبوة ،والبعث ، وما من
نبي من آدم إلى محمد ( صلى الله عليه واله ) إلا وتقوم دعوته على هذه الأصول ، وما
عداها يتفرع عنها ، فعدالة اللَّه وقدرته وحكمته فرع عن التوحيد ، والإمامة والقرآن
فرع عن النبوة ، والحساب والجنة والنار فرع عن البعث .
وابتدأ القرآن الكريم بالأصل الأول ، وأرشد إلى دلائله ، لأنه الأساس ، وخاطب الناس
بقوله : ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: 21] الخ . . وبديهة ان
عبادته تستدعي معرفته أولا بطريق القطع والجزم ، لا بطريق التخمين والظن (1) لأن
الظن لا يغني عن الحق شيئا بشهادة القرآن نفسه . فما هو الطريق الذي يؤدي قطعا إلى
معرفة اللَّه جل وعلا ؟
لقد اختلف العلماء في نوعية هذا الطريق ، وقرره كل بما رآه صوابا . . فمنهم من
اعتمد على الدليل الكوني ، وأورده على هذه الصورة : ان الطبيعة وحوادثها المتكررة
المتجددة تتطلب وجود علة لها ، ولا يصح أن تكون العلة هي الطبيعة نفسها ، وإلا لزم
أن يكون الشيء علة ومعلولا في آن واحد ، وهذا هو الدور الباطل الذي أوضحناه في
الفقرة السابقة ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾ [البقرة: 4] ، وان كانت
العلة خارجة عن الطبيعة نقلنا إليها الكلام وسألنا : هل هي نتيجة لعلة سابقة ، أو
انها وجدت لذاتها من غير علة ، وعلى الأول يأتي الكلام والسؤال عن كل علة سابقة ،
وهكذا دواليك . . وهذا هو التسلسل المحال ، فتعين الثاني ، أي وجود علة بذاتها ،
واليها تنتهي جميع العلل ، ولا تنتهي هي إلى غيرها ، وهي كلمة اللَّه ، وقوله للشيء
كن فيكون .
- ملحوظة - هذا الدليل يقوم على التسليم بنظرية العلية ، وهي ان كل أثر يستلزم
مؤثرا ، وكل معلول لا بد له من علة ، تماما كالعلم يستدعي وجود العالم ، والكتابة
وجود الكاتب (2) .
ولكي تتضح لديك فكرة التسلسل وبطلانها ، ووجوب الانتهاء إلى علة لا علة لها نضرب
إليك مثلا من هذه التصاميم التي يضعها المهندسون للطائرات والسيارات ، وغيرها من
الآلات والبنايات فإنها جميعا لا بد أن تنتهي إلى المخترع الأول الذي وضع التصميم
من تلقائه ، يأخذ الغير منه ، ولم يأخذه هو من أحد ، ولو افترض انه لا مخترع أول
للتصميم لزم أن لا يوجد اختراع ولا شيء يمت إلى التصميم على الإطلاق .
وعلى هذا فليس لأحد أن يقول ويسأل : ممن أخذ المخترع الأول هذا التصميم ، لأن معنى
مخترع انه لم يتلق من الغير ، وهذه الحقيقة تدل على صحتها بنفسها ، تماما كما تدل
الشمس على ضوئها . . وهكذا الحال بالنسبة إلى الخالق
والرازق ، فان معناه انه يخلق ، ولم يخلق ، ويرزق ، ولم يرزق . . لذا كان ليبنتز
يسمي اللَّه المهندس ، أي المخترع ، وأفلاطون يسميه الصانع ، إشارة إلى أنه خالق
غير مخلوق .
ومنهم من استدل على وجود اللَّه بنظام العالم وتنسيقه واطراد هذا النظام والتنسيق ،
ويسمى هذا الدليل بالدليل الغائي .
- ملحوظة - يرى الكثير من علماء الطبيعة الجدد أن ظواهر الطبيعة لا يجوز تفسيرها
بالعلة الغائية ، بل يتحتم تفسيرها بالعلة الفاعلية .
والجواب : انّا نستكشف وجود العلة الفاعلية من وجود العلة الغائية ، تماما كما
نستكشف من ترتيب السرير ترتيبا هندسيا وجود النجار الخبير . ويتضح الجواب أكثر من
تقرير الفرض الضروري فيما يلي :
ومنهم من اعتمد الفرض الضروري الذي يعتمده علماء الطبيعة وغيرهم في اكتشاف العديد
من الحقائق ، ومن هذا الفرض نظرة الجاذبية التي اكتشفها نيوتن من سقوط التفاحة على
الأرض . . فان جميع الافتراضات غير الجاذبية خاطئة ، وافتراض الجاذبية صحيح ، ومن
هنا جزم نيوتن بوجودها .
أما تطبيق هذا الدليل على ما نحن فيه فهو انّا نشاهد نظام العالم وتماسكه واطراده ،
وكل ما نفترضه لوجود هذا النظام غير الخالق الحكيم فهو فرض فاسد يرفضه العقل ، ولا
يتقبل العقل إلا وجود خالق حكيم هو الذي نظَّم ورتب ، واليك هذا المثال :
إذا رأيت اسمك مكتوبا في الفضاء بأحرف من نور ، ثم بحثت في كل جهة فلم تر أحدا ،
فلا بد ان تفترض ان إنسانا عاقلا يوجد في مكان ما يملك آلة يستطيع بواسطتها أن يرسم
أحرفا في الفضاء من نور متماسكة منسجمة . . وأي فرض غير هذا ، كالصدفة ، أو اصطدام
سيارتين ، أو وجود بركان ، كل ذلك وما إليه يجرك إلى الخطأ ، وعلى الأقل لا يركن
إليه عقلك الا إذا افترضت وجود الشخص الذي يملك الآلة . . وهكذا الحال بالنسبة إلى
نظام الكون .
