يتم التحميل...

أثر الربا

المسلك القرآني

أن لا هم للإنسان في حياته إلا أن يأتي بما يأتي من أعماله لاقتناء كمالاته الوجودية، وبعبارة أخرى لرفع حوائجه المادية، فهو يعمل عملا متعلقا بالمادة بوجه، ويرفع به حاجته الحيوية،

عدد الزوار: 173

أن لا هم للإنسان في حياته إلا أن يأتي بما يأتي من أعماله لاقتناء كمالاته الوجودية، وبعبارة أخرى لرفع حوائجه المادية، فهو يعمل عملا متعلقا بالمادة بوجه، ويرفع به حاجته الحيوية، فهو مالك لعمله وما عمله والعمل في هذا الباب أعم من الفعل والانفعال وكان نسبة ورابطة يرتب عليه الأثر عند أهل الاجتماع أي أنه يخص ما عمل فيه من المادة لنفسه، ويعده ملكا جائز التصرف لشخصه، والعقلاء من أهل الاجتماع يجيزون له ذلك فافهم.

لكنه لما كان لا يسعه أن يرفع جميع حوائجه بعمل نفسه وحدة دعي ذلك إلى الاجتماع التعاوني وأن ينتفع كل بعمل غيره وما حازه وملكه غيره بعمله، فأدى ذلك إلى المعاوضة بينهم، واستقر ذلك بأن يعمل الإنسان في باب واحد وفي أبواب معدودة من أبواب العمل ويملك بذلك أشياء ثم يأخذ مقدار ما يرفع به حاجته، ويعوض ما يزيد على حاجته مما ليس عنده من مال الغير، وهذا أصل المعاملة والمعاوضة.

غير أن التباين التام بين الأموال والأمتعة من حيث النوع، ومن حيث شدة الحاجة وضعفها، ومن حيث كثرة الوجود وقلته يولد الإشكال في المعاوضة، فإن الفاكهة لغرض الأكل، والحمار لغرض الحمل، والماء لغرض الشرب، والجوهرة الثمينة للتقلد والتختم مثلا لها أوزان وقيم مختلفة في حاجة الحياة، ونسب مختلفة لبعضها إلى بعض.

فمست الحاجة إلى اعتبار القيمة بوضع الفلوس والدرهم والدينار، وكان الأصل في وضعه: أنهم جعلوا شيئا من الأمتعة العزيزة الوجود كالذهب مثلا أصلا يرجع إليه بقية الأمتعة والسلعات فكان كالواحد التام من النوع يجعل مقياسا لبقية أفراده كالمثاقيل والمكائيل وغيرهما، فكان الواحد من وجه النقد يقدر به القيمة العامة ويقوم به كل شيء من الأمتعة فيتعين به نسبة كل واحد منها بالنسبة إليه ونسبة بعضها إلى بعض.

ثم إنهم لتعميم الفائدة وضعوا آحاد المقاييس للأشياء كواحد الطول من الذراع ونحوه، وواحد الحجم وهو الكيل، وواحد الثقل والوزن كالمن ونحوه، وعند ذلك تعينت النسب وارتفع اللبس، وبان مثلا أن القيراط من الألماس يعدل أربعة من الدنانير والمن من دقيق الحنطة عشر دينار واحد، وتبين بذلك أن القيراط من الألماس يعدل أربعين منا من دقيق الحنطة مثلا وعلى هذا القياس.

ثم توسعوا في وضع نقود أخر من أجناس شتى نفيسة ورخيصة للتسهيل والتوسعة كنقود الفضة والنحاس والبرنز والورق والنوط على ما يشرحه كتب الاقتصاد.

ثم افتتح باب الكسب والتجارة بعد رواج البيع والشراء بأن تعين البعض من الأفراد بتخصيص عمله وشغله بالتعويض وتبديل نوع من المتاع بنوع آخر لابتغاء الربح الذي هو نوع زيادة فيما يأخذه قبال ما يعطيه من المتاع.

فهذه أعمال قدمها الإنسان بين يديه لرفع حوائجه في الحياة، واستقر الأمر بالآخرة على أن الحاجة العمومية كأنها عكفت على باب الدرهم والدينار، فكان وجه القيمة كأنه هو المال كله، وكأنه كل متاع يحتاج إليه الإنسان لأنه الذي يقدر الإنسان بالحصول عليه على الحصول بكل ما يريده ويحتاج إليه مما يتمتع به في الحياة، وربما جعل سلعة فاكتسب عليه كما يكتسب على سائر السلع والأمتعة وهو الصرف.