وأخطر كلمة وأوضحها كلمة « فولتر » ، حيث يقول : « ان فكرة وجود اللَّه فرض ضروري ،
لأن الفكرة المضادة حماقات » . وقرأت في كتاب الظاهرة القرآنية ص 91 طبعة 1958 : «
ان نوعا من النمل في أمريكا يغادر مساكنه قبل اندلاع الحريق فيها بليلة » . ومهما
فرضت لذلك من الفروض والتفاسير فلا تركن النفس أبدا الا بفرض وجود مدبر حكيم أعطى
لكل نفس هداها .
ومنهم من يعتمد البرهان الخلقي ، ويقول : لو لا الايمان بوجود اللَّه لانهارت
المقاييس الخلقية ، ولم يكن من رادع يردع الناس عن الشر ، ولا وازع يبعثهم على عمل
الخير .
وهذا الدليل في واقعه أقرب إلى انكار الخالق من الاعتراف به ، إذ يكون الايمان
باللَّه ، والحال هذه ، وسيلة لا غاية ، بحيث لو افترض وجود انسان يفعل من تلقائه
ما ينبغي فعله ، ويترك ما ينبغي تركه لما وجب عليه الايمان باللَّه . .
وليس من شك ان جعل اللَّه أداة أقبح من إنكاره .
ومنهم من يعتمد الدليل اللدني ، وهو الشعور والاحساس القلبي مباشرة ، ويقول : ان
قلب الإنسان يدرك وجود الخالق مباشرة من غير براهين ، ومقدمات ، تماما كما يحس الحب
والبغض ، وتقدم الكلام عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية 3 ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِالْغَيْبِ﴾ فقرة المعرفة ، رقم 4 .
وأفضل الطرق كلها هو الطريق الذي استدل به اللَّه سبحانه على وجوده ، ويتلخص بالنظر
والتفكير في خلق السماوات والأرض ، وفي الإنسان والموت والحياة ، والنعم الجلَّى ،
وما إلى ذاك مما جاء في القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، ونهج البلاغة .
وهذا الطريق ، وان رجع في حقيقته إلى الدليل الكوني والغائي الا أن تقريره في هذا
الأسلوب يبعده عن التكلف والتعسف ، ويقربه إلى افهام الخواص والعوام . .
ومن لا يقتنع من اللَّه سبحانه بما أورده هو جل وعلا من الأدلة على وجوده ، فهل
يقتنع من عبد مثله ؟ .
وغريبة الغرائب ان الجاحد يؤمن ويعتقد بأن القميص الذي يلبسه - مثلا - قد زرع بذره
الفلاح بانتظام ، ثم غزله وحاكه العامل بإتقان ، ثم باعه التاجر بمعرفة ، ثم فصّله
وخاطه الخياط على القدر المطلوب ، انه يعتقد بهذا كله ، ثم لا يعتقد بوجود من اتقن
وصنع كل شيء ؟ .
وبالإضافة إلى الأدلة على وجود اللَّه التي تدخل تحت ضابط عام ، وقاعدة كلية ، فإنه
سبحانه قد أعطى كل انسان دليلا خاصا به وحده على وجوده جل وعز لا يشاركه فيه سواه ،
فما من انسان أيا كان إذا رجع إلى ما مر به من حوادث وتجارب ، وتأملها بإمعان إلا
ويجد في حياته أشياء لا تفسير لها إلا إرادة اللَّه ومشيئته .
واني أستبعد كل البعد أن يعيش انسان ، أي انسان ، ولو كان كافرا ، يعيش حينا من
الدهر دون أن تمر لحظة واحدة في حياته ، ولا يرجع فيها إلى اللَّه تلقائيا ومن غير
قصد وشعور ، وإلى من يتجه في أحلك لحظات الشدة ؟
انه من غير شك يعود إلى فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها ، وطبعت كل مولود بطابعها
، حيث لا أب يعلمه ، ولا أم تلقنه ، ولا محيط يكيفه .
قال زنديق للإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) : ما الدليل على وجود الصانع ؟
قال الإمام : لو ركبت البحر ، وهاجت الرياح ، وغرقت السفينة والملاحون ، وبقيت أنت
حيا ، فهل ترجو النجاة لنفسك ؟
قال الزنديق : أجل .
قال الإمام : ان الصانع هو الذي ترجوه آنذاك .
وبالتالي ، فاني أنصح من يشك في وجود اللَّه أن يقرأ أدلة الجاحدين والماديين ،
فإنه سينتهي حتما إلى الإيمان باللَّه ، إذ لا يجد دليلا على انكارهم إلا انهم
يريدون ان يروا اللَّه بالعين ، ويلمسوه باليد ، ويشموه بالأنف .
وقد ذكرت الكثير الكثير من أدلة هذا الباب في كتاب « اللَّه والعقل » .
وكتاب « فلسفة المبدأ والمعاد » الذي وضعته خاصة للرد على الفلسفة المادية ، وكتاب
« بين اللَّه والإنسان » . وكتاب « معالم الفلسفة » . وكتاب « الإسلام مع الحياة »
وكتاب « إمامة علي والعقل »(3) . وغير هذه المؤلفات من الكتب والمقالات . . واللَّه
سبحانه المسؤول أن يطهر نفوسنا من الشك والريب ، وأن يشملها بتوفيقه ورضوانه .
وأطلنا الكلام في الأصل الأول ، وهو التوحيد ، ليكون كالضابط العام الذي يرجع إليه
في كل ما يتصل به من الآيات .
المؤلف: محمد جواد مغنية، الكتاب أو المصدر: تفسير الكاشف، الجزء والصفحة : ج1/ ص59ـ64
2016-02-02