وقد ظهر بما مر: أن أصل المعاملة والمعاوضة قد استقر على تبديل متاع من متاع آخر مغاير له لمسيس الحاجة بالبدل منه كما في أصل المعاوضة، ولمسيس الحاجة إلى الربح الذي هو زيادة في المبدل منه من حيث القيمة، وهذا أعني المغايرة هو الأصل الذي يعتمد عليه حياة المجتمع، وأما المعاملة بتبديل السلعة من ما يماثله في النوع وما يماثله مثلا فإن كان من غير زيادة كقرض المثل بالمثل مثلا فربما اعتبره العقلاء لمسيس الحاجة به وهو مما يقيم أود الاجتماع، ويرفع حاجة المحتاج ولا فساد يترتب عليه، وإن كان مع زيادة في المبدل منه وهي الربح فذلك هو الربا، فلننظر ما ذا نتيجة الربا؟ الربا - ونعني به تبديل المثل بالمثل وزيادة كإعطاء عشرة إلى أجل، وإعطاء سلعة بعشرة إلى أجل وأخذ اثنتي عشرة عند حلول الأجل وما أشبه ذلك - إنما يكون عند اضطرار المشتري والمقترض إلى ما يأخذه بالإعسار والإعواز بأن يزيد قدر حاجته على قدر ما يكتسبه من المال كأن يكتسب ليومه في أوسط حاله عشرة وهو يحتاج إلى عشرين فيقرض العشر الباقي باثني عشر لغد ولازمه أن له في غده ثمانية وهو يحتاج إلى عشرين، فيشرع من هناك معدل معيشته وحياته في الانمحاق والانتقاص ولا يلبث زمانا طويلا حتى تفنى تمام ما يكتسبه ويبقى تمام ما يقترضه، فيطالب بالعشرين وليس له ولا واحد 20 - 0 = المال وهو الهلاك وفناء السعي في الحياة.

وأما المرابي فيجتمع عنده العشرة التي لنفسه والعشرة التي للمقترض، وذلك تمام العشرين، فيجتمع جميع المالين في جانب ويخلو الجانب الآخر من المال، وليس إلا لكون الزيادة مأخوذة من غير عوض مالي، فالربا يؤدي إلى فناء طبقة المعسرين وانجرار المال إلى طبقة الموسرين، ويؤدي ذلك إلى تأمر المثرين من المرابين، وتحكمهم في أموال الناس وأعراضهم ونفوسهم في سبيل جميع ما يشتهون ويتهوسون لما في الإنسان من قريحة التعالي والاستخدام، وإلى دفاع أولئك المستخدمين المستذلين عن أنفسهم فيما وقعوا فيه من مر الحياة بكل ما يستطيعونه من طرق الدفاع والانتقام، وهذا هو الهرج والمرج وفساد النظام الذي فيه هلاك الإنسانية وفناء المدنية.

هذا مع ما يتفق عليه كثيرا من ذهاب المال الربوي من رأس فما كل مدين تراكمت عليه القروض يقدر على أداء ديونه ويريد ذلك.

هذا في الربا المتداول بين الأغنياء وأهل العسرة، وأما الذي بين غيرهم كالربا التجاري الذي يجري عليه أمر البنوك وغيرها كالربا على القرض والاتجار به فأقل ما فيه أنه يوجب انجرار المال تدريجا إلى المال الموضوع للربا من جانب، ويوجب ازدياد رءوس أموال التجارة واقتدارها أزيد مما هي عليها بحسب الواقع، ووقوع التطاول بينها وأكل بعضها، بعضا وانهضام بعضها في بعض، وفناء كل في ما هو أقوى منه فلا يزال يزيد في عدد المحتاجين بالإعسار، ويجتمع الثروة بانحصارها عند الأقلين، وعاد المحذور الذي ذكرناه آنفا.

ولا يشك الباحث في مباحث الاقتصاد أن السبب الوحيد في شيوع الشيوعية، وتقدم مرام الاشتراك هو التراكم الفاحش في الثروة عند أفراد، وتقدمهم البارز في مزايا الحياة، وحرمان آخرين وهم الأكثرون من أوجب واجباتهم، وقد كانت الطبقة المقتدرة غروا هؤلاء الضعفاء بما قرعوا به أسماعهم من ألفاظ المدنية والعدالة والحرية والتساوي في حقوق الإنسانية، وكانوا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويعنون بها معاني هي في الحقيقة أضداد معانيها، وكانوا يحسبون أنها يسعدهم في ما يريدونه من الإتراف واستذلال الطبقة السافلة والتعالي عليهم، والتحكم المطلق بما شاءوا، وأنها الوسيلة الوحيدة لسعادتهم في الحياة لكنهم لم يلبثوا دون أن صار ما حسبوه لهم عليهم، ورجع كيدهم ومكرهم إلى أنفسهم، ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران: 54] وكان عاقبة الذين أساءوا السوآى، والله سبحانه أعلم بما تصير إليه هذه النشأة الإنسانية في مستقبل أيامها، ومن مفاسد الربا المشؤومة تسهيله الطريق إلى كنز الأموال، وحبس الألوف والملايين في مخازن البنوك عن الجريان في البيع والشرى، وجلوس قوم على أريكة البطالة والإتراف، وحرمان آخرين من المشروع الذي تهدي إليه الفطرة وهو اتكاء الإنسان في حياته على العمل، فلا يعيش بالعمل عدة لإترافهم، ولا يعيش به آخرون لحرمانهم.

2016-01-